أرشيف الوسم: big picture

ثقافة الشطارة

حارة الإمان

سؤال يردده الكثيرون… لماذا لا نحترم القانون والنظام في بلادنا؟ لماذا في “الغرب” تحترم تلك النظم والقوانين ولدينا لا؟ هل هي نزعة “شر” مزروعة بداخلنا؟ هل ذلك يرجع لكوننا شعوبا “متخلفة” لم تصل للتقدم الحضاري الذي وصل له الآخرون؟ أم أن الآخرون أشد حزما بتطبيق القانون وفرضه على شعوبهم؟من خلال ملاحظتي وتفكري الطويل بمجتمعنا وسلوكياته لا أظن إطلاقا بأن عدم احترامنا للنظم والقوانين يرجع لكوننا أشرارا أو سيئين أو منحرفين، وهو أيضا أمر ليس له علاقة بالوازع الديني لدينا كما قد يعتقد البعض، فالتدين موجود ومنتشر ونرى دلائله في كل مكان حولنا، وحتى التناقض بين التدين وانحراف السلوك لا يمثل دليلا على نفاق بداخلنا، كما أنه لا داع لذكر أن بعض الشعوب التي لا تعترف بالدين أساسا لديهم التزام بالقانون أكثر منا، فباعتقادي ومن خلال ملاحظتي أرى بأن عدم احترام النظام والقوانين لدينا ليس مرتبطا بالدين قدر ارتباطه بخلل ثقافي متفش لدينا.ذلك الخلل الثقافي لا ينتشر لدينا ككويتيين أو عرب فقط، بل منتشر في العديد من الدول التي كانت أو مازالت مغلوبة على أمرها ولم تطلها يد النهضة، ذلك الخلل الثقافي المسبب للاستهتار بالنظم والقوانين يرجع لانتشار ما أطلقت عليه اسم ثقافة الشطارة، فما هي هذه الثقافة؟

متابعة قراءة ثقافة الشطارة

قانون التجمعات… ببساطة

فيما يلي تلخيصا مبسطا لما يطلق عليه اسم “قانون التجمعات”، دفعتني لسرد هذا التلخيص رغبتي بأن يطلع عليه عموم الناس ليعلموا حقوقهم وواجباتهم.. وتلك من أهم الأسس الثقافية التي تؤمن للناس حياة خالية من المشاكل، أنا لم أدرس في كلية الحقوق ولست متخصصا بالقانون ولكني أنقل لكم ملخص قراءاتي في هذه المسألة.. والمجال مفتوح للنقاش.

نبذة تاريخية

ما يطلق عليه اسم “قانون التجمعات” كما هو سار اليوم عبارة عن مرسوم أميري صدر عام ١٩٧٩ خلال فترة حل مجلس الأمة (حل غير دستوري)، طبعا كان من المفترض أن يعرض هذا المرسوم على المجلس بعد انتخابه وانعقاده.. لكن لهذا الأمر لم يحدث للأسف (يمكن نسوا الشباب حزتها!)، وظلت أحكام هذا المرسوم المشين سارية حتى حكمت المحكمة الدستورية عام ٢٠٠٦ بعدم دستورية “بعض” مواد هذا المرسوم وأبطلتها، لذلك قانون التجمعات القائم اليوم إنما هو من مخلفات المرسوم شبه الملغى.

الفرق بين المرسوم القديم والجديد

دون الدخول بالتفاصيل القانونية المعقدة… المرسوم الأصلي قسم التجمعات إلى بابين:

الاجتماعات العامة

المواكب والمظاهرات والتجمعات

باختصار شديد… المواد المتعلقة بالاجتماعات العامة تم إلغاء معظمها (باستثناء المادة السابعة المتعلقة بآلية الترخيص)، أما المواد الخاصة بالمواكب والمسيرات والتجمعات (الباب الثاني) فمازالت سارية بالكامل بما في ذلك ما يتعلق بها من مواد الباب الأول.

الفرق بين الاجتماعات والتجمعات

الفرق بسيط:

الاجتماعات تكون بمكان خاص (ديوانية، بيت، مسجد، نادي (رياضي أو ثقافي)، شركة… الخ) على أن يكون الاجتماع متعلقا بنشاط المكان (يعني التجمع في النادي يكون للعب الكرة مثلا.. مو لأغراض أخرى)

التجمعات تكون بمكان عام (بالشوارع، الساحات، الأسواق… الخ) مع استثناء التجمعات المتوافقة مع عادات البلد (صلاة العيد مثلا، الأعراس، لعب كرة، تجمعات ساحة الإرادة (أعتقد)… الخ)

الاجتماعات مسموح بها دون تحفظ، أما التجمعات فهي ليست ممنوعة إطلاقا.. ولكن تحتاج إلى تصريح.

قد يتذكر البعض الإشكالية التي حدثت أثناء حادثة ديوان الحربش وطلب الشرطة من الناس إما دخول المنزل أو فض التجمع خارجه، النقطة المذكورة هنا هي أساس تلك الإشكالية.

تصريح التجمعات والمسيرات

نقطة هامة هي أن التصريح مطلوب فقط في حالة فاق عدد المشاركين بالتجمع ٢٠ شخصا، إن خرج للتجمع فردا واحدا أو عدد معدود من المتجمعين فلا حاجة للتصريح، طبعا قد يخالف التجمع الصغير قوانين أخرى كتعطيل المرور مثلا أو التسبب في إزعاج الناس أو تخريب ممتلكاتهم.. في هذه الحالة لا يجوز التجمع ليس مخالفة لقانون التجمعات بل لمخالفة الأعراف والقوانين السائدة الأخرى.

على خلاف ما هو شائع فإن الترخيص للتجمع أو المسيرة لا يطلب من وزارة الداخلية بل من المحافظ الذي سيتم التجمع ضمن دائرة اختصاصه، في حالة مرور المسيرة على أكثر من محافظة فإن التصريح يطلب من وزارة الداخلية، في حالة رفض الترخيص للمسيرة من قبل المحافظ فإنه يمكن للمنظمين رفع تظلم لوزير الداخلية (إي هيّن!).

يقدم طلب الترخيص موقعا من ثلاث إلى عشر مواطنين مقيدين بجداول الانتخاب موضحا فيه أسماؤهم ومهنهم وصفاتهم ومحل إقامة كل منهم ومكان وزمان إقامة التجمع والغرض منه وخط السير إن كان الطلب لمسيرة، كما تُعين للتجمع لجنة نظام من رئيس وعضوين على الأقل وظيفتها الحفاظ على النظام ومنع الخروج على القوانين أو الغرض من التجمع، يقدم الطلب قبل موعد التجمع بخمسة أيام على الأقل وإن لم يخطِر المحافظ المقدمين بالموافقة قبل الموعد بيومين يعتبر ذلك رفضا للترخيص، كما تمنع الدعوة إلى التجمع أو الإعلان عنه أو نشر أو إذاعة أنباء بشأنه قبل الحصول على ترخيص له.

شروط أخرى

التجمعات قبل الساعة ٨ صباحا أو بعد غروب الشمس ممنوعة.. إلا بإذن خاص من المحافظ، وبالطبع لا يجوز لأحد أن يشارك بالتجمع حاملا أي سلاح حتى لو كان مرخصا، ويشمل ذلك الأسلحة النارية أو البيضاء أو العصي أو الأدوات الصلبة أو الحادة (صخر، ليوَر، عجرة، رنج، لاندكروزر.. الخ). كما يمنع أثناء التجمع الخروج عن غرضه أو مخالفة الآداب أو إظهار الإساءة لسمعة الدولة وعروبتها أو المساس بالدول الشقيقة والصديقة أو التحريض على ارتكاب الجرائم أو الإخلال بالأمن العام.

يحق لرجال الشرطة حضور التجمع واختيار المكان الملائم لوجودهم وسيرهم، ويحق لهم تعديل خط المسيرة أو تحويله عند اللازم في حالة الاخلال بالأمن أو النظام أو تعطيل المرور، ويجوز لهم فضها في حالة الإخلال أو المخالفة أو حدوث جريمة أو مخالفة للآداب أو في حالة طلب لجنة النظام منهم ذلك.

الباب الثالث من القانون يتحدث عن العقوبات الواجبة في حالة مخالفة أي من المواد المذكورة أعلاه، ما راح أدخل بتفاصيلها لكنها تتراوح بين الحبس والغرامة للمخالفين أو لمنظمي المتجمع.

وعلى فكرة… يمنع مشاركة غير المواطنين في التجمعات والمسيرات (بما في ذلك البدون)! بتقول هاذي عنصرية… هذا هو القانون الذي ارتضيناه.

مقارنة أنجلوساكسونية

يبدو أن المقارنة بالانجليز أصبحت واحدة من عاداتي وتقاليدي الكتابية.. فسامحوني 🙂 الانجليز ليس لديهم دستور للاحتكام له في مثل هذه الحالات، ولكن لديهم قوانين عامة تنظم أمور حياتهم ولديهم قبل ذلك ثقافة قانونية اكتسبوها خلال مئات السنين من الممارسة الديموقراطية، لذلك تجد قوانينهم وتطبيقاتها متناسقة مع ما هو طبيعي ومنطقي دون عقد.

بداية، التجمعات في بريطانيا لا تحتاج لأي تصريح، أي شخص أو مجموعة أشخاص يمكنهم إمساك مايكروفون أو رفع لافتات تطالب أو تعارض هذا الأمر أو ذاك، لا يحق للشرطة أو غيرها منعهم من ذلك أو فض اجتماعهم إلا إن حدثت مخالفات جانبية كأعمال الفوضى أو التخريب أو استثارة للغير أو إن تسبب التجمع بتعطيل السير أو تعطيل مصالح الناس.

أما المسيرات فمسألة أخرى! كما هو الحال في الكويت فإن المسيرة ببريطانيا تحتاج لطلب كتابي لترخيصها يقدم لإدارة الشرطة المسؤولة قبل ٦ أيام من موعد المسيرة، يوضح بالكتاب موعد ووقت المسيرة وخط سيرها وأسماء منظميها وعناوينهم، وللشرطة كامل الحق بالرفض المسبب للمسيرة أو تقييد أو تغيير مسارها أو مكانها أو وقتها أو حتى وضع شروط خاصة بها مثل عدد المشاركين ونوعية اللافتات ووسائل التعبير التي يستخدمونها على أن يتم إخطار المنظمين بهذه الشروط كتابيا، في حالة تسبب المسيرة بخطر أو تهديد أمني خطير فإن من حق الشرطة اتخاذ كافة التدابير اللازمة لحفظ الأمن دون الحاجة للإخطار المسبق.

بما أن الانجليز يتعاملون مع روح القانون فإن التجمعات التي تتحول لمسيرات دون تخطيط مسبق لاتحتاج لتصريح.. ولكن يفضل عند حدوثها إبلاغ الشرطة بذلك بأسرع وقت ممكن من أجل توثيق الحدث وإخلاء المسؤولية، بالإضافة لذلك فإن المسيرات المتعارف عليها تقليديا لا تحتاج لتصريح مثل الجنازات أو الإحتفالات التقليدية أو المسيرات والمظاهرات المتكررة بوقت معروف، وهذا يدل على أن دور تصريح الشرطة في هذه الحالات تنظيمي أكثر من كونه رقابي، لكن في حالة الإخلال الفعلي بالقوانين فإن المتسببين بالخلل قد يتم إدانتهم سواء كانوا من المنظمين أو المشاركين.

نقطة أخرى يجب ذكرها أنه من حق الشرطة في لندن أن تعلن منع أي شكل من أشكال المسيرات في أي منطقة لمدة ثلاثة أشهر بمجرد إصدارها قرارا بالمنع، في خارج لندن يمكن للشرطة أن تطلب إصدار مثل هذا القرار من بلدية المنطقة، في هذه الحالة يمكن للبلدية أن ترفض أو توافق على الطلب ويمكن لمنظمي المسيرة الاعتراض – بالطرق القانونية – على قرار المنع إن تم.

عدالة القانون

كما ذكرت في موضوعي السابق فإن أدوات تعديل القوانين موجودة وسهلة الاستخدام مبدئيا، يعني القانون الظالم يعدل بقانون منصف إن أعاره ممثلو الشعب الأهمية اللازمة، القوانين التي على شاكلة قانون التجمعات تعتبر من عثرات الحرية التي نسعى لها وننادي بها، بالطبع فإن القانون ككل يعتبر أمرا تنظيميا هاما لمنع الفوضى والانفلات… ولكن بعض مواد هذا القانون معيبة برأيي وتحتاج لتعديل يناسب المبدأ العام للحرية والعدالة التي تسعى لها روح الدستور الذي ارتضيناه، فشروط التصريح للتجمعات مثلا أو تقييد ما يفعل أو يقال فيها ومنع غير المواطنين منها كلها أمور لا تليق بدولة تسعى لتوفير الحرية والديموقراطية الشاملة لشعبها، كما يجب أن يصاحب تعديل هذا القانون تعديل قوانين أخرى مثل قانون الصحافة ومرسوم “نبذ الكراهية” وغيرها من القوانين التي تقيد حرية التعبير، فمثل هذه القوانين عبارة عن قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، فإن كنت ترى هذه القوانين توفر الحماية لك في موقف ما فإنك سرعان ما ستجدها قيدا يكبل يديك في موقف آخر.

بالختام يجب أن أذكر أن معارضتي لقانون التجمعات أو لغيره من القوانين التي أراها معيبة (في بعض موادها على الأقل) لا تعني بأي حال من الأحوال أن أتحداها أو أرفض تطبيقها! فدولتنا بالنهاية دولة قانون.. واحترامك للدولة يظهر باحترامك لتطبيق قوانينها.. وإلا لأصبح الأمر في غاية الفوضى، منطق أن هذا القانون أو ذاك لا يعجبني وسأتحداه وأرفض تطبيقه سيحول حياتنا إلى غابة وهو أمر مرفوض حتى بأشد الدول حرصا على الحرية! الأفضل من ذلك أن أعمل وفق القنوات القانونية السليمة وأمارس حقي بالضغط على نوابي بالبرلمان من أجل أن أحثهم على تعديل هذه القوانين – وغيرها – من ما أرى أنها سبب من أسباب تخلف مجتمعي وسُـبّـة توجه لي ولموطني في المحافل الدولية.

مصادر:

نص مرسوم بالقانون رقم ٦٧ لسنة ١٩٧٩ في شأن الاجتماعات العامة والتجمعات.

قرار عدم دستورية قانون التجمعات.

رأي دستوري معاصر.

من تصريحات وزارة الداخلية.

ملخص تصريح المسيرات في بريطانيا.

حقوق تنظيم المسيرات والمظاهرات في بريطانيا بالتفصيل.

مشاهداتي في مسيرات الكويت.

مشاهداتي في مسيرات بريطانيا.

مو كفو ديموقراطية !

هل نحن (أو هؤلاء) “كفو” ديموقراطية؟ سؤال يطرحه البعض عندما يشاهد همجية أو تعسف أو سلبية.. خاصة هذه الأيام، والجواب هو نعم، فليس هنالك شعب لا يستحق الديموقراطية بمعناها الشامل، فالديموقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع بل هي صون لحرية الإنسان وتكريس عملي لمبدأ المساواة بين البشر.

آلية الديموقراطية وتفاصيل تطبيقها هي أمر بغاية الخصوصية، فالديموقراطية ليست “ون سايز” أو “يونيسكس” لتناسب جميع الأعمار والأحجام والأجناس، المحاولة العشوائية لفرض نظام ديموقراطي غير مناسب على شعب غير مستعد له أتى بنتائج كارثية على شعوب حولنا.. والتاريخ شاهد، وجميع الديموقراطيات “العريقة” الموجودة اليوم لم تفرض على شعوبها ولم يلبسها الناس جاهزة بعد شرائها من سوق الأنظمة، فلكل شعب خصوصيته التي تحتمها تركيبته السكانية والثقافة السائدة فيه، كلمة “الخصوصية” قد لا تعجب البعض! فالافتتان بهذه الحركة الديموقراطية أو الثورية أو تلك تغري البعض وترفع مستوى الطموح لديهم من أجل الحصول على ما لا يملكون، لكن تجاهل خصوصية شعب مثل شعبنا ومن ثم مقارنته مع غيره من الشعوب تحت لواء شعارات مثل الحرية أو الكرامة أو العدالة دون تحديد هدف واضح وخطة عمل أمر بغاية الخطورة!

لا أحد يكره الشعارات البراقة، فتلك الشعارات رؤى لا بأس من طموح الوصول إليها.. ولكن عبر الطريق السليم وإن كان طويلا، حراكنا السياسي المسيطر على بعض شبابنا اليوم متأثر من وجهة نظري بالثقافة الاستهلاكية المسيطرة على حياته، فكما يتسوق الشاب عبر الإنترنت ويشاهد أخر صرعات التكنولوجيا أو الموضة و”بشخطة” فيزا واحدة يحصل عليها من هذا السوق أو ذاك.. نراه اليوم يشاهد الثورات ويستمتع بالحريات “أون لاين” ومن ثم يأمل أن يحصل عليها بشخطة الفيزا لتصله إلى عتبة بيته عبر الآرامكس! الشاب لدينا ليس له “خلق” أن يصبر ويجاهد نفسه ويسير على درب الإصلاح الطويل، فهو يرى أنه من الأسرع والأسهل أن ينتفض ليصرخ ويزأر في وجه الفساد.. عله يخاف.. ويرحل! سواء كان هذا الصراخ والزئير في الشارع أوحتى… أون لاين، يعتقد الشاب أنه بصراخه ومطالباته وتحركاته الاجتماعية أو الميدانية يسلك درب النضال الشاق الطويل كما سارت عليه شعوب العالم الحرة، لكن ذلك الدرب في الحقيقة أسهل الدروب لمن يتفكر ويعي الصورة الكبيرة.

ليس هناك أسهل من الصراخ في الشارع ولا أسهل من تأجيج الاعتصامات وتسيير المسيرات ومجابهة الجند والعسكر، هل حقا تعتقد أخي الشاب بأن تلقي “لزخة” من هراوة شرطي أمر خطير؟ ملايين البشر حول العالم تلقوا ضربات من هراوات الشرطة حول العالم على مر التاريخ وقصفوا بالغازات واعتقلوا وحبسوا بالزنازين، فهل حقق لهم ذلك حلما في عيشة حرة هنية؟ إن كان جوابك نعم فأنت واهم! الشعوب “التعبانة” ظلت تعبانة بغض النظر عن كمية ما تعرضت له من هراوات، أنظر إلى خارطة العالم وركز فيها على النسبة والتناسب بين عدد الهراوات وبين منجزات الشعوب الحضارية وستجد أن العلاقة بينهما عكسية، الشعوب الثائرة لأجل الثورة هي أتعس الشعوب لأنها اختارت أن تسلك التعاسة منهجا وطريقا، بينما الشعوب التي هجرت المواجهات وآثرت “مجابل شغلها” هي التي تنعم اليوم بالحرية ورغد العيش ونعيمه، كلامي ليس شاعريا ولا معسولا ولا أقصد منه أن يكون كذلك، لكنها الحقيقة التي تعلمناها من دراستنا للتاريخ.

نعم شعبنا “كفو” ديموقراطية، لكني أستغرب من من مازال يبحث عن هذه الديموقراطية وهي بين يديه ومن حوله، يعيشها ويتنفسها يوميا! لديك دستور وبرلمان وفصل سلطات وصحافة حرة، أليست تلك أسس الديموقراطية المطلوبة؟ هل تعلم أن شعوب الهراوات كان جل نضالها من أجل الحصول على هذه الأسس دون جدوى؟ وطبعا دون جدوى لأن الأسلوب خاطئ من الأساس.. أما من سار منهم على الدرب الصحيح فقد وصل.

نعم تلك الأسس الراسية لدينا بها قصور ونقص، لكن أدوات إصلاحها موجودة، أما من يتكاسل عن استخدام أدوات الإصلاح التي بين يديه فإنه ببساطة قد تنازل عن حقه، والمتنازل عن حقه عيب عليه أن يرجع ليطلب احتراما أو كرامة، من يتهاون عن إصلاح قانون فاشل أو ظالم ثم يتباكى عندما يطبق عليه أو لا يكفي لإدانة غيره ماذا يمكن أن نسميه؟ كم من قصص الأطفال التي قرأناها بالصغر تحدثت عن أن مصير الكسلان أو البليد دائما ينقضي بالندم والحسرة، ولكن هل تعلمنا منها؟

لو كانت مشاكلنا مجرد “سياسة” فإنه والله ليس هناك ما هو أبسط من إصلاحها، فالقانون يعدل بقانون والحياة سهلة، لكن المسألة ليست سياسة.. بل هي ثقافة! كتبتها حتى مللت نفسي… ليست سياسة بل ثقافة! ليست سياسة بل ثقافة!!

حتى لو تحولت الكويت اليوم لجمهورية (أو إمارة دستورية) “غصبا” ووضع لها أحدث نظام تصويت ووزعت دوائرها أعدل توزيع وأشرفت على انتخاباتها أتقى هيئة.. فإنها ستكون أسوأ جمهورية! هل لأننا مو “كفو” جمهورية؟

لأ

لكن لأن “مخ” الشعب لم يتغير لكي يوائم ذلك التغيير الانتخابي، إن كان تغيير نظام سياسي كامل لن يكون له تأثير بهذا المخ فما بالك بتغيير دائرة أو لجنة انتخابية أو خانة في ورقة الانتخاب؟

تأكد أنه عندما نضحي مستعدين للجمهورية – بعد عمر طويل – أو لهذا النظام الانتخابي “الكامل” أو ذاك فإن هذه التغييرات ستأتينا ركضا، فلم الإستعجال؟ أليس الأجدر إذن أن نركز على ما هو أهم من هذه التفاهات؟

ما نحتاجه حاليا وبشدة هو تغيير ثقافتنا لا سياستنا، كل ما نحتاجه من الساسة هو عملية “تنظيف” للقوانين المعيوبة.. والكثير من الحريات.

أعطوا الشعب الحريات وسيتولى هو أمر كرامته بنفسه، فالحرية هي أكسير الحياة للثقافة الميتة، والثقافة هي اليد التي تبني الحضارة، الشعب الحر والمثقف لن يحتاج لأن يخرب أو يكسر القانون، فاليد التي تحمل الكتاب لن تحمل “عجرة” واليد التي تحمل ريشة لن تحمل “مرضية” مزورة، تأكد بأن “الحكومة” وإن وفرت لنا الكتاب فإنها لن تضعه بأيدينا ولن تقرأه عند رؤوسنا قبل النوم، نحن من سيضعه بيد أبنائنا ونحن من سيشتريه لهم.. إن سُمح لنا!

لسنا بحاجة لنواب ولا حتى لشباب يقودون ثورة (أو تحرك الإصلاح.. سمها ما شئت)، فالثورة عملية تدميرية لا بأس أن يلجأ لها من ليس لديه ما يخسره، الثورة تهد بنيانا باليا قائما لتبني مكانه ما تريد أن تبني، أما نحن فقد سرنا على درب العمار طويلا و”حسافة” أن نمحوا الدرب الذي خططناه، وتاريخنا الحضاري رغم قصره على ذلك شاهد.

دع عنك يا أخي الشاب حماس المتحمسين من حولك ودع عنك تخاريف عواجيز السياسية وديناصوراتها، فكر الثورة والفوضي ومواجهة الهراوات لو كان ينفع لكان نفع من قبلنا ومن هم حولنا، ضع في بالك أنه إن كانت الدول من حولنا لتوها دخلت موسم “الربيع” فإننا الآن ندخل “الخريف”.. موسم الحصاد، والحصاد عمل شاق ويحتاج إلى جهد كبير حتى لا يضيع تعب الشهور الطويلة، لنركز الآن على حصاد السنين التي مضت ولنستمتع بشهي الثمر، ولندع أحلام الربيع القادم لوقتها، فإننا لن نسبق الأيام بالأحلام.

————-

ملاحظة:

– أنصح بقراءة مقال فخامة رئيس جمهورية الكويت الديموقراطية والذي كنت قد كتبته قبل ٦ سنوات.. ورغم ذلك لا أعتبره من المواضيع الأرشيفية لأنه ما زال يمثل واقعا يتأكد لنا كل يوم.

مشاهدات في كرامة وطن

اللقطة من تصوير عذوب الشعيبي

نعم حضرت ما أطلق عليه اسم “مسيرة كرامة وطن” بالأمس (٢١ أكتوبر ٢٠١٢)، لم أحضر للمشاركة في هذه المسيرة، فكما لمحت في مقالي السابق وصرحت ببعض مشاركاتي على التويترأنا – وبصراحة – لست بمؤمن بأن هذه المسيرات هي الحل الأفضل لما نمر به من أزمات وعقلي يرشدني إلى أن الهدف الذي تسعى له هذه المسيرة باطل.. إن كان لها هدف أصلا! لكني حرصت على حضور هذه المسيرة لهدفين: أولا، لتوثيق الحدث، وثانيا: لدراسة الحدث من الداخل وملاحظة ما يجري فيه من أجل تكوين فكرة أكثر شمولا عنه.

هذه التدوينة لن تكون نقلا وثائقيا محايدا للحدث! أنا هنا لست بصحفي ولا أسعى لعمل “تغطية” صحفية تكتفي بنقل الأحداث كما حدثت، بل سأقوم بسرد مشاهداتي مع تحليل مبني على أسس نقدية “شبه أكاديمية” – إن صح التعبير – تعتمد على الحدث نفسه وعلى خلفيته التاريخية والثقافية والاجتماعية، هذا لا يعني على الإطلاق أني سأستسلم للطرح العاطفي أو للإثارة غير المبررة! مقياسي في التحليل سيكون عقلانيا قدر الإمكان، و عندما أذكر بأن نقلي لن يكون محايدا فإنما أعني بأني لن أحاول لي الحقائق لأرضي جميع الأطراف!

طرحي في هذه التدوينة قد لا يرضي الجميع، وذلك غير مهم لأني لا أسعى لإرضاء أحد سوى عقلي الذي ناداني.. فأجبته بالسمع والطاعة! إن كنت رأيتني قد أخطأت فصوبني، إن كنت رأيتني قد حدت فقومني، هناك صندوق تعليقات في أسفل هذا البوست.. قل فيه ما شئت وبين فيه وجهة نظرك وسأكون لك من السامعين والشاكرين.

مع كاميرتي

هدفي الأول من خروجي لمسيرة كرامة وطن هو التوثيق المصور، فأنا بالإضافة لكوني متخصص بالتاريخ والثقافة أكاديميا تلقيت أيضا تدريبا مكثفا بمجال إنتاج الأفلام الوثائقية.. بالإضافة لكوني هاو للتصوير الفوتوغرافي طبعا، ويفتقر أرشيفي المصور لمواد متعلقة بالأحداث السياسية المعاصرة، فقد عشت في بريطانيا طوال الأعوام السبع الماضية وفاتتني – ولله الحمد – الكثير من الاعتصامات والتجمعات التي جرت خلال تلك السنين الحرجة، ومسيرة الأمس كانت فرصة مواتية حرصت على اغتنامها.

خرجت للتصوير بصحبة زوجتي المصورة عذوب الشعيبي مصطحبا معي عدة بسيطة تتكون من كاميرا كانون فايف دي وعدسة كانون ٥٠مم ١،٢ (لتوائم ظروف الإضاءة الليلية) بالإضافة لميكرفون زوم أتش ١ الذي أستخدمه للمرة الأولى، لم أالتقط أي صورة ثابتة، ركزت بالكامل على تصوير الفيديو الذي أخذت منه بضع “فريمات” لأرفقها بهذه التدوينة. لن أضع أي كليبات من تصوير الفيديو هنا لأني أخبئها لمشروع أخطط ليرى النور قريبا إن شاء الله 🙂

مسيري

انضممنا للمسيرة الساعة السادسة والنصف تقريبا من الساحة الترابية المقابلة لسوق شرق، بدا واضحا منذ البداية حالة شبه الفوضى التي أصابت منظمي المسيرة! فعند الوصول لشارع الخليج تفاجأت بأن المسيرة استدارت لليمين بدلا عن اليسار كما كان مخططا حيث نقطة التجمع مقابل مبنى مجلس الوزراء (أو ما يسمى بساحة التغيير). نصت تعليمات المنظمين كما قرأناها في موقعهم بأن المسار من الممكن أن يتغير في حالة اعتراض قوات الأمن لها.. إلا أن هدفها النهائي سيكون دائما ساحة التغيير، لكني لا أدري كيف سيؤدي السير بالاتجاه المعاكس إلى ذلك الهدف! والأمر لم ينتهي عند هذا الحد..

على مستوى “الميكرو” كما يقال كان التنظيم جيدا من حيث حث الجماهير على السير على الأرصفة وتجنب الشارع الذي كان مزدحما بالسيارات، وكذلك في ضبط سرعة المسير والموازنة بين الوصول للهدف (إن كان هناك هدف!) وبين الحفاظ على تماسك المجموعة.

من ما لاحظت كذلك قلة المشاركة النسائية (حسبما عددت لا تتجاوز الـ٢٥ مشاركة عند انطلاق المجموعة)، مع العلم بأن النقطة التي انطلقنا منها من المفروض أن تضم المجموعة النسائية، قد تكون قلة المشاركة النسائية شيئا إيجابيا.. ولكني كنت أتوقع عددا أكبر. كان هناك بعض المشاركين من الأطفال ومن يبدوا أنهم تلاميذ مدارس، لو كانت هذه المسيرة بالذات تجمعا سياسيا عاديا لكان وجود هؤلاء مقبولا (رغم أنهم غير مكلفين بذلك) ولكن في هذه المسيرة المشوبة بالخطر فإن أقل ما يقال عن وجودهم هو أنه يصعب تقبله.

استمرت المجموعة بالسير بسلام مع ترديد الصيحات والأهازيج والأناشيد (سأتحدث عن تلك الأهازيج بالتفصيل لاحقا) وأثناء السير أخذت المجموعة بالتكاثر تدريجيا، بعد تجاوز السفارة السعودية لوحظ إغلاق رجال المرور للطريق على السيارات ليصبح الشارع المتبقي بالكامل ملكا للمتظاهرين، تواجد عدد بسيط من دوريات الشرطة على الشارع وكان دورهم تنظيميا لا أكثر، لم يتحدث إليهم أحد ولم يحدثوا أحدا من المتظاهرين.

إلتفت المجموعة مع الشارع متجاوزة الأبراج لتصادف مجموعة أخرى من المتظاهرين دخلت من شارع السور من خلف قصر دسمان متجهة نحو المجموعة الأولى، يمكن القول بأن الفوضى التنظيمية استشرت بعد أن التقى الجمعان! المجموعة الجديدة بدى عليها الحماس الزائد.. كما ونوعا! عددهم أكبر… أصواتهم أعلى.. وهتافاتهم أشد “قسوة”! بدت واضحة ربكة المنظمين من كلا المجموعتين، فتارة تسير الجموع إلى الأمام وإلى الخلف تارة وتتوقف تارة أخرى، الحاصل هو أن مجموعة توقفت تهتف عند سور قصر دسمان وأخرى أكملت طريقها عائدة باتجاه سوق شرق، ما سمعته من بعض الحضور والمنظمين أن الهدف كان المسير نحو ساحة الإرادة… أي أن الهدف كان المسير بعشرات الآلاف من المتظاهرين مسافة ٥ كيلومترات مرورا عبر بضعا من أكثر المباني حساسية في الكويت مثل السفارة البريطانية، السفارة السعودية، المستشفى الأميري، سوق شرق، إدارة الأمن الوطني، وزارة الخارجية، قصر السيف، الديوان الأميري، ديوان مجلس الوزراء بنك الكويت المركزي، للوصول إلى مجلس الأمة!! مساحة ساحة الإرادة على فكرة تقدر بأقل من ١٢ ألف متر مربع، أي أن طاقتها الاستيعابية لا تزيد عن ٢٩ ألف شخص، بينما الحشد القادم من ناحية الأبرج يقدر بـ ٥٨ ألف شخص. سأفصل لاحقا طريقة حساب الحشود. طوال فترة المسيرة لوحظت طائرات وزارة الداخلية العامودية وهي تحوم فوق أرجاء مدينة الكويت، ولوحظ كذلك أنه كلما اقتربت الطائرة من الحشود ارتفعت أصواتهم وزاد تأشيرهم لها بأيديهم وبما يحملونه من لافتات.. بقصد جذب انتباهها ربما!

الصدام

في خضم الربكة التنظيمية قررت الحشود التوحد ومواصلة المسير غربا باتجاه مسار الرعب المبين أعلاه، بمجرد اقتراب الحشد من مطعم ميس الغانم وعلى بعد أمتار قليلة من السفارة البريطانية تفاجأت الجموع بظهور مفاجئ لحاجز مرعب من أفراد القوات الخاصة! لم تكد تفق الجموع من صدمة الظهور المفاجئ لهذه القوات ولم تسنح لها فرصة البدأ بإطلاق صيحات الاستهجان نحوها حتى صعقتها تلك القوات بإطلاق سيل من القنابل الصوتية، شخصيا عندما كنت أسمع بالقنابل الصوتية كنت أتخيل بأنها مجرد… صوت 🙂 لكن ما استخدمته القوات الخاصة كان شيئا يجمع بين الصوت والضوء والدخان والرائحة، صوت الفرقعة مرعب بحد ذاته.. أما الضوء المتطاير فأقرب ما يشبهه هو شكل قذائف النابالم التي استخدمت في حرب فيتنام.

الحشود المذهولة سارعت عائدة هربا من تلك النيران، الغالبية سارت للخلف عائدة نحو الأبراج، البعض اختار النزول نحو رمال الشاطئ (مو خوش فكرة!)، استمرت القوات الخاصة بإطلاق القنابل الصوتية والدخانية على المتظاهرين كلما حاول أحد الاقتراب منهم، ولم تكتف القوات بالوقوف مكانها بل كانت تتقدم بشكل بطيء مجبرة الحشود على التراجع التدريجي، شاهدت بعض الإصابات يتم نقلها للخلف، شخصيا أشك بتعرض أحد للضرب لأن مجرد الاقتراب من القوات كان شيئا شبه مستحيل.

عدد كبير جدا من المتواجدين بدأ بالانسحاب نحو الخلف، منهم من اختار العودة إلى سيارته وبيته، ومنهم من ظل يعلب لعبة الضغط والتراجع مع القوات، عندما أيقنت أن الأمر انتهى توجهت أنا أيضا إلى سيارتي مستديرا حول قصر دسمان، عند مدخل شارع السور ناحية القصر كانت هناك جموع بسيطة من القوات الخاصة الملثمة اكتفت بمراقبة المنسحبين وفي أعينها فرحة النصر بادية! بعض المنسحبين أطلق نحو القوات “نغزات” خافتة مثل “ما تستحون على وجوهكم!” أو شيء من هذا القبيل.. لكن القوات لم يعيروهم أي اهتمام. من الأصوات التي كنت أسمعها بدا بأن عملية الدفع التدريجي للمتظاهرين نحو الخلف استمرت لنصف ساعة أو ساعة أخرى.

ملاحظاتي

بعد هذا السرد التاريخي الطويل الوقت حان لأذكر ملاحظاتي النقدية على ما جرى خلال المسيرة، تطرقت خلال السرد أعلاه لقضية هامة جدا وهي ضعف تنظيم المسيرة وانعدام التنسيق بين قوادها، التخبط والعشوائية كانا سيدا الموقف، كذلك أثر ضعف التواصل (إرسال الهواتف أصلا كان ضعيفا بسبب الضغط العددي) بالإضافة لعدم وجود خطط بديلة ومسارات واضحة يسار عليها.. على عكس ما أعلن.

لتفسير ذلك يمكننا وضع احتمالين، أولا، عدم قدرة المنظمين على التخطيط أصلا! فهذه المسيرة لا تفتقر فقط للهدف السياسي (كما سأبين لاحقا عند الحديث عن الهتافات) بل وتفتقر حتى للتخطيط اللوجستي! فالجموع الغفيرة (واغفروا لي صراحتي) أصبحت ألعوبة بيد قوات الأمن.. تراقبها وتحاوطها وتشتتها كما تشاء، بدا لي أنه ليس لدى المنظمين أي علم أو دراية بفنون “حرب الشوارع” .. والتي لا تعني بالضرورة الحرب بمفهومها الدموي ولكن كيفية مراوغة العدو ومجابهته بالحيلة، شبابنا بالطبع ليس لديه خبرة بذلك.. وأتمنى أن لا يحتاج لهذه الخبرة على الإطلاق! لكن السؤال الذي سأطرحه هنا هو كيف يمكن لمن لا يستطيع إدارة بضع آلاف من البشر أن يدير دولة بأكملها بالمستقبل كما يطالب؟ لا أحاول هنا الربط بين إدارة الحشود وإدارة الدولة من الناحية العملية.. فكلا الأمرين فن مستقل بذاته، ولكن ما أقصده هو امتلاك روح التخطيط والتي هي أساس الإدارة، بمعنى آخر وجدنا المنظمين “مالهم خلق” يخططون لمسيرة منظمة… وعدم وجود “الخلق” تعتبر واحدة من أشد الآفات فتكا بالعقلية الكويتية! وأقولها بكل صراحة بأننا لن نقدر أن نتقدم ولا أن نقضي على فساد أو نسترد “كرامة” طالما أن “مالنا خلق” نخطط كما تخطط الأمم الراقية، وإصلاح هذا “الخلق” سيحتاج منا إلى جهد كبير وجهاد طويل ضد أنفسنا وضد ثقافتنا الحالية.

هناك تفسير آخر لحالة التخبط التي حدثت وهي بأني ظلمت تخطيطها، فهي فعلا مخطط لها بدقة… ولكنه تخطيط نحو الفشل! كباحث علي أن أرى الأمور من جميع الجوانب وأطرح ما أستطيع أن أجد من فرضيات وأختبرها لأتبين صحتها، وحالة الانهيار الإداري التي أصابت المسيرة يصعب خروجها من أحد الاحتمالين المطروحين، إما أنه عجز حقيقي أو خطة وضعت من البداية بقصد إفشال المسيرة وإدخالها في مواجهة عنيفة مع السلطات، وقود هذه المواجهة كما هو واضح هم الشباب المتحمس الذي تعرض لتجربة قد تكون من أقسى التجارب التي واجهها في حياته، ومن المستفيد من هذا الصدام الشرس؟ لن أتطرق لجواب هذا السؤال لأني أجبته من قبل مرارا وتكرارا 🙂

الصيحات

أقل ما يقال عن الصيحات والأهازيج والأناشيد التي أطلقها المتظاهرون هو أنها تخلو من أبسط أنواع الإبداع!

من أمثلة تلك الأهازيج أغنية “بلادنا حلوة.. حب الوطن ماله مثيل” والمحرفة من أغنية “بلادكم حلوة” من مسرحية “السندباد البحري” التي عرضت عام ١٩٧٨.. قبل أن يولد معظم حضور المسيرة! وعلى نفس اللحن تم أيضا ترديد “بلادنا ضاعت.. ترى السبب نهج الحديد” والتي سمعتها من البعض”نهج الحديث” ومتأكد بأني سمعتها من آخرون “ترى السبب نهج الأمير“!

هناك أيضا صيحات محرفة عن صيحات قائمة الوسط الديموقراطي القديمة مثل:

وعي وطني سنناضل من خلاله
(بالحجة والمنطق نهزم الإخوانا)

لكن مع استبدال الشطر الثاني بـ:
لا سني ولا شيعي فوحدة وطنية

واللي طبعا مو راكب لأنه شطر مأخوذ من بيت آخر من نفس القصيدة… يعني بالكويتي عفيسه!

هناك الصيحات المعبأه مثل: وحدة وحدة وطنية.. مجلس أمة وحرية ، والتي يمكن تركيب أي شطر عليها مثل “تاكل خبزة ورقية” 🙂

بعض الأناشيد كانت عبارة عن كوارث! لعل أكبرها كان النشيد الوطني! عندما طلب أحد المنظمين من الجماهير إنشاده كاملا كانت المفاجأة أن نصف الأصوات اختفت عندما وصلت النشيدة لمقطع: “يا مهد آلاء الألى كتبوا..“.. أما بقية المقاطع لم يرددها أحد لأن أحدا لم يكن يحفظه كما يبدو!

غالبية الصيحات التي ذكرتها إلى الآن كانت ترددها المجموعة التي سايرتها منذ البداية، المجموعة التي انضمت لها لاحقا، والتي ذكرت مسبقا أن صوتها كان أعلى و”أشد”، أضافت “للمكس” صيحة جديدة لم تكن تردد من قبل وهي صيحة… “لن نسمح لك!“. برأيي قد يكون ترديد هذه الصيحة أحد أسباب انقسام المجاميع لاحقا كما أوردت سابقا.

من الصيحات التي نستشف من خلالها انعدام الابداع هي صيحة “سلمية.. سلمية!“، فبالإضافة لكونها مستعارة من ثورات الربيع العربي فهي بحد ذاتها تخلو من أي أبداع لا باللحن ولا.. الكلمة.

ركزت على فكرة الابداع هنا لأني أرى الإبداع أحد أهم عناصر النهضة التي لا تقل أهمية عن عنصر التخطيط الذي أوردته بالنقطة السابقة، وأعيد القول أن كيف يمكننا أن ننهض بالأمة ونرتقي بهذا الشعب ونحن عاجزون عن إبداع “صيحة” عليها القيمة؟ أهازيجنا ما بين المجترة والمسروقة… ويا ليتنا حتى أتقنا النسخ بشكل حسن! الإبداع مرتبط بشكل كبير بالثقافة، لن نصبح أمة محترمة ما لم يكون لدينا مناهج تعلم أبناءنا الإبداع من الصغر بدل تعليمهم بالتلقين، و لن نصبح أمة راقية حتى نزيل الصدأ العالق برؤوسنا ونفهم أن الفن والأدب من ضروريات الشعوب وليسا كماليات يمكن العيش دونها.

أتريد أن تشاهد الإبداع في حتى في فن التظاهر؟ أنظر كيف يتظاهر الانجليز!

موضوع الإبداع يجرنا للحديث عن اللافتات والأعلام التي رفعها المتظاهرون، لفتت نظري بعض الأمور التي قد تكون مستغربة، أولا، ندرة هذه اللافتات والأعلام، كل المتواجدون في المسيرة سوى بضعهم المعدود آثروا رفع هواتفهم الذكية على رفع أي أعلام أو لافتات تعبر عن فكرهم أو توضح مطالباتهم، وحتى القلة القليلة من اللافتات مكتوبة إما بشكل مبهم أو بشكل مليء بالأخطاء اللغوية، والجدير بالملاحظة كذلك أن نسبة كبيرة من تلك اللافتات مكتوبة باللغة الإنجليزية.. وهذه خطوة عليها علامات استفهام وتعجب؟!

ماذا يعني أن تكون تسير بمسيرة تطالب فيها بالإصلاح في بلدك ولغة خطابك فيها أجنبية؟ هل رسالتك موجهة للغرب؟ هل تجد نفسك محتاجا للغرب أن يهب لمساعدتك للحصول على حقوقك؟ أم يفزع لحمايتك من خطر تحسه سيأتيك من الداخل؟ هل تحس بأنك وصلت لحالة من الضعف تجعلك تستنجد بالغريب ليعينك على القريب؟ وهل فقدت الأمل بذلك القريب وتقطعت بك السبل حتى وصلت لهذه المرحلة من اليأس؟ كيف تطالب بنظام ديموقراطي “كامل” تحكم فيه نفسك (وكأنك الآن يحكمك غريب) وأنت لا تستطيع أن توصل مطالبك دون واسطة الآخرين؟ وحتى إن كنت محقا في دعوتك الإفرنجية هذه… على الأقل أكتب مطالبك وعبر عن نفسك بالانجليزية بعد أن تراجع “البدليات” التي كتبتها!

الأعلام المحمولة قليلة كذلك وتراوحت بين أعلام الكويت.. والأعلام البرتقالية، أنا ضد حمل أعلام الكويت والهتافات “الوطنية” في المظاهرات والتجمعات على كل حال.

تقدير عدد الحشود

معضلتنا الدائمة هي حرب التصريحات بعد كل تجمع حول عدد الحضور، فتقديرات المنظمين تصفهم بمئات الآلاف.. وتقديرات الحكومة ببضع مئات! ووسائل الإعلام من ناحية أخرى تقدرهم بعد أن تلعب لعبة “حذره بذره”، بينما هناك نظريات علمية بسيطة يمكن استخدامها للحصول على تقديرات منطقية.

باستخدام إحدى النظريات الإحصائية وهي للدكتور هربرت جاكوبز يمكننا ببساطة وباستخدام أدوات مثل خرائط جوجل أن نقدر عدد الحشود عن طريق حساب مساحة التجمع، سأكتب كتبت عن تفاصيل هذه النظرية وغيرها من وسائل الإحصاء في هذا الموضوع، وسأترككم مع تقديري – المنطقي – ليس لعدد المجموعة التي كانت متواجدة قرب الأبراج بالضبط.. ولكن للسعة الاستيعابية لمكان التجمع، بمعنى آخر هذا الرقم هو أقصى عدد ممكن تواجده في المكان في وقت واحد، والرقم أقل بكثير كما نرى من الـ ٢٠٠ ألف التي قدرها بعض منظمي المسيرة (على فكرة، ٢٠٠ ألف يعني أقل قليلا من ربع الكويتيين!)

ملاحظات عابرة

فيما يلي مجموعة من المشاهد التي مرت علي ولا أستطيع أن أختم هذا المقال دون الإشارة لها أو التعليق عليها:

– أثار انتباهي استخدام بعض المنظمين للفظ “الحريم” عند حديثهم عن المجموعة النسائية، يعني “نطروا الحريم! وين الحريم؟ وصلوا الحريم؟ خففو السرعة علشان يلحقون الحريم!”

– تقسيم المجموعات في المسيرة كان لسبب ما حسب الدوائر الانتخابية، المجموعة التي بدأت المسير معها صدف أنها تجمع ناخبي الدائرتين الأولى والثالثة، من ضمن الأحاديث الجانبية الاستنكارية التي سمعتها قول أحدهم لصاحبه: “ألحين هذيل أكيد دائرة الأولى؟”

– من صيحات أحد المنظمين من المجموعة “المتحمسة” كانت صراخ إحدهم عليهم: “يالله شباب! الخامسة تناديكم!”

– سأكون شاعريا في هذه النقطة.. ولكني لم أستطع أن أخفي حرقة قلبي عندما اقترب التجمع من سور قصر دسمان وهم يهتفون “لن نسمح لك!” ، شعرت وكأن كلماتهم تلك قد يصل صداها إلى روح المرحوم جابر الأحمد التي تسمعهم من داخل قصره فتؤذيه!

– قبل خروج القوات الخاصة بقليل انتبهت لوجود تكتل بشري غير طبيعي ضمن الحشد السائر، وقفت معترضا سيرهم بكاميرتي (للحصول على لقطة “ووك باي”) لأكتشف بأن في قلب هذا التكتل يقف أحد النواب السابقين، متأبطا ذراع رجلين عن يمينه وشماله ويوزع الابتسامات والتلويحات يمنة ويسرة! ظهر بالتصوير واضحا لكني آثرت أن أخفي هوية هذا النائب السابق هنا أولا كي لا أعمل له دعاية، وثانيا حتى لا أتهم من أنصار هذا النائب وعشيرته بأني أستقصده شخصيا لا سمح الله.

– بعد أن بدأ ضرب القنابل الصوتية وتراجع الجموع إلى الوراء أحد التواجدين أخذ يصرخ بالمتراجعين غاضبا :”تعالوا!” ، ثم اقترب مني وهمس بصوت حان : “أي جريدة؟”

– وجود القوات الخاصة وتصرفاتهم ربما كانت مخيفة بالبداية، لكنها أثارت غضب وسخط الجماهير وكانت واضحة نظرات التحدي في عيونهم، لم يهرب الشباب من القوات الخاصة خوفا ولا جبنا ولا لضعف إيمان بقضيتهم (وإن كانوا لا يعرفون ما هي هذه القضية بالضبط)، لكنهم آثروا الانسحاب حفاظا على أرواحهم لأنهم مدركين بأن من يقف أمامهم لا يرحم كما علمتهم التجارب، كما أن هؤلاء الشباب باد عليهم الخير والطيبة ولم المح فيهم أي بادرة شر، طيلة المسيرة وهم فرحين مبتسمين بشوشين حريصين على بعضهم البعض. نعم هناك عيوب ومشاكل جمة صاحبت تنظيم وتنفيذ مسيرتهم، وأنا لم أكتب مقالي المطول هذا لأطعن بهم.. بل لأبين لهم ما وقعوا فيه من أخطاء علهم يتفادونها ويصلحونها، أخطاء بعضها بسيطة وأخرى فادحة، بعضها في أنفسهم التي عليهم إدراكها، وأخرى مفروضة عليهم وعليهم أن ينتبهوا لها.. والأمل معقود عليهم كي يصلحوها ولا ينقلوها لمن يأتي بعدهم من أجيال.

– مشهد التراجع الأخير كان محزنا بالفعل، الانكسار البادي على وجوه الشباب عبر لي عن خيبة أمل، والنظرات في عيونهم لم تخل من الحيرة، لا أدري مالذي كان هؤلاء الشباب يطمحون لتحقيقه، وبصراحة لا أعتقد بأن هناك أحد منهم يدري ما كان يريد أن يتحقق بنهاية هذه المسيرة، لكني متأكد بأن لا أحد منهم كان يأمل بأن تنتهي المسيرة بالشكل الذي انتهت فيه. أدبيات منظمي المسيرة ذكرت أنها تهدف لـ”استعادة سيادة الأمة المختطفة”، كيف ستحقق هذه المسيرة.. أو أي مسيرة أو تجمع أومهرجان أو ندوة هذا الهدف الكبير؟ بل كيف تستعاد سيادات الأمم عند خطفها؟ ألا يجب أن نعرف من هو الخاطف؟ ألا يجب أن ندرك إن كان بالإمكان خطف سيادة أمة أصلا؟ هناك العديد العديد من الأسئلة التي كان يجب أن تطرح وأن يجاب عليها قبل مجرد التفكير في تسيير المسيرة.

– أثناء مغادرتي المسيرة واجهت في طريقي بعض من “توهم يوصلون” المسيرة، يعني حتى مسيرة “كرامة” الوطن “يايينها” متأخرين ساعتين!

– كانت استراحتنا أنا وزوجتي بعد العناء الذي استمر ما يقارب الساعتين في ستاربكس دسمان، لم نكن وحدنا في المقهى فقد اصطبغ المكان باللون البرتقالي بعد توافد الجماهير المنسحبة إلى ملاذه 🙂

– تأكدت بعد هذه المهمة التصويرية بأن الكانون فايف دي مارك تو لا يعلى على أدائها بمثل هذه الظروف الصعبة، لكن من ناحية التشغيل كانت كابوسا حقيقيا! ضبط الصورة والصوت يدويا بالكامل أثناء مطاردة الحشود والهرب من النيران والقنابل أمر بغاية الصعوبة، بمعنى آخر… يبيلي كاميرة فيديو حقيقية جديدة 😀

– سيتم قريبا جدا إنتاج فلم تعليمي قصير حول التصوير الوثائقي من تقديم عذوب الشعيبي يتناول المسيرة كتطبيق عملي ويحتوي على العديد من الصور الجديدة من تصويرها.

المراسيم: سمعا وطاعة يا عقلي

ما زلت أصر على أني لست بكاتب سياسي، وما زلت مصرا على أن مواضيعي التي تحمل رائحة السياسة إنما هي مواضيع ثقافية تتعلق بطريقة تفكيرنا وتعاملنا مع ما يحيط بنا من قضايا تبعا للثقافة التي تكونت لدينا على مر الزمن، أحتاج أن أعيد كتابة هذه الجملة مرة تلو الأخرى لأذكر نفسي والقارئ الكريم بأني لا أحاول أن أفتي بمجال لا أفقه فيه، فصحيح أني لست متخصصا بالسياسة (رغم أني درست مبادئها الأساسية أكاديميا في الجامعة) ولكني متخصص بالثقافة والتاريخ ومؤهل للحديث عنهما وعن تأثير السياسة بهما وتأثيرهما على السياسة.

المراسيم

المحور الرئيسي لهذا المقال هو مراسيم الضرورة التي أمر بها أمير الكويت الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح عبر خطابهبتاريخ ١٩ أكتوبر ٢٠١٢ خلال الفترة الانتقالية بين حل مجلس ٢٠٠٩ والغاء مجلس ٢٠١٢ والدعوة لانتخابات ديسمبر ٢٠١٢ (الله يعين عيالنا وأحفادنا على دراسة هالتواريخ 😀 ) ، أحد مراسيم الضرورة الذي أثار ضجة بالبلد هو مرسوم تعديل النظام الانتخابي وتوزيع الدوائر الانتخابية، القانون السابق ينص على أن عدد الدوائر هو خمسة وأن عدد الاختيارات لكل ناخب في ورقة الاقتراع هو أربع، حتى وقت كتابة هذه الكلمات لا نعلم كيف سيكون التعديل، ولكن ذلك لم يمنع ارتفاع الأصوات المطالبة بمقاطعة الانتخابات القادمة والداعية للخروج بالمسيرات المنددة بهذا المرسوم.

العقل

لن أناقش تفاصيل المرسوم السياسية فالأمر بالنسبة لي وجهة نظر قد يراها البعض صائبة ويراها آخرون خاطئة، لكن ما سأناقشه هو ردود الأفعال على هذا المرسوم والتي يمكن قراءتها لتعطينا دلالة على ثقافة شعبنا وطريقة تفكيره.

لأن الكثير من الناس تغلبها العاطفة وترفض استخدام عقلها ومعتمدة على آراء غيرها في تحديد مواقفها فإنها أغفلت واحدة من أخطر النقاط بخطاب الأمير كما سأبين لاحقا في هذا المقال، فكل الضجة التي حدثت والمقاطعات والمسيرات والاحتجاجات أساسها تغيير إجرائي بسيط “بالطريقة” التي سيتم بها التصويت بالانتخابات القادمة، فلم يوقف العمل بالدستور مثلا ولم يدع لمجلس وطني بدلا عن مجلس الأمة، فجل ما تغير هو عدد الخانات التي سيضع فيها الناخب فيها علامة صح!

الكثير من الشباب أخذوا الأمر بصورة عاطفية بحتة وربطوها بمسألة الكرامة والإرادة وغيرها من الشعارات “العربية” اللي ما توكل خبز! وذلك أمر تعودنا عليه لأنه من المكونات الأساسية للعجينة المكونة لثقافتنا، فمنذ متى نستطيع العيش دون تلك الشعارات؟! وكيف لحياتنا أن تستمر دون المطالبة باحترام “كرامتنا”؟ رغم أننا بالواقع أول من يمتهن كرامة بعضنا البعض ويمتهن كرامة غيرنا ممن لا يعجبنا من البشر، وذلك موضوع تحدثت عنه أكثر من مرة سابقا ولا داع لإعادة نقاشه هنا.

على خلاف السياسيين الذين يهوون اللعب بمشاعر الجماهير أنا أنسان عملي ومؤمن بالعقل والمنطق ولا أبني مواقفي على الشعارات، فعدد الخانات في ورقة الانتخاب -عمليا- لن يصلح الفساد السائد في الدولة ولن يفسد بقية الصلاح الباقي فيها، وهذه حقيقة، هل ستفسد البلد إن وضعنا صح أم صحين بدلا عن أربعة علامات صح في ورقة الاقتراع؟ وهل سيصلح حال البلد إن وضعنا أربع علامات صح؟ هل ستتوقف السرقات من المال العام؟ هل سينتهي التلوث؟ هل ستنحل أزمة السكن وأزمة الكهرباء والأزمات الاقتصادية؟ هي سينخفض سعر الإنترنت وسعر البيض؟ هل سيزيد الإهتمام بالثقافة والفن والأدب؟ هل سيرتفع مستوى التعليم؟ هل سيلتزم الموظفون ويخلصون لأعمالهم؟ هل ستتوفر فرص العمل المناسبة للخريجين وتنخفض البطالة المقنعة وغير المقنعة؟ هل ستنتهي الإختناقات المرورية وتتصلح الشوارع؟ هل ستنحل مشكلة البدون؟ هل سنفوز بكأس آسيا؟ وهل وهل وهل وهل وهل؟ إن كان كذلك فيالها من أربع “صحات” سحرية تلك التي ستحل لنا كل تلك المشاكل!! كم أتمنى لو كان ذلك صحيحا.. لكن الواقع والتاريخ يخبرنا بأن تلك “الصحات” الأربع لم تنتج لنا سوى مجموعة من المجالس “المحلولة” تحمل ألقابا مثل “مجلس القبيضة” و”مجلس المؤزمين” لم تستطع أن تؤدي واجبها بالتعامل السياسي مع الحكومة ولا أن تسعى نحو التغيير القانوني المناسب لتسهيل عملية أداء ذلك الواجب (علما بأن من أطلقوا تلك الألقاب على تلك المجالس هم أنفسم من يطالبون اليوم بالمحافظة على نفس النظام الانتخابي الذي أنتجها)، بالعقل والمنطق وكل العلوم الإنسانية والمخبرية هناك قاعدة عامة بأنه لا يمكنك أن تحصل على نتائج مختلفة إذا استمريت بتكرار نفس شروط التجربة مرة تلو الأخرى، منطقيا لن ينصلح حال البلد “بالاستمرار” بنفس النظام الذي جربناه وعرفنا نتائجة، فما هو السر إذن في الدفاع عن هذا النظام الإنتخابي الذي لم يخلف لنا سوى الفشل والفوضى السياسية؟

ابحث عن المستفيد

دائما نشاهد المحققين بالأفلام ونقرأ عنهم بالقصص البوليسية عند وقوع جريمة ما أول ما يبحثون عنه هو المستفيد الأول من الجريمة، في حالة جريمة الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد من هو المستفيد الأول؟ من هو المستفيد من بقاء النظام الانتخابي الحالي على ما هو عليه؟ ومن هو المتضرر الحقيقي من تغييره؟

دع عنك المبادئ والكرامة والقيم وكلام الشعارات العربية الآن، تلك الشعارات لم نقرأ أنها استخدمت في حل أي جريمة في أي رواية بوليسية، على أرض الواقع وكما يخبرنا التاريخ بوضوح.. أول من سيتضرر من عملية تغيير النظام الانتخابي وعدد الخانات في ورقة الانتخاب هي حسبة بعض السياسيين، وهؤلاء السياسييون – ولا غرابة في ذلك – هم من يستميت حاليا للدفاع عن عدد تلك الخانات!

السياسي بالطبع لن يصرح بأنه خائف على حسبته، لكنه – كالعادة – سيرتدي عباءة “الوطنية” ليظهر بمظهر المدافع عن “كرامة” الشعب وإرادته.. وذلك ليس بأمر جديد.. وقد فصفصته تفصيصا بموضوع الصورة الكبيرة.

ماذا عن الشاب الذي تربى على سماع وترديد الشعارات والأغني الوطنية؟ من يؤمن إيمانا “حقيقيا” بمبادئ الكرامة والعدالة والحرية والديموقراطية؟ ألن يعجبه كلام الساسة وحلاوة ألسنتهم التي تقطر بعسل الوطنية ويتأثر بها ويبذل ما بوسعه لكي يكون له موقف في ظل هذه الظروف التي تضرب “بكرامته” عرض الحائط كما يعتقد؟ أضف لذلك طبعا ما يعايشه هذه الأيام من ثورات ربيعية تحيط به من كل جانب وتأثر بروحه الثائرة والمتمردة على كل القيود الرجعية.

يعني بالنهاية هاذي وطنية مو لعب العيال! وطبعا احنا الشباب لنا الغد.. و احنا الخطاوي الأكيدة على دروب الأمل!

وهكذا يسير الشاب إلى الساحات والمسيرات وهو ما يزال تحت التأثير “التدغيغي” لكلمات السياسيين وشعارات الصائحين دون إعمال حقيقي للعقل الذي يخبره بأنه “بالواقع” إنما يتظاهر ويصيح ويسير حتى تدمي قدماه من أجل “شخطة” على ورقة!

ذلك العقل الذي لو كان استخدمه ذلك الشاب لأدرك المرسوم الأخطر من مرسوم “الخانات” كما ذكرت في مقتبل هذا المقال!

عمليا مرسوم الدوائر لا يهمني وذلك للأسباب التي ذكرتها سابقا ولغيرها من الأسباب القانونية والأدلة الدستورية التي لم أذكرها وإن كنت قد أشرت لبعضها من خلال بعض التغريدات، الأهم من ذلك بالنسبة لي هو ما أطلق عليه مرسوم “نبذ الكراهية وحماية الوحدة الوطنية“، فعند سماعي وقراءتي لمجرد عنوان ذلك المرسوم تبادر إلى ذهني سؤال، ما هو معنى “الوحدة الوطنية” وكيف سندافع عنها بمرسوم؟

مصطلح “الوحدة الوطنية” وحمايتها هي من المواضيع المطاطة التي لا يمكن تعريفها ببساطة، ولا أدري كيف ستتعامل معها المحاكم! لو كنت سأناقش هذا المصطلح لتمكنت من تقديم رسالة ماجستير فيه وليس تغريدة أو موضوعا بمدونة، فوالله لا أدري ما هي مواصفات القاضي الذي سيحكم في قضايا “الوحدة الوطنية” تلك! هل سيكون عالم اجتماع أو خبير سياسي أو ناقد أدبي؟ هل سيحكم في تلك القضايا هومي ك. بابا أم سيحكم فيها إدوارد سعيد أو ابن خلدون رحمهما الله؟ فهؤلاء هم المؤهلون – تقريبا – للحكم في قضايا تتعلق بالـ”وحدة الوطنية”.. لا خريج من كلية الحقوق أو الشريعة!

برأيي مرسوم “الوحدة الوطنية” هو القيد الأساسي الذي يجب أن يولى حقه بالاهتمام والنقاش، لكن بالطبع الناس غفلوا عنه وكأن آذانهم صمت بعد سماعها للفظ تعديل “النظام الانتخابي”! وطبعا ما هو سبب هذا الصمم المؤقت؟ بالتأكيد لأن السياسيين أصحاب الصوت العالي اختاروا تجاهله!

مرسوم “الوحدة الوطنية” يشبه الدرس “غير المقرر” الذي أخبرنا المدرس بأنه “مو داخل بالامتحان” فسارعنا فرحين لتمزيق ورقته أو الشخبطة عليه بعلامة “إكس” كبيرة 😀

مرسوم “الوحدة الوطنية” لا يهم السياسيين لأن لديهم حصانتهم التي تحميهم منه إن نجحوا، وإن تأثروا به كمرشحين فإنهم – كالعادة – سيستغلونه للظهور كأبطال!

مرسوم “الوحدة الوطنية” يشبه كثيرا قانون التجمعات المشؤوم الذي يتجاهل وجوده النواب تحت قبة البرلمان ومن ثم يكونون هم أول من يخالفه في الشارع!

ويتكرر السيناريو مرة تلو الأخرى، النائب محمي بحصانته، المرشح متباه ببطولته، والشاب المتحمس -وهو المتضرر الحقيقي- له الله! وكل شي في سبيل الوطن يهون!!

من أجل الصورة الكبيرة

أنا لست ضد المسيرات ولا ضد قرارات المقاطعة ولا ضد تلوين الأفاتارات بتويتر ولست ضد أي وسيلة تعبير عن الرأي، أنا لا أدعي أن رأيي “السياسي” هو الصحيح وأن آراء الآخرين خطأ فادح، لا أطلب منك قارئي أن تغير قراراتك وقناعاتك لتوافق قناعاتي، لكني إن كنت سأطلب منك شيئا فهو أن تستخدم عقلك قبل عواطفك (رغم ثقتي بصدق تلك العواطف) وأن تأخذ خطوتين للوراء وتنظر للصورة الكبيرة من بعيد، هدف أي حراك سياسي جاد قبل أي شيء هو تحقيق “المصلحة” للأمة، حتى بالشرع هناك قاعدة فقهية تقول بأنه “أينما كانت المصلحة فثم شرع الله”، المصلحة الحقيقية هي تلك التي لها تأثير على حياة الناس في هذا البلد، نعم.. على بعض الشعوب في بعض الأحيان أن تتنازل قليلا عن المثاليات وكلام الكتب إن كان في ذلك مصلحة عامة لهم على المدى البعيد، الكرامة والحرية والعدالة كلها أمور ستأتي في وقتها ورسوخها في هذا البلد أمر مؤكد، ولكن ما فائدة الكرامة في وقت الفساد؟ ما فائدة الحرية في وقت الفوضى؟ وما فائدة العدالة في وقت الكساد؟

يا شباب استخدموا عقولكم ودعوا عنكم الشعارات و”الخطاوي الأكيدة” وكلام الأغاني، فكروا بالمصلحة النهائية والصورة الكبيرة، ناقشوا الموضوع بالعقل قبل الاندفاع نحو الشوارع، فبالشارع ما أنت سوى نقطة واحدة يتم تحريكك وتلوينك دون إرادتك، هذا ليس كلامي ولا رأيي الشخصي! بل الفلاسفة وعلماء الاجتماع وحتى علماء الأحياء والأنثروبولوجيا والإحصاء يؤكدون أن تفكير وتصرفات الفرد إن جلس وفكر بمفرده قد تختلف تماما عن تفكيره وتصرفاته مع الجماعة، لا تعتقد بأن الساسة والإعلامييون يجهلون ذلك! فهم درسوا ذلك وتعلموه ويحاولون تطبيقه علينا في كل وقت ومناسبة بهدف تسييرنا نحو أهدافهم هم بتصويرها كأنها أفكار نابعة من داخلنا! إن كنت لا تصدقني فاقرأ وثقف نفسك وستتعلم كيف تكون واعيا لتلك الحيل والألاعيب التي تمارس عليك وستتعلم كيف تقاومها ولا تتأثر بها، المنطق العلمي والتفكير النقدي من المواضيع التي لم نتعلمها في مدارسنا الحكومية للأسف الشديد.. لذلك علينا أن نتعلمها ذاتيا إن أردنا الفلاح في حياتنا.

وتذكر بأن الإصلاح والبناء الحقيقي للأوطان لن يتم سوى “بيدك” أنت، لا بصراخك وترديدك للشعارات.. خاصة إن كانت الشعارات كتبت بيد غيرك.

وبالختام.. استخدم عقلك، فعقلك هو منحة الله لك.

#سمعا_وطاعة_يا_عقلي