أرشيف الوسم: culture

منشار الناشرين: عن مافيا دور النشر والتوزيع

 

هناك حقيقة قد تخفى على كثير من الناس، وهي أن تجار الكتاب لا يختلفون كثيرا عن تجار العقار… أو تجار المواشي، فالأمر بالنهاية “بزنس” فيه الربح وفيه الخسارة. لتربح أكثر وتتجنب الخسارة قد تضطر أحيانا لبعض التنازلات الأخلاقية، وقد يقع منك ظلم للغير، حتى لو كان ذلك “الغير” شخص ودود اسمه… الكاتب.

قبل ما يقرب من الثلاث سنوات (عام ٢٠١٤) كتبت مقالا تحدثت فيه عن كيف غير الأدب الشبابي فكرة النشر والتوزيع الكويتي أو العربي بشكل عام، وكيف غير بعض من الناشرين ودور النشر من سياساتهم لمجاراة التغيرات الحاصلة، وتناولت فيه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على أولويات الناشرين، كتركيزهم على المسألة الإنتاجية أكثر من مسألة نوعية الإصدارات التي تنتجها. دافعت في حينها عن ذلك الأدب الجديد المغضوب عليه (شعبيا)، وما زلت صامدا على رأيي القديم، ولكن رغم ذلك أعترف بأني في حينها… كنت طفلاً! رغم تجربتي القصيرة نسبيا بعالم النشر، فلم تصدر لي سوى ثلاث كتب خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى أني اكتشفت الكثير من خبايا هذا العالم غير المثالي! فبينما يحاول العاملون في هذا المجال تصوير أنفسهم بأنهم رعاة للفن والأدب والثقافة، وبينما ينظر لهم عامة الناس كذلك ويصدقون قصة نضالهم وتضحياتهم لمحاربة مغريات عصرنا الإلكتروني… فإن الحقيقة ليست كذلك دائما.

لعن الله الظروف

لا أتهم بمقالي هذا ناشري الكتب بتعمد الإضرار بالكاتب أو غيره… لكن قد تكون ظروف وحالة الكتاب في العالم العربي، بل وفي العالم أجمع، هي التي اضطرتهم للجوء للتشاطر من أجل البقاء. وضع الكتاب (والثقافة بشكل عام) صعب في وقتنا هذا، فالكتاب يكاد يسير وحيدا في طريق وعر دون قافلة ولا دليل يرشده ويدعمه ويحميه. عالم الكتاب (والثقافة والفن) عالم عالي التكلفة وضئيل المردود المادي بأغلب الأحيان ولا يتحمله إلا القليلون، وغالبا ما يكون الكاتب (أو الفنان) هم الحلقة الأضعف التي سيقع على عاتقها تحمل تلك الأعباء والتكاليف، وهم من يتوقع منهم الناس أن يحترقون ويتفحمون ليضيئو الطريق للآخرين! دور النشر (أو الجاليريهات الفنية كذلك) بالأحوال الطبيعية بالكاد يمكنها أن تستمر وتحقق ربحا معقولا في هذا العصر، لكن المقربين من هذا العالم سيدركون أن الاستمرارية والربح المعقول ليس طموحا كافيا لبعضها! فنجدها تركت دورها التنويري وأخذت تلعب دور المنشار… طالع واكل نازل واكل!

الورقة الأضعف

في عالم الكتب اليوم أصبح حصول الكاتب على عقد عادل شيء شبه مستحيل! خاصة إن كان كاتبا صغيرا. فدور النشر باختصار شديد تسعى لأن تحقق من وراء ذلك الكاتب على أعلى عائد بأقل المصاريف… أو دون مصاريف إن أمكن! فكرة الكاتب الذي يتقاضى مبلغا محترما وربما معاشا وعوائد مادية تمكنه من أن يعيش معتمدا على كتاباته (كما نشاهد في الأفلام والمسلسلات الأجنبية) هي خدعة ووهم كبير!

كيف تعمل تلك العقود؟ عقود أغلب دور النشر مع الكُتاب الصغار تتطلب أن يتكفل الكاتب بتكاليف طباعة كتبه بنفسه، أي عليه أن يدبر ويدفع مقدما مئات الدنانير للمطبعة. الكاتب كذلك يتحمل تكاليف صف الكتاب وإخراجه، وتكاليف مراجعة نصه اللغوية والإملائية، وطباعة “البروفات” الأولية منه، إهمال الكاتب أو استرخاصه لتلك الأمور هو واحد من أهم أسباب ما يطلق عليه اسم الأدب الركيك المليء بالأخطاء والمشاكل اللغوية والفنية. الكاتب غالبا ما يكون هو من يسعى لتسجيل حقوق الكتاب، ويقاتل للحصول على فسح الإعلام له إن تطلب الأمر، دار النشر لن تحرك ساكنا للدفاع عن الكاتب، وتبذل أدنى أشكال النصح والتوجيه له في مسألة الشؤون القانونية والإدارية، ذلك ليس من مصلحتها أساسا، فعلاقتها بمسؤولي الحكومة فوق كل اعتبار… كما سيتبين لنا سبب ذلك لاحقا! بعد الطبع فإن الكاتب هو من يتحمل مسؤولية تخزين صناديق الكتب، وإعادة توزيع الفائض منها.

بعد ذلك كله، وعند نهاية مشوار الكتاب من الكتابة إلى الطبع، على الكاتب أن يتنازل عن كمية محترمة من النسخ المجانية كهدية للناشر لن يتقاضى الكاتب من بيعها فلسا واحداً! فقط بعد أن تنفد تلك النسخ المجانية يحصل  الكاتب على نسبة من بيع أي نسخ إضافية، قد تكون ٥٠٪ أو حسب الاتفاق. حتى لو كان الكتاب مطبوعا وجاهزا وأراد الكاتب عرضه في مكتبات غير مكتبات الناشر فإن بعضها يطلب منه خلواً أو إيجار رف قبل أن يعرضها له (وكأنه يبيع صندوق طماط!)… بالإضافة لنسبة المبيعات طبعا! فمتى سيعوض الكاتب خسارته على الأقل؟ احتمال بعد عمر طويل… أو على الكاتب أن ينسى المادة ويكتفي بالمجد ويحترق لينير الدرب وغيرها من الكلام الأفيوني!

أضف لجميع تلك المتاعب معضلات أخرى محيرة قد يواجهها الكاتب، كمعضلة جهله بأرقام المبيعات الفعلية… أو حتى عدد النسخ المطبوعة فعليا من كتابه، وغيرها من مشاكل انعدام الشفافية والثقة، كما يذكر الروائي والصحفي جورج يرق بمقاله “لماذا لا يعيش الكتاب العرب من عائدات كتبهم؟“. فالكاتب بأغلب الأحيان يدفع مبلغا من المال للناشر كرسوم للطباعة، ودار النشر هي من يتعامل مع المطبعة مباشرة ولا أحد يدري ما هي طبيعة المعاملة تلك ولا ما يجري فيها، وحديث المطابع ذلك حديث ذو شجون!

 

حديث المطابع

لكي يستمر منشار الناشر بالأكل نازلا نجده أحيانا متعاقدا مع مطابع معينة يرشد الكاتب إليها (أو يجبره عليها!)، ليست بالضرورة أن تكون أفضل المطابع أو أوفرها تكلفة، فالهدف هو أن يأخذ الناشر منها عمولة معينة أو خصما خاصا لا يدري الكاتب عنه شيئا، وبالتالي سيدفع الكاتب أحيانا مبلغا أكبر من التكلفة الحقيقية للطباعة… والفرق بجيب الناشر طبعا! وقد يكون هذا التحالف بين الناشرين والمطابع أحد أسباب تراجع أو تقاعس النشر الإلكتروني العربي الرسمي، لأن فيه قطع لباب من أبواب الرزق الوفير.

ليس من مصلحة دور النشر ولا حلفائها من المطابع التقليدية أن ينتشر الكتاب الإلكتروني، فأولا أرباح المطابع وأحبارها وأوراقها سيخسف بها تحت تأثير انشار الكتب الإلكترونية، وثانيا عمولات دور النشر (وهي إحدى روافد دخلها الهامة) أيضا ستتضاءل، وثالثا أرقام المبيعات الإلكترونية يصعب جدا التلاعب بها، وخامسا النسب من مبيعات الكتب الإلكترونية بالغالب ستميل ناحية مصلحة الكاتب لا الناشر (في حالة كتب الكيندل الإلكترونية أمازون تمنح الكاتب ما يصل إلى ٧٠٪ من المبيعات)… وذلك أمر لا يمكن للناشر أن يقبله!

الوجبة الرئيسية

دع عنك الآن كل ما تحدثنا عنه من مصادر الأكل السابقة، هل تعلم ما هو مصدر الدخل الحقيقي لبعض الناشرين من أصحاب المكتبات الضخمة الفاخرة ذات الأفرع الأخطبوطية؟ هل هو بيع الكتب؟… القرطاسية؟… السجائر؟… لا طبعا، الجواب هو… المناقصات! طباعة مئات الآلاف من نسخ الكتب الدراسية مثلا، أو النشرات والدوريات والقرطاسية والبوسترات والإعلانات الحكومية والرسمية وشبه الرسمية، واستلام أجر سنوي ثابت مضمون منها قد تغني الناشر عن التعاقد مع الكُتاب من الأساس! لكن منشار الناشر لا يشبع منها بالطبع.

بسبب مصادر الدخل المتنوعة التي ذكرناها أعلاه وشبه انعدام التكلفة نرى الناشر غير مهتم أصلا بدوره الأساسي كبائع وناشر لكتب الكتاب الذين تعاقدوا معه وسلموه أمرهم، حتى لو كانت تلك الكتب تحمل شعاره، فتلك الكتب ليست مصدر دخله الأساسي… بل هي برستيج له لكي يظهر بمظهر الراعي للثقافة والأدب! قد يبدي الناشر اهتماما بنوع معين من الكتب ذات الشعبية الجماهيرية، كأدب المشاهير والحسنوات و”المزايين”، أو الأدب الموجه للمراهقين والمراهقات، ذلك الذي يجذب شريحة من القراء لديها الاستعداد للوقوف بطوابير التواقيع وأخذ “السِلفيات” مع الكُتاب! ذلك النوع من الكتب مفيد للناشر، ماديا بالطبع، ومعنويا كذلك لأنه يجذب المزيد من الكُتاب الطامحين لمعاملة تشبه معاملة أولائك الكتاب النجوم، لتستمر عملية النشر فيهم!

 

ماذا عن الكتب العلمية والثقافية الجادة؟ تلك الكتب هي غالبا بذيل اهتمامات ذلك الناشر بالطبع (ما لم تكن كتبا دراسية مضمونة العائد)، والمنّة على كتاب تلك النوعية من الكتب أصلا… لأن الناشر تفضل عليهم ووضع كتبهم في بقّالاتـ… مكتباته! فبعد أن ينتظر الكاتب الشهور الطويلة ليخرج كتابه للناس يصدم بالنهاية بأن كتب المراهقين والحسناوات هي ما يتصدر بهو المكتبة، بينما كتابه الجاد موضوع بالأرفف الخلفية منها، وعندما يشتكي يُمن عليه بأن كتابه موجود بالمكتبة أساسا… ومن يريده من الزبائن المعقدين المهتمين به سيطلبه بالاسم. وأسلوب المنة هذا هو أشد ما يؤلم الكاتب، ربما أكثر حتى من الخسارة المادية.

إرهاب ثقافي

المصيبة الكبرى بكل ما سبق هي أن الكاتب بالنهاية هو العامل الأضعف في معادلة النشر، وحتى لو أحس ذلك الكاتب بالظلم وحاول أن يعترض فإنه مهدد بقطع علاقة الناشر به وفقده لحق النشر، فمن السهولة أن يُسحب كتابه من مكتبات الناشر، وتعاد أي نسخ إضافية من الكتاب للكاتب ليدبر أمر بيعها بنفسه. وقد تمتد يد المافيا التي ينتمي لها الناشر لمنع بيع الكتاب حتى بالمكتبات الأخرى الحليفة لها (نعم هناك تحالفات بين المكتبات)… أو يمنع الكتاب حتى من المشاركة بالمعارض!

كل ما قلته ليس مبالغة ولا وهما ولا خيالا علميا، بل هو واقع عايشت بعض فصوله بنفسي للأسف الشديد. قليل من الكتاب يتحدثون في هذا الأمر لخشيتهم من بطش مافيا دور النشر، لأنها قادرة على إلحاق ضرر حقيقي بهم… كما ألحقته بالأدب والثقافة العربية كافة. ربما بعد هذا المقال سيُغضب علي أكثر مما هو مغضوب علي حاليا، ربما لن أجد ناشرا يرغب بالتعامل معي، ذلك ليس أمرا هاما. لم أكتب هذا المقال بقصد الانتقام أو التشفي من دور النشر، لو كنت أرغب بذلك لذكرت الأسماء والأرقام وعرضت الأوراق والسمعيات والبصريات! لكن ليس ذلك هو الهدف، بل الهدف هو أن يفهم الناشرون، كبيرهم وصغيرهم، أن هناك وضع خاطئ قائم وأن هناك من هم ليسو سعداء به وليسو على استعداد لقبوله. وهي أيضا رسالة موجهة للكتاب، قديمهم وجديدهم ومن يفكر بالانضمام لهم مستقبلا، لأن يعرفوا مالذي يحصل في عالمهم وينتبهو له وليعلمون بأنهم ليسو وحدهم فيما يعانونه من إحباطات، مع حث لهم لعدم الاستسلام لهيمنة مافيا الناشرين. وجميعنا بالنهاية نريد حلولا ترضي الجميع، من ناشرين وكتاب، حتى نرتقي بثقفاتنا وتتطور مجتمعاتنا.

الفنان المتفحم

الإنتاج الفني والثقافي يحتاج للمال! تلك حقيقة مؤلمة… لكنه واقع حالنا اليوم.

رومانسية فكرة أن الفنان هو ذلك العبقري المعقد المنزوي في مرسمه أو مكتبه مشعلا روحه من أجل أن يضيء ظلام الجماهير قد تروق للبعض… لكنها للأسف الشديد نوع من الوهم. فأن يخرج للناس فن جاد ومؤثر ويصل لجمهور كبير ويعرض بمعارض محترمة ويكتب عنه بالصحف والمجلات والمواقع المتخصصة وتتحدث عنه وسائل الإعلام التقليدية والحديثة هو أمر بغاية الصعوبة، ولا يعتمد على موهبة أو قدرات الفنان… بل يعتمد على مقدار الدعم الذي يحصل عليه.

والدعم يعني المال بشكل خاص، فكل شيء بعملية الإنتاج الفني يحتاج للمال. تكاليف الإنتاج الفني بكافة صوره كثيرة، تبدأ بعملية التعلم والتثقف عن طريق الدراسة الأكاديمية، الدورات والورش، الكتب والأفلام، زيارة المعارض والمتاحف والمهرجانات. بعد ذلك تكاليف عملية الإنتاج ذاته كالخامات، الأدوات، الأجهزة، البرامج… كبداية، ثم هناك مساحات العمل، التراخيص، أجور العاملين والمساعدين والفنيين، ناهيك عن الوقت المهدر الذي لا يقدر بمال! كل ذلك قبل أن يظهر العمل الفني للوجود. وطبعا حتى أبسط تلك التكاليف المتعلقة بأبسط أنواع الإنتاج الفني ليست سوى البداية، بعد انتهاء العمل هناك ميزانية ضخمة تنتظر التصريف من أجل أن يقدم ذلك العمل للجمهور بشكل “لائق” ويرضي الفنان الذي بذل جهده ووقته وماله وأعصابه وفكره من أجل الخروج بذلك العمل. فبعد ذلك تأتي تكاليف إخراج العمل كالطباعة، البراويز، التغليف، النقل، ومن ثم التكاليف الحاسمة المتعلقة بالتسويق، بأجرة صالات العرض، رسوم الاشتراك بالمسابقات، تكاليف السفر والنقل والبريد للمشاركات العالمية، تكلفة المطبوعات المساندة كالكاتالوجات والبوسترات، الهدايا والنسخ المجانية الواجب تقديمها من أجل التسويق… وغيرها الكثير من التكاليف المادية والمعنوية التي يتكبدها الفنان حتى يتفحم… وليس يحترق لينير الظلام!

كأني أسمعك تقول بأنه لا داع لكل تلك المصاريف، نحن اليوم في عالم الكمبيوتر والإنترنت، ضع عملك الفني على الإنستاجرام أو اليوتيوب أو المدونة وسيصل لملايين البشر! طيب وماذا بعد ذلك؟ العمل الذي أخذ مني وقتي وجهدي ومالي هل سيعوضني عنه حصوله على بضع آلاف من المشاهدات أو “اللايكات” ليغرق بعد ذلك بأيام في بحر النت العميق؟ لا أظن بأن هدف أي فنان جاد هو الحصول على لايكات المعجبين، لو كان كذلك فإن تحوله “لفاشينيستا” سيكون طريقا أسهل بكثير له.

صناعة الفنان أمر بغاية الأهمية للأمم الساعية للنهضة، وليست ترفا، وهي صناعة لا يخلو دستور من دساتير البلدان من ذكرها. هناك كلمة شائعة لدى كثير من الناس وهي أن الفنان يجب أن يعمل بصمت ولا ينتظر دعما من أحد… وذلك كلام فارغ بصراحة! الفنان من دون دعم هو فنان محبط… أهذا ما نريد؟ المزيد من المحبطين في البلد؟ ثم أن هناك ميزانيات ضخمة ترصدها الدول من أجل عملية الدعم هذه، فهل سألت نفسك أين تصرف هذه الميزانيات؟ وكيف؟ وعلى من وماذا؟

كثير من الدول لديها مؤسسات رسمية تحاول دعم الفنانين والمبدعين بل وحتى الرياضيين والعلماء، لكن واقعيا، وفي كل مكان بالعالم، تلك المؤسسات تعاني بكثير من الأحوال من أمراض انتقلت لها عدواها من المجتمع الذي تتواجد في وسطه. فتعاني من التمصلح والمحسوبية والتأثر بالعلاقات الاجتماعية الشخصية والتأثر بالتوجهات السياسية أو العقائدية أو الطائفية أو العنصرية، وذلك أمر طبيعي… ليس سليما… لكن طبيعي بسبب التركيبة الثقافية للمجتمع. علينا كذلك أن نتكلم بصراحة ونقول بأن المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية ستسعى بطبيعة الحال لتشجيع نوع معين من الفنون قريب في غالب الأمر من التوجهات الفكرية والسياسية… “الرسمية”، وبالتالي وضع بعض القيود على المبدع أو الفنان تجعله في حالة من عدم الراحة!

ماذا عن المؤسسات الخاصة؟ الجاليريهات والأستوديوهات ودور النشر والمطابع ومساحات العمل والمعاهد الفنية الخاصة؟ ألا تقدم المساعدة للفنانين والمبدعين؟ نعم، تقدم المساعدة… لكن ليس ببلاش! فتلك المؤسسات الخاصة، في كل مكان في العالم، تبقى مشاريع تجارية، أي أنها حتى إن لم تسعى للربح فهي ستحاول تجنب الخسارة، فوراءها إيجارات ورواتب وفواتير يجب أن تدفع آخر الشهر، بالتالي لن تقدم “المساعدة” للفنانين راجية الأجر من الله! فرغم أن تلك المؤسسات تستفيد ماديا ومعنويا من تعاونها مع الفنانين والمبدعين إلى أنها في أغلب الأحيان تحملهم كذلك مصاريف تعاونها معهم. أضف لذلك أن تلك المؤسسات الخاصة مطلوب منها أن تنظر للأمر نظرة تجارية، فمن غير المعقول أن تعامل فنان ببداية طريقه الفني كمعاملتها لفنان “كبير” له جمهوره وسوقه الذي يرجى من ورائه منفعة. طبعا هذا ناهيك عن المصالح والشخصانية والمحاباة والتحيز وغيرها من الأمراض التي قد تشترك فيها بعض هذه المؤسسات الخاصة مع المؤسسات الرسمية، لكن ذلك ليس موضوعنا في هذا المقال. يجب أن أضيف كذلك بأن تلك المؤسسات الخاصة “زين منها” استمرارها بهذا المجال ضئيل الربح في أغلب الأحيان، يعني بإمكانها بسهولة أن تتحول إلى كافيهات أو معارض لبيع الدراعات أو الأثاث وتحقق أضعاف ربحها الحالي!

في الدول “المحترمة” اعتماد الفنانين والمبدعين ليس على “الحكومة” بشكل مباشر، لأن “المركزية” في تلك الأمور فكرة سيئة! بل الاعتماد يكون على المؤسسات الأهلية. المؤسسات الأهلية هي مؤسسات غير ربحية وجدت لتخدم فكرة أو فئة معينة بشكل واضح ومنظم وشفاف. نجد مؤسسات تركز على دعم فنون وتراث الأقليات مثلا، أو دعم فن الشباب الجامعي، أو دعم الفنون في الأحياء الفقيرة، أو مؤسسات تدعم الفن المعاصر، أو تدعم أدب الطفل أو تدعم السينما التجريبية… وهكذا. طبعا يشرف على تلك المؤسسات الخبراء والمتخصصون والناس الفاهمة… وليس موظفي الحكومة! تمويل تلك المؤسسات قد يعتمد جزئيا على الدعم الحكومي، أو على دعم مؤسسات أكبر منها، لكن جزء مهم من الدعم يأتي من أفراد المجتمع ذاتهم، وذلك أمر هام جدا.

اشتراك المجتمع بدعم الفن والأدب والثقافة أمر بغاية الأهمية، فذلك الدعم يجعل الفن جزءا من ثقافة ذلك المجتمع، يشعره بأهميته، يزيد من تقديره له. والعكس كذلك صحيح، الفنان المدعوم من قبل “الناس” سيتقرب منهم، سيعبر عنهم، سيتحمل مسؤولية أفكارهم وقضاياهم واهتماماتهم… بطريقته وفكره وأسلوبه وإبداعه الخاص طبعا! وذلك، برأيي، أفضل بكثير من الفنان الأناني أو المنعزل أو المنسلخ تماما عن المجتمع، أو الفنان التابع أو المدافع عن… الحكومة!

السؤال الآن… هل نحن كشعوب مستعدون لدعم الفنانين والمبدعين والمثقفين؟

ذلك سؤال كبير جدا ولا أملك له جوابا شافيا، لكني حاولت القيام بعملية استشفاف سريع لتوجهات الناس بهذا الخصوص. عندما أقول “الناس” فأنا أعني من يتابعوني على موقع تويتر 🙂

وضعت قبل أيام قليلة استبيانا بسيطا سألت فيه الناس مدى تقبلهم لفكرة تقديم تبرعات مادية لدعم عمل فني أو ثقافي، فكانت النتائج كما يلي:

تبرع لعمل فني

بداية من الواضح أن هذا الاستبيان ليس دراسة أكاديمية معتمدة، يجب أن أذكر ذلك بوضوح لكوني أستاذ جامعي وباحث أكاديمي، لكنه قياس بسيط لتوجه من يتابعوني أو يتابعون متابعيني على تويتر، وهم فئة بسيطة جدا من فئات المجتمع.

الآن، كيف نقرأ تلك النتائج؟

نلاحظ أولا أن ١٨٪ فقط من المشاركين لديهم استعداد تام وغير مشروط لتقديم الدعم لأي عمل فني أو ثقافي، يمكن القول أن هؤلاء هم المؤمنون بأهمية الفن والثقافة كفكرة مجردة بغض النظر عن أهداف ذلك الفن أو شكله.

١٦٪ لا يفكرون بدعم المشاريع الثقافية لاعتقادهم بوجود أشياء أهم تستحق الدعم، أي أنهم غير مؤمنين بأن الفن أو الثقافة ذوات أهمية كبرى مقارنة بمساعدة المحتاجين أو المساكين أو اللاجئين وغيرهم. ١٠٪ لديهم نوع من الاهتمام بالدعم، لكنهم لا يستطيعون المساعدة بسبب ظروفهم الخاصة. من ذلك يمكننا القول أن ٢٦٪ من الشاركين لن يقدموا دعما لعمل فني أو ثقافي لو طلب منهم ذلك.

الآن، النسبة الأكبر والأهم، ٥٦٪، أكثر من نصف المشاركين، يربطون بين دعمهم للعمل الفني أو الثقافي وبين كون ذلك العمل “هادفا”. أثار هذا الخيار تسؤلات عدة، فكيف نعرّف ما هو العمل الهادف؟ طبعا كون العمل “هادفا” غير مهم بالنسبة لنا، لأن كل منا له تعريف مختلف لما هو هادف، لكن الغرض من هذا الخيار هو استشفاف وجود ارتباط مشروط بين تقديم الدعم وبين الإيمان “بفكرة” العمل المقدم. بمعنى آخر “لن أقدم الدعم لأي سائل، لابد من أن “يعجبني” ما سيقدم حتى أعطيكم من مالي!” أي أن هؤلاء الأغلبية لن يسارعوا بمد أيديهم لجيوبهم بمجرد أن يطلب منهم أحد ما تبرعا لدعم عمله الفني، وتلك نقطة هامة.

جماعة العمل “الهادف”، على خلاف جماعة “أفا عليك”، إيمانهم ليس بالفن كفن أو الثقافة كثقافة، بل إيمانهم هو برسالة ذلك الفن وتلك الثقافة، أي الفن والثقافة بالنسبة لهم هي أدوات وليست غايات. لن أناقش أي الفريقين أفضل أو أيهم على حق… فذلك موضوع كبير ومختلف، لكن يجب أن نفهم كيف نتعامل مع كلا الفريقين.

الغالبية الساحقة من المشاركين لن يقدموا الدعم لعمل إلا بعد اقتناعهم بفكرته، وذلك يعني أن على الفنان أن يكون قادرا على إقناع الناس بما يقدم، أي يجب أن يأسرهم بعمله أو يقنعهم بأهميته، وتلك مهارة من المفترض أن يكون الفنان قد تدرب عليها. ليس جميع الفنانين لديهم تلك القدرة أو المهارة.

وهنا يأتي دور المؤسسات الأهلية التي ذكرتها أعلاه، فمن الأسهل أن يقتنع الناس بفكر مؤسسة يشرف عليها خبراء مختصون، وتحمل أجندة واضحة وشفافة، فيقدمون لها أموالهم بثقة أكبر لعلمهم بإنها ستدير تلك الأموال ناحية ما يوافق تعريفهم لما هو “هادف”. 

بشكل عام، رأيي أن الوضع الحالي ليس جيدا للفن والثقافة، بل هو وضع محبط للكثير من المبدعين، وهو وضع لن يتحسن ولن يتطور إن بقيت الأمور على ما هي عليه. تكاليف الفن عالية جدا… وستستمر بالارتفاع، مؤسسات دعمه الرسمية وشبه الرسمية تعاني من مشاكل عدة، المؤسسات الفنية الخاصة تركز على الجانب التجاري وغير مهتمة بفكرة دعم غيرها… لأن “اللي فيها مكفيها”، والمؤسسات الشعبية هي العامل الناقص لدينا، وعلينا أن ننتظر ظهورها حتى نعيد تقييم الوضع، فهل سنحبس الأنفاس حتى ذلك الوقت؟

فخ الحريات في قانون تنظيم الإعلام الإلكتروني الكويتي

فخ الحريات

 

قد يكون مر عليك كتيب إلكتروني يحمل عنوان قوانين غير دستورية يحوي نصوص وتاريخ قوانين أقرها مجلس الأمة الكويتي… ولكن بها شبهة مخالفة مبادئ الدستور، كالقوانين المقيدة للحريات أو المنتهكة لحقوق الإنسان أو الممارِسة للتمييز العرقي أو الجنسي أو غيرها من المبادئ المناقضة لروح الدستور. فحسب النظام الديموقراطي الكويتي الدستور هو الأساس، والقانون موجود لتطبيق ذلك الدستور عمليا، فلا يجوز أن تخالف القوانين التي يصدرها مجلس الأمة مواد الدستور، لكن يحدث أحيانا – لسبب أو لآخر – أن تحصل بعض القوانين على أغلبية نيابية ومباركة حكومية وسكوت شعبي رغم فداحة محتواها! بالطبع فإن مثل تلك القوانين من المفروض أن تعدل بواحدة من طريقتين، إما باقتراح قوانين جديدة، أو بإحالتها للمحكمة الدستورية. لكن بما أننا شعوب كسولة في بعض الأحيان، أو متواطئة مع الظلم في أحيان أخرى، بقيت تلك القوانين غير الدستورية على حالها!

تصحيح… لم تبق القوانين غير الدستورية على حالها… بل أنها ازدادت وتكاثرت مؤخرا، ومن المفترض زيادة فصول الكتيب آنف الذكر وتحويله لكتاب… أو مجلد… لمواكبة الفاجعة الدستورية التي نرضخ تحت طائلتها!

 

(مشروع) قانون تنظيم الإعلام الإلكتروني

أحدث القوانين التي يجب أن تضم إلى كتيب العار هو ما يطلق عليه اسم (مشروع) قانون تنظيم الإعلام الإلكتروني، والذي ستعرضه الحكومة على مجلس الأمة، المجلس الذي إن استمر على ما عهدناه – وعهدنا شعبنا عليه من سلبية – سيقر ذلك القانون وسيصبح ساريا ومطبقا على رقاب وأفواه الكل.

الظاهر من القانون هو أنه قانون ينظم النشر الإعلامي الإلكتروني، أي يعطي القانون قوة على النشر الإلكتروني تعادل قوته على النشر التقليدي. أي أنه كما تحتاج الصحف إلى إصدار تصريح ينظم عملها وتخضع لرقابة لاحقة على محتواها (لكي لا تنشر ما هو مسيئ أو مخالف)، فإن هذا القانون الجديد جاء (ظاهريا) لتنظيم بعض المواقع والخدمات الإعلامية الإلكترونية كذلك، تجنبا لحالة الفوضى والفراغ القانوني الذي تعاني منه الآن.

قد تتفق مع هذا الهدف (الظاهري) أو لا تتفق، أنت حر برأيك. مشكلتي شخصيا ليست مع “الظاهر” بل مع “الباطن“.

القانون باختصار شديد يلزم “المواقع الإلكترونية الإعلامية” بالحصول على ترخيص من وزارة الإعلام لممارسة أعمالها، وطبعا ذلك وفق شروط محددة، كأن يكون المقدم كويتي الجنسية لا يقل عمره عن ٢١ سنة، أن يودع مبلغ ٥ أو ١٠ آلاف دينار، أن يعين مديرا للموقع، أن يحدد نشاط الموقع… الخ.

يُخضع القانون الموقع الإلكتروني لشروط عديدة، أهمها هو تحري “الدقة” بما ينشر فيه، وتجنب نشر “المحظورات” من المواضيع التي حددها قانون المطبوعات.

وطبعا مخالفة بنود القانون تعرض صاحب الموقع لعقوبات تتراوح بين إلغاء التصريح أو وقفه أو حجب الموقع… نهائيا أو مؤقتا، وذلك بالإضافة طبعا لعقوبات قانون المطبوعات التي تتراوح ما بين الغرامة وتصل حتى السجن!

ذلك ما كان من أمر المواقع المصرح لها. طيب، ماذا عن “المواقع الإلكترونية الإعلامية” التي لم تتقدم للحصول على تصريح؟ ما عليها شي؟

لا طبعا… عليها ونص!

من يمارس الأنشطة المذكورة بالقانون دون ترخيص يعاقب بغرامة تتراوح ما بين ٣ إلى ١٠ آلاف دينار، مع حجب الموقع نهائيا!

السؤال الأساسي الذي حير الخبراء والعلماء في هذه المسألة هو:

ما هي “المواقع الإلكترونية الإعلامية” أصلا؟!

وهنا تكمن المصيدة!

 

المصيدة الإلكترونية

المادة ٤ من (مشروع) القانون تنص على التالي:

يسري هذا القانون على المواقع الإعلامية الإلكترونية التالية:
١. دور النشر الإلكتروني.
٢. وكالات الأنباء الإلكترونية.
٣. الصحافة الإلكترونية.
٤. الخدمات الإخبارية.
٥. المواقع الإلكترونية للصحف الورقية والقنوات الفضائية المرئية والمسموعة.
٦. المواقع والخدمات الإعلامية التجارية الإلكترونية.

أغلب هذه التعريفات واضحة وقد تكون مقبولة، أي أن وكالات الأنباء أو الصحف أو دور النشر “مؤسسات” مطلوب منها إصدار تصريح على أي حال لمزاولة عملها “التقليدي”، بالتالي من الممكن أن نتقبل “مبدأ” ضرورة الحصول على تصريح لنشاطها الممتد إلكترونيا. قد يكون لدينا اعتراضات إجرائية على ذلك… لكن “سنطوفها” حاليا.

لكن، إذا انتبها لمنتصف الأنشطة المذكورة سنجد في البند ٣ كلمة مبهمة وهي “الصحافة الإلكترونية“… وهنا يدق ناقوس الخطر!

 

ما هي “الصحافة الإلكترونية”؟

إنها كلمة مطاطة بالفعل! هل مدونتي هذه تدخل ضمن تصنيف “الصحافة الإلكترونية”؟ هل حسابك على الفيسبوك أو تويتر أو سناب تشات يدخل ضمن “الصحافة الإلكترونية”؟

تصريحات الحكومة الكلامية تقول “لا، لن نمس بالمدونات والمواقع الشخصية!“، ومرة أخرى نسأل، ما معنى “شخصية”؟ شخصية في ذات من يملكها؟ أم شخصية في محتواها؟ هناك فرق كبير بين الأمرين!

قد تنقذنا من هذه الحيرة المذكرة الإيضاحية التي تنص على التالي:

“ويستفاد من الحصر السابق للمواقع الإعلامية الإلكترونية [المادة ٤] أن القانون لا ينسحب أثره على الحسابات الشخصية الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الشخصية مثل (المدونات) وذلك لكونها تخرج عن نطاق الإعلام الإلكتروني المهني وبالتالي تنطبق عليها القوانين الأخرى”

تمام، لكن هنا نلاحظ ورود مصطلح جديد، وهو “الإعلام الإلكتروني المهني“، ما المقصود بذلك؟!

المادة الأولى من القانون تعرف “الموقع الإعلامي الإلكتروني” بأنه:

“الصفحة أو الرابط أو الموقع أو التطبيق الإلكتروني الذي يتصف [بالاحترافية]، ويصدر [باسم] معين وله عنوان [إلكتروني] محدد، وينشأ أو يستضاف أو يتم النفاذ إليه من خلال شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت” أو أي شبكة اتصالات أخرى.”

وذلك كما نلاحظ وصف لآلاف المواقع والمدونات والحسابات التي نعرفها، الفيصل الوحيد هو صفة “الاحترافية” والتي لا أدري من أين جاءت وكيف يمكن تحديدها!

من ناحية أخرى نفس المادة تعرف “الصحيفة الإلكترونية” بأنها:

“موقع إلكتروني يقدم من خلاله المحتوى الإلكتروني المتضمن الأخبار والموضوعات والمقالات ذات الطابع الصحفي أو الإعلامي وتصدر في مواعيد منتظمة أو غير منتظمة”

يا إلهي! الأخبار عرفناها، “الموضوعات والمقالات ذات الطابع الصحفي أو الإعلامي” ماذا تعني؟ المقالات مثلا؟ الأفلام الوثائقية؟ مرة أخرى… مدونتي تحوي مقالات ومواد إعلامية مصورة قد تكون “احترافية” وتصدر في موعيد “غير منتظمة”، فهل مدونتي تعتبر “صحيفة إلكترونية” و”موقع إعلامي إلكتروني”؟ أم أنها موقع شخصي ولا يدخل ضمن نطاق “الإعلام الإلكتروني المهني“؟

تصريحات الحكومة شيء، ونصوص القانون شيء آخر. عندما يصدر قرار إداري أو حكم قضائي فإن الفيصل فيه هو نص القانون… وليس تصريحات الوزير!

ما معنى الشخصانية عندما تتحدث المذكرة الإيضاحية عن عدم مساس القانون بـ”الحسابات الشخصية” لأنها لا تدخل ضمن “نطاق الإعلام الإلكتروني المهني“؟ هل “شخصية” تعني أنها تابعة لشخص وليس لمؤسسة؟ ماذا عن المدونات التي يشرف عليها مجموعة من الكتاب والمحررين المستقلين؟ ماذا عن حسابات اليوتيوب التابعة لفرق الهواة من الفنانين؟

هل تحتاج الصحف ودور النشر مثلا لترخيص إن أرادت أن تنشأ لنفسها حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتواها؟ لا؟ طيب، ماذا لو قام مدير تحرير إحدى هذه الصحف بإنشاء حساب “شخصي” على الفيسبوك مثلا وقام بنشر نفس المحتوى؟ ماذا لو قمت أنا الفرد الفقير لله بنشر ذات المحتوى على مدونتي؟ هل مازالت هذه “البدائل” تدخل ضمن تعريف “الحسابات الشخصية” أم أنها ستتحول إلى “إعلام إلكتروني مهني“؟ إذا بقيت “شخصية” فتلك الفوضى بعينها! ما فائدة القانون إذن؟

المسألة “الشخصية” هنا من الممكن اعتبارها تتعلق بمحتوى الموقع الإلكتروني وليس بشخص صاحب الموقع، أي أن “الموقع الشخصي” قد يعرف بأنه الموقع الذي يحوي مواضيع خاصة، كصور سفرتك إلى لندن، خاطرة أدبية كتبتها، رأيك في وجبة تناولتها في مطعم، تعبير عن أعجابك بمسلسل تتابعه… الخ. أما إن كانت مواضيع موقعك أو حسابك تتحدث عن نقدك للسياسية الاقتصادية لمنظمة أوبك، ملاحظاتك لظاهرة اجتماعية جديدة، رأيك في صراع سياسي إقليمي دائر، دفاعك عن قضية إنسانية محلية… الخ، عندها قد يأتي إليك من يقول بأنك قد خرجت بمواضيعك هذه عن نطاق “الموقع الشخصيودخلت في الشأن العام… وبالتالي فإن موقعك أو حسابك أصبح من ضمن “الإعلام الإلكتروني المهني“، لذلك عليك أن تودع في خزينة الدولة ٥ أو ١٠ آلاف دينار لتستخرج تصريحا يضمن لك استمرار موقعك، هذا بالطبع على اعتبار أنك كويتي لا يقل عمرك عن ٢١ سنة وتنطبق عليك جميع الشروط… وإلا ابحث لك عن كفيل!

القانون غير واضح بشكل مريب جدا، فكلمة “مؤسسة” لم ترد فيه، فعلى خلاف دور النشر والصحف والخدمات الإخبارية فإن كلمة “الصحافة الإلكترونية” لا تعريف لها لا في هذا القانون ولا غيره من القوانين، وكأنها وضعت بنية اللجوء لها من قبل الحكومة “عند الحاجة“.

فإن نشرت في موقعك أو حسابك الخاص أي شيء تراه الوزارة بأنه غير “شخصي” بإمكانها أن تغلفه بغلافالاحترافية” و”المهنية” وتجبرك على إصدار التصريح… وإلا تعرض نفسك للمساءلة وتحال للنيابة وقد تدفع غرامة ما بين ٣ إلى ١٠ آلاف دينار بتهمة مزاولة نشاط دون ترخيص، ويحجب موقعك نهائيا ومباشرة دون الحاجة لحكم من المحكمة!!

مرة أخرى، نصوص القانون والمذكرة الإيضاحية له (كما فصلت) هي ما يمكن الاستناد عليه بنظر القضاء، التصريحات والكلام المطمئن والمخدر والمدغدغ للعواطف لا فائدة منه، بل هو أسلوب يستخدم لاستغفالك وجعلك تبلع الطُعم دون أن تدري. هل تثق بالحكومة ووزارة الإعلام ثقة عمياء ومستعد لتسليمها “الخيط والمخيط” لأنها “أبخص” وتعرف ما تفعل من أجل “حفظ الأمن والأمان” و”زين تسوي فيهم“… و”وطني حبيبي وطني الغالي“؟! هنيئا لهم حصولهم على ثقتك هذه، أما أنا ومن خلال اطلاعي وخبرتي وتجاربي مع وزارة الإعلام بالذات… بصراحة… لا أثق بإعطائهم تلك السلطة المتمثلة ببنود هذا القانون بصورته الحالية، ستكون كارثة جديدة سنندم ونبكي عليها كثيرا بعد فوات الأوان!

 

طيب وما الحل؟

هناك عدة أمور يمكن اللجوء لها لمقاومة (مشروع) القانون هذا. عمليا، إن تم إقرار القانون فسينتعش سوق الحسابات الوهمية. شخصيا سأغير اسمي من مؤيد إلى “فريد“! ولندع وزارة الإعلام تلاحق هذا الـ”فريد” الذي ينشر تدويناته وتغريداته من حسابه الذي أنشأه في جمهورية الدومينيكان! نعم ذلك ليس حلا منطقيا… لكنه قد ينفع في هذا الزمن المظلم.

الحل الأصح هو الوقوف الجاد في وجه هذا القانون المشبوه وعباراته المطاطة!

نعم، يجب أن يرفض مشروع القانون هذا بشدة ويقتل في مهده. حتى الآن هناك أمل، فمشروع القانون هو مسودة أساسية، يجب أن يعرض على مجلس الأمة ويناقش ويقر بالأغلبية حتى يصبح ساريا. وهذا الأمر مخيف، فأعضاء مجلس الأمة الحالي يخشى منهم بصراحة بسبب مواقفهم السابقة. فمشروع قانون الصوت الواحد أقر من هذا المجلس، وقانون البصمة الوراثية أيضا أقر من قبل قبل هذا المجلس… ومن دون حتى مناقشة! لذلك إن تُرك أعضاء المجلس بحال سبيلهم فأقولها لكم… على الحرية السلام!

لابد من إثارة هذه القضية شعبيا بين أوساط المدونين والمغردين وغيرهم من أصحاب الشأن، كما يجب إثارتها ثقافيا بين أوساط الإعلاميين والحقوقيين والأكاديميين. يجب إيصال صوت الرفض لهذا المشروع وصيغته المهلهلة إلى أعضاء مجلس الأمة والضغط عليهم لرفضه… أو على الأقل تعديله. ونعم، إن تطلب الأمر فلا خير فينا إن لم ننزل للشارع للمطالبة بحريتنا، فحريتنا على الإنترنت هي آخر أعواد القش التي نتمسك بها… إن فقدنها فمصيرنا هو الغرق في بحر العار!

عندما منعت كتبنا قيل لنا “انشروها على النت” أو “انشروها خارج الكويت وسنشتريها عبر النت“. عندما أقفلت صحفهم قالوا “ما حاجتنا للورق، لدينا فضاء الإنترنت!“، عندما قيدت تجمعاتكم ومسيراتكم قلتم ““لا تنفروا في الحر”، لديكم الإنترنت… فغردوا كما تشاؤون فيه!“. فكيف ستصنعون إن منع عنكم التعبير على النت؟

أو لا تفعلوا شيئا، سيكون النت جميلا إن تفرغ له أهل البلع والبوح والتهريج… والفاشينيستا!

للكويتيين فقط

للكويتيين فقط
 

قبل أن أبدأ كلامي علي أن أقر بأن موضوع تخصيص مستشفى جابر للكويتيين غير هام بالنسبة لي حاليا! فالمستشفى لم يجهز ولم يفتتح ولا أحد يعلم متى سيدخله أول مريض، مشروع كان من المفترض أن يفتتح بشهر ديسمبر ٢٠١٣، ونحن الآن بمنتصف أكتوبر ٢٠١٥ ولسنا نرى ضوءا بمدخل بوابة المستشفى بعد. فلو كنت سأناقش المستشفى بحد ذاته لناقشت سبب تأخر إنجازه ومدى ما صرفت عليه من تكاليف، لكن ذلك أيضا ليس من ضمن اهتماماتي. لكن الضجة الإعلامية التي صاحبت التصريح بنية جعله مخصصا للكويتيين أثارت لدي الكثير من التساؤلات.

أكتب هذا المقال بمنتصف شهر أكتوبر ٢٠١٥، فأين المستشفى؟
أكتب هذا المقال بمنتصف شهر أكتوبر ٢٠١٥، فأين المستشفى؟

[tooltip text=”Tooltip Text”] [/tooltip]

السؤال الأساسي الذي سأطرحه وأحاول الإجابة عليه هو: هل أساس اتخاذ قراراتنا ومواقفنا مبني على تحقيق مصلحتنا الخاصة؟ أو تحقيق مصلحة الأغلبية؟ أو تحقيق مصلحة أصحاب السلطة؟ أو تحقيق مصلحة عامة أسمى؟

لا تتسرع بالإجابة!

لنأخذ مستشفى جابر كمثال. نعم، أنا كمواطن كويتي أعيش في دولة الكويت من مصلحتي بأن يخصص لي مستشفى خاص بأبناء بلدي يتلقون فيه رعاية عالية المستوى دون ازدحام ولا تعطيل. لا أحد منا يعاف الحصول على خدمة مميزة ومعاملة خاصة تشعره بأهميته. إذن، ككويتي من المنطقي أن أؤيد تخصيص مستشفى جابر للكويتيين، لأن في ذلك تحقيق لمصلحة لي، لا خلاف على ذلك.

الكويتيون ليسو أغلبية في وطنهم، لذلك إن نظرنا للموضوع من ناحية الأغلبية فإن تخصيص مستشفى جابر للكويتيين لن يحقق مصلحة الأغلبية بشكل مباشر. لكن إن اتجه الكويتييون إلى هذا المستشفى الجديد فسيخف الضغط على بقية المستشفيات، بالتالي سيجد الوافدون (وغيرهم) فرصة أفضل للحصول على العلاج ببقية المستشفيات. نعم بقية المستشفيات ليست بحجم مستشفى جابر، وليست جديدة ولامعة نفسه، لكن تلك ليست أمورا بغاية الأهمية. لكن، إن أمعنا التفكر بهذه النقطة فإننا سنجد بأن فتح مستشفى جابر لكافة الجنسيات سيكون له نفس التأثير، أي أن الضغط على بقية المستشفيات أيضا سيقل على كل حال. بالتالي فإن مصلحة الأغلبية ستتحقق بشكل أفضل لو فتح المستشفى لعموم لجنسيات بدلا من أن يخصص للكويتيين.

من ناحية أخرى لنا أن نطرح تساؤلا أكثر صعوبة٬ ماذا لو كان رأي أغلبية الكويتيين، ممثلا بقرار من مجلس الأمة مثلا، يساند مسألة رفض علاج الوافدين فيه؟ أو قياسا على ذلك، ماذا لو كان رأي أغلبية الشعب يصب ناحية اتخاذ قرار ظالم أو غير “أخلاقي” (كالقرارات المقيدة للحرية الشخصية مثلا)؟ هل تكفي الأغلبية لإقرار وتقبل هذا القرار؟ أم أنه لا بد وأن تأخذ المصلحة العليا السامية بالحسبان؟ تلك قضية أكبر قد لا يكون مكانها هنا ولكن لنضعها باعتبارنا على الأقل.

من ناحية أخرى فإن الكويتيين هم أصحاب القرار وأصحاب السلطة في وطنهم، لذلك إن نظرنا لمسألة تحقيق مصلحة أصحاب السلطة فإن قرار تخصيص مستشفى جابر للكويتيين قرار مناسب، كما أوضحنا بالفقرتين السابقتين. على فكرة، تحقيق مصلحة أصحاب القوة أو السلطة على حساب غيرهم من المستضعفين هو أحد تعريفات الإمبريالية.

 

المصلحة الأعلى والأسمى، أي رعاية مصالح جميع البشر دون تفرقة أو تمييز، هو أنبل ما يمكن أن يسعى له الإنسان. هو ما تنادي به الأديان والشرائع والدساتير والقوانين الدولية، هو ما تفاخر به الدول المتحضرة، هو ما نشعر بالغبطة عندما نقرأ أو نسمع عنه بتلك الدول المتحضرة، ما نطرب عندما نسمع أحمد الشقيري يتغنى به كل رمضان بخواطره! لا يوجد ذو عقل وضمير يرفض مبدأ تحقيق المصلحة الأعلى والأسمى، لكن ذوو أولئك العقول والضمائر قد يتناقصون عندما يعلمون بثمن تلك المصلحة العليا!

لا يمكن تحقيق مصلحة عامة دون تضحية من أصحاب المصالح الخاصة! ذلك واقع مر لابد من تقبله. لو كانت العدالة سهلة لما شقى أحد. الكويتييون أصحاب سلطة في وطنهم، وبإمكانهم بحكم سلطتهم أن يقروا من القوانين ويتخذوا من الإجراءات ما يحقق مصلحتهم ولن يستطيع أن يوقفهم أحد… “ومن لا يعجبه الوضع فليغادر البلد!“. إن كان هذا هو رأيك فهنيئا لك ضميرك المرتاح الذي يتيح لك نوما هانئا.

ككويتي أعيش في وطني يمكنني أن أعتبر نفسي محظوظا لحصولي على امتيازات لا تعد، امتيازات أساسية بالصحة والتعليم والسكن والأمن والتعبير، امتيازات قد لا تتوفر لذلك الوافد، ويوما ما قد لا تتوفر لأحفادي أو أبنائهم! لكني قبل أن أهنأ بهذه الامتيازات لا أملك إلا أن أسأل نفسي، هل أنا على استعداد لأشرك غيري بها؟ هل أنا مستعد للتنازل عن بعضها مقابل أن يحصل عليها غيري من البشر الأقل حظا مني؟ على ماذا سأحصل مقابل تنازلاتي هذه؟ وربما يجب أن أسأل نفسي سؤالا أعظم، هل قدمت أو فعلت ما يجعلني أستحق هذه الامتيازات التي أحصل عليها؟ أم أني أتمتع بها فقط بسبب تمييزي البيولوجي الذي أتاح لي ذكر كلمة “كويتي” في خانة الجنسية ببطاقتي المدنية؟ تلك أسئلة لا بد وأن يطرحها كل ذو ضمير على نفسه، أسئلة “النفس اللوامة” إن صح التعبير.

نحن ككويتيون (أو خليجيون) نواجه معضلة ثقافية ضخمة تطاردنا منذ عقود طويلة، وهي محاولة التخلص من “عقدة الثراء الجيولوجي” التي صاحبتنا منذ اكتشاف النفط تحت أقدامنا. كيف نبين للعالم (وأشقائنا العرب على وجه الخصوص) بأننا لسنا طماعين ولا جشعين رغم ثرائنا؟ كيف نبين بأننا أهل الجود والكرم والإنسانية؟ السبيل الأساسي الذي اتخذناه من أجل التخلص من الإحساس بالذنب يتمثل بتقديم “المساعدات” للآخرين، تقديم الأموال، القروض، بناء المستشفيات والمدارس، حفر الآبار، بناء الجسور والسدود… وغيرها من الأموال الطائلة التي تخرج من ميزانياتنا لتصب في أرصدة الدول الشقيقة والصديقة (وحتى تلك الأموال يتحسر عليها البعض!). أو تلك الأموال التي تجمعها المؤسسات والجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء والمشردين والمصابين بالكوارث حول العالم، أو حتى موائد الإفطار وتوزيع قناني المياه في حر الصيف. بالنسبة لنا هذا “العطاء” هو مسعانا من أجل إبراء الذمة وإراحة الضمير و”إحنا سوينا اللي علينا وما قصرنا معاهم!“. لكن السؤال هو، هل مجرد تقديم المساعدات للغير أمر كاف لإثبات أننا “سوينا اللي علينا“؟

مفهوم “الخير” أو “العطاء” أو “الإنسانية” الذي تربينا عليه ورسخ في ثقافتنا مفهوم ناقص! فكأننا نقول “نحن نعطي المحتاجين من أموالنا على شكل صدقات وذلك كاف، ماذا يريدون أكثر؟ يريدون أن يشاركوننا في أرزاقنا؟!“. نعم، العطاء المادي هام جدا، لكنه ليس كافيا إنسانيا، أن تعطي المال للآخر متفضلا عليه وأنت تشعر بالأسى تجاهه… أوحتى القرف من حالته… فتلك صدقة يتبعها أذى! أخوك الإنسان ليس بحاجة لفضلة أموالك! هو محتاج لأن يشعر فعليا بأنك تهتم به كاهتمامك بأخيك أو ابنك، محتاج لأن يشعر بأنك تراه مساويا لك بالإنسانية… لا شخص مستضعف أساعده من باب تأدية الواجب! مفهوم “العطاء” الناقص الذي تربينا عليه وزرع بثقافتنا من خلال التربية والإعلام ممثلا بالدروس والمواعظ والأناشيد والدعايات التلفزيونية لا بد وأن يتغير إن أردنا أن نكون “إنسانيين”… لا متخلصين من عقدة.

قبل أن تجيب على الأسئلة التي طرحتها من خلال هذا المقال فكر جيدا، أنظر لها من كافة الجوانب، فكر بتبعات إجاباتك. ضع نفسك مكان ذلك المستضعف الذي ستتميز عنه، أو اقلب الأدوار، تخيل نفسك أنك أنت الغريب في دياره. لو كنت مغتربا، هل كنت ستسعى للاغتراب في وطنك؟ أم أنك ستغترب في بلد “متحضر”؟ تخيل نفسك في كلا البلدين ثم أجب. قارن بين ما يمكن أن تتنازل عنه أنت من امتيازات وبين ما يمكن أن يتنازل عنه ذلك “المتحضر” لك.

لن أقدم أمثلة، ولن أطرح حكما ومواعظ، كل ما أطرحه هنا هو الكثير من التساؤلات التي لن يستطيع أن يجيب عليها أحد غيرك.

جراحة دون تخدير

wounded

 

كلامي القادم سيكون مرا، وربما مؤلما، لبعض الناس، لكنه رأي من الضرورة أن يقال بلا مجاملة، وهي أسئلة لابد أن تطرح مهما كانت صعوبتها. أعلم أن جرح الكويتيين مازال مفتوحا، لكن هل ألم الجرح يعطي الضحية حق الانتقام العشوائي؟ وهل يجوز لأحد احتكار دور تلك الضحية؟

قبل الانطلاق في بناء هذا النقاش علينا أن نؤسس قاعدة واضحة له، فنسأل سؤالا محوريا: هل تحركنا القادم بعد أن شهدنا ما شهدنا من أحداث سيكون في طريق محاربة فكرة التطرف؟ أم مطاردة الجاني؟إن كان الجواب هو مطاردة الجاني… فالجناة كثر! إن أمسكنا واحدا سيظهر مكانه عشر، لأن فيروس مرضهم مازال منتشرا. أي قارئ لتاريخ المنطقة – بالغ التعقيد – سيعلم بأن للعنف لدينا تاريخ ضارب العروق، دور الجاني والضحية فيه متبدل باستمرار. فأي جانٍ سنطارد وأي جان سنترك؟! لو أمسكنا كل الجناة فكل البلد ستبات بالسجن! وإن قلت أو حاولت إقناع نفسك بغير هذا الكلام فأنت إما واهم أو منافق!

إن قلت بأن “هم” الجناة وأنت الضحية… فيالسذاجتك! لوم “الآخر” وتلبيسه التهم أساس الداء العضال الذي شل جسد أمتنا لقرون طويلة… بل وشل العالم أجمع، ونحن نعيش أعراضه إلى اليوم. أعتذر لتكرار الكلام، لكن كما قلت في الصورة الكبيرة، فعل “التأشير” على الآخر هو بالفعل مرض قومي عضال زرع في ثقافتنا وأنهك مجتمعنا البائس.فأي جانٍ سنطارد وجميعنا جناة؟ على أي “آخر” سنؤشر وكل منا “آخر” لغيره؟فلنصحُ إذن من هذا الوهم القومي الزائف!أليس الأجدر إذن أن نعود لأساسنا الذي سنبني عليه النقاش ونختار أن نحارب فكرة التطرف ذاتها بدلا من محاربة من نظن أنهم متطرفون (فقط لأنهم مختلفون عنا)؟

انتشرت في الخطاب الإعلامي والسياسي مؤخرا كلمات قمنا بترديدها بمناسبة ودون مناسبة، كلمات مثل تجفيف منابع الإرهاب وقطع رأس الأفعى وغيرها، وخرجت لنا مقترحات مكررة تصب في تيار قمع الفكر المتطرف ومنعه من الحركة والكلام والتعبير وحبسه وطرده وقطع دابره! طيب وبعدين؟ أتحدى المطالبين بقطع دابر الإرهاب وتجفيف منابعه أن يحدثوني بما هي الخطوة التالية لذلك؟ خلاص؟ سيخاف الإرهاب ويبتعد حتى يتلاشى عن الأنظار؟ كان غيرك أشطر! لن يتلاشى الإهاب ولن يتبخر في الهواء… بل سيعود ثانية بشكل مختلف ربما يكون أخطر من الأول، الأمر ليس فلما هوليووديا ينتصر فيه البطل بالنهاية.

بدلا من المناداة بالمحاربة والطرد والتجفيف وقطع الرؤوس… علينا أن ننادي بالمسالمة والترحيب والتقبل… بل وحتى التجاهل. لا، ليس ذلك كلاما رومانسيا حالما! بل هو الطريق الوحيد للخلاص الحقيقي مما نعاني منه… للأبد!

تصرفات البعض بالمسارعة بأخذ سكرين شوت لتغريدة يحسبها متطرفة كتبها هذا الشخص، ونقل فيديو لكلمة يظنها طائفية قالها ذاك، وكأن الأمر عبارة عن جمع للأدلة الجنائية لن يحل شيئا، بل إن نقلك لتلك الكلمات التي تراها طائفية أو مثيرة للكراهية تظهر مقدار الكراهية التي تملكها أنت بنفس النسبة! لأنها عملية “تأشير” بحد ذاتها. نقل كلمات الكراهية والتركيز عليها تعني تحسسك من الاختلاف الموجود بينك وبين ذلك الآخر…

ليش ما يحبني؟
ليش يعيب علي؟
ليش يتطنز على مذهبي؟
ليش يسب عايلتي؟
ليش يطالب بشي أنا ما أبيه؟

يا أخي كيفه! دعه يقول ما يريد… لماذا القمع؟

لا تقدم لي الحكم والمواعظ عن الأثر الخطير للكلمة فإني أحفظها أكثر منك! فكما أن للكلمة الخبيثة أثر فإن للكلمة الطيبة أثر أقوى.

ثقافة اللقافة لدينا متأصلة بشكل مرضي، ولابد من علاجها. وبرأيي فإن جرثومة اللقافة هي أساس التطرف الموجود لدينا دون منازع… وليس مجرد المناهج أو المنابر كما يحاول أن يقنعنا البعض! اللقافة هي التي تحركنا نحو انتقاد معتقدات الآخرين وأسلوب كلامهم وأشكالهم وتصرفاتهم، وهي المسبب الأول للحساسية من الآخر. بالتالي لكي تستطيع أن تقاوم التطرف عليك أن تتوقف عن تتبع كلمات الآخرين عنك، وتتوقف عن تدخلك بشؤونهم بحديثك عنهم… بالسر وبالعلن، وأركز هنا على نقطة السر والعلن. كونك – على خلاف المجاهر بالكراهية – تكنُّ عصبيتك في قلبك أو تحصر الحديث بها بين أهلك أو أصدقائك لا يجعل منك شخصا أفضل ولا أكثر تسامحا ولا أكثر “وطنية” من ذلك المجاهر.

لا تكن طفلا وتقول: “هو من بدأ!” … توقف عن تمثيل دور الضحيةاكبر! احتكارك لدور الضحية يعني أنك اختزلت آلام كل من تأذى بنفسك أو بطائفتك أو حتى بجنسيتك وعرقك، والآلام إنسانية ولا هوية لها… ولا تحتكر. فاحذر أن تأخذ الألم بشكل شخصي، احذر أن تكوّن ردة فعل انتقامية نتيجة لجرح. ودع عنك مسألة العزة والذلة والكرامة والإباء والخذلان… تلك قصص يرويها لنا المعلمون والملالية والشيبان ليسهل عليهم التحكم بنا! لا تنخدع بها! لا تعطهم الفرصة لينقلوا أمراضهم لك! لا يقصون عليك!

هل معنى ذلك أن نستسلم وندير الخد الآخر وننتظر الصفعة القادمة؟

لا طبعا! لكن ما أطالب به هنا هو مجرد الخطوة الأولى والأساسية لمحاربة التطرف، خطوة قتل الطائفي الخفي الذي بداخلنا. هي خطوة تمهد الطريق للقادم، تعقم السطح والأدوات التي سنجري بها عملية تنظيف الجروح ومحاربة جراثيم الثقافة كلها، ويالها من عملية مؤلمة!