أرشيف الوسم: تاريخ

ثقافة السور في العقلية الكويتية

أم الثلاث أسوار يا كويتنا !

ترى هل خطر لكاتب هذه الأغنية أن تلك الأم ستنجب أسوارا متعددة أخرى خلال الثلاثة عقود التالية؟ و هل كان سيفخر بأمومة الكويت لهذه الأسوار لو علم إلى أي طريق ستسير الثقافة السورية (من السور و ليس من سوريا) و إلى أين ستصل؟ و هل كان يدرك كيف تؤثر ثقافة السور علينا منذ عام 1760 إلى اليوم؟

تاريخ الأسوار الكويتية

قصة الأسوار الثلاثة الأولى (التي تغنى بها عبدالكريم) معروفة و مؤرخة بشكل جيد و كتب عنها العديد من المؤرخين ، وفقا لمعلومات ويكيبيديا حول هذا الموضوع فإن السور الأول بني عام 1760 و الثاني 1814 و الثالث 1920 ليهدم هذا الأخير عام 1957 لتبقى الكويت بعدها “سور فري” حتى ما بعد الغزو العراقي ، طبعا تلك الأسواركانت فعالة وقتها في صد أي هجمات أو اعتداءات برية على مدينة الكويت ، و كانت ضرورية -كما كان يعتقد- لضبط حركة الدخول و الخروج من المدينة عن طريق بواباتها ، و الحديث هنا عن الضبط الأمني و الضبط التجاري كذلك.

السور الرابع

السور الرابع له قصة مختلفة قليلا ، بدأت الكويت بتشييده… أو بتعبير أدق حفره… بعد الغزو العراقي ، طبعا على خلاف الأسوار السابقة فإن هذا السور لم يكن فعالا لصد غزو جديد مثلا! فالحروب اليوم لا تقف بالغالب عند الأسوار و الموانع و لنا في حرب أكتوبر و حرب تحرير الكويت خير شاهد على ذلك ، فما هو إذن الهدف من هذا السور و قد شارف القرن العشرين على الإنقضاء؟

أذكر بأني عندما كنت أسمع عن السور الرابع كنت أظن بأن الحديث هو عن سور معنوي أو رمزي ، فالأسوار التي تغنى بها عبدالكريم عبدالقادر ليست وسيلة دفاعية وحسب… بل هي رمز على اللحمة و التكاتف الاجتماعي و ذلك لتعاون أهل الكويت جميعا في بنائها و تشييدها في وقت قياسي كما تذكر المصادر ، كما أن تلك الأسوار لها قيمة سياسية حيث أنها ترمز للكيان الكويتي كوجود سياسي مستقل يبني على أرضه ما يشاء و لديه القدرة على صيانة نفسه و الدفاع عن أرضه بكافة الوسائل ، لذلك ظننت بأن الأمر يعني القيمة المعنوية للسور… أي كما كان يقال “شهداؤنا… سورنا الرابع“.

بالواقع فإن السور الرابع لم يكن سورا معنويا فقط… بل كان سورا حقيقيا على الحدود الكويتية العراقية ، فتم إطلاق حملة شعبية لجمع التبرعات لمشروع بناء السور ، أي أنه هذه المرة لم ينشأ بأيدي أهل الكويت بل بأموالهم ، السور كان عبارة عن خندق طويل بالمقربة من خط الحدود الشمالية مزود بوسائل رصد و حماية متطورة كأجهزة الإنذار و المراقبة بالإضافة للأسلاك الشائكة و المكهربة.

الهدف العملي للسور الرابع كان وقاية البلد من عمليات التسلل و التهريب التي انشرت بعد تحرير الكويت ، فقد شهدت الحدود الكويتية خلال تلك الفترة نشاط تلك العمليات التي يتم من خلالها إما هروب أفراد من العراق للكويت أو تهريب للبضائع أو الممنوعات عبر تلك الحدود ، و لعمليات التهريب تلك تاريخ طويل و لكن خطورتها اشتدت بعد الغزو بطبيعة الحال ، من ذلك ندرك بأن ذلك السور كان سورا حقيقيا و ليس معنويا و حسب و كان يؤدي (أو من المفترض أن يؤدي) وظيفة أمنية حقيقية و إن اختلفت العوامل العسكرية أو التكنولوجية المحيطة به ، و طبعا تم ردم و إزالة أجزاء من ذلك السور قبل حرب العراق عام 2003 و ذلك ليتاح للقوات العسكرية دخول العراق عبر الحدود.

للأسف فإن المعلومات التاريخية المتعلقة بالسور الرابع قليلة جد على الإنترنت ، و الأخطر من ذلك هو أن بعضها مغلوط و مقدم بشكل مفرغ المحتوى ، فتذكر بعض “المنتديات” نقلا عن مصدر “فلسطيني” كما تدعي بأن حملة التبرع لمشروع السور الرابع بدأت عام 2005 و هذا أمر غير صحيح ، فأنا أذكر تلك الحملة منذ أيام الثانوية.. يعني….. قبل 2005 و خلاص 😛 ، ثم أن مجموعة الفتاوى الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية: فتاوى عام/ 1992م 1412 – 1413 ه و الصادرة عن وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية الكويتية تشير إلى سؤال عن حكم التبرع لهذه الحملة ، و ذلك يدل على أن الحملة انطلقت منذ عام 1992 أو ربما قبل ذلك.

Veronica Holder - بوابة الجهراء عام 1961

السور الثقافي

كما ذكرت سابقا فإن الأسوار لها قيمة معنوية كبيرة لدى الكويتيين ، فهي مصدر فخرلهم لأنها بنيت بأيديهم (أو أموالهم!) و لأن الشعب تكافل و توحد لبنائها دفاعا عن أرضه و عن وجوده ، و هي ترمز للسيادة على الأرض و الاستقلال عن أي كيان آخر حيث أن لا أحد يستطيع أن يبني سورا على أرض غيره! و تمثل أحد أدوات فرض السلطة و التي تعتبر من مقومات قيام الدولة الحديثة ، و قد قدّر الكويتيون تلك القيم و احتفظوا ببوابات السور الثالث كشاهد رمزي عليها حتى اليوم.

من ناحية أخرى ، فالسور قد يرمز كذلك لحالة من العزلة… و ذلك أمر في غاية الخطورة!

أحد ادعاءات الأنظمة العراقية حول موضوع تبعية الكويت للعراق هو أن الكويت الحقيقية -إن كان هناك كويت- فهي تلك المنطقة الصغيرة التي تقع داخل ذلك السور الطيني! و تلك المنطقة المتناهية الصغر لا تستحق حتى أن تكون وطنا مستقلا! بالطبع فإن هذا الادعاء ليس صحيحا أبدا.. فالسيادة الكويتية كانت تمتد لمساحات أكبر من ذلك بكثير و كانت تتمثل بداية بالولاء القبلي لسكان المناطق المحيطة بالمدينة لشيوخ الكويت ، و تتمثل كذلك بالمنشآت و الممتلكات الكويتية التي امتدت خلال أزمنة متفاوتة حتى وصلت لمنطقة أم قصر و صفوان شمالا و حتى الخفجي جنوبا مخضعة إياها لسلطة الكويت و حكامها ، و قبل أن تتعالى الصيحات و الهتافات ضد أو مع هذه المعلومات أرجو الرجوع للكتب التاريخية المختصة.. فأنا لست خبيرا تاريخيا في مسألة الحدود الكويتية و لكني أعرض لكم ما قرأته في تلك الكتب دون أي دعاوى أو تلميحات من أي نوع ، المقصود من هذه الحقائق هو أن أسوار الكويت كما أن لها دور استراتيجي و عسكري لحماية المدينة و لها قيمة لإثبات شرعية الكيان الكويتي و إثباتا لسلطته بالإضافة للدور المعنوي الذي تحدنا عنه إلا أنه يجب أن لا نحملها أكبر من تلك القيمة ، فهي ليست حدودا عازلة بأي شكل من الأشكال ، لا تعزل الكويت عن ما يحيط بها و لا تعزل “كويتي” عن “كويتي أقل”!!


داخل السور… و خارج السور

و هنا يستمر الألم ، فالأسوار رغم قيمتها المعنوية الإيجابية أصبحت كذلك لها قيمة إنعزالية تتعلق بعلاقة الكويتي مع غيره و كذلك -كما يحلو للبعض أن يدعي- علاقة الكويتي “الأصلي” مع الكويتي “المو أصلي”.

أنا كويتي

فتأصل فكرة السور بالعقل الكويتي جعله يبني “حاجزا” وهميا بينه و بين غيره من الشعوب ، فيرى نفسه مختلف عن غيره و يجب أن يعامل وفقا لهذا الاختلاف ، إنه شعور “قومي” [1. هناك فرق بين فكرتي “القومية” و “الوطنية” ربما نتناولها في مواضيع مستقبلية ، فالأولى تعني الشعور بتفوق على بقية الشعوب و الثانية هي شعور مجرد بالارتباط بالأرض ] بالأفضلية على الغير ، فالآخرين جميعهم طامعون به و يحسدونه على ما هو فيه من نعمة ، و ذلك السور الوهمي في العقلية الكويتية ليس أمرا لا مستجدا و لا هو أمر متأصل بالعقلية الكويتية ، فقد أنشأ هذا السور أول مرة بعد اكتشاف البترول و التوسع المدني و العمراني في الكويت و الذي استدعى هجرة موسعة للآلاف من مواطني الدول العربية و الأجنبية للكويت بسبب عدم كفاية السكان “الأصليين” لسد حاجة وطنهم النامي للقوى العاملة أو للخبرات المطلوبة لبناء الوطن المتطور الذي سعت له الحكومة الكويتية آنذاك ، طبعا في ظل ذلك التقدم السريع و الخير المفاجئ الذي أصاب الكويتيين (مع تشجيع حكومي لمبدأ التوزيع -غير المدروس- للثروة) نشأ لدى الكويتي نوع من التضخم بالذات ، فأخذ يرى نفسه مميزا بعد أن “حباه الله” بنعمة البترول بعد قرون عجاف طويلة ، فظهرت نفسية “أنا كويتي” المتعالية على “الغير” الذي وفد إليها طمعا في تلك النعمة ، و من لا يطمع بالكويت؟ أليست هي ديرتنا التي “فيها اللي نبي“؟!

مرت العقود و لم يتغير ذلك الفكر الإنعزالي كثيرا ، ربما جاءت القومية العربية و الناصرية و المد الاشتراكي و الحركات الإسلامية و غيرها من الحركات السياسية و الاجتماعية و الفكرية التي حاولت مد جسر يوصل الأمة الكويتية بغيرها من أخوانها من الشعوب العربية و الإسلامية ، و لكن و مع بداية التسعينات حدث ما نسف جميع جهود تلك الحركات ! فالغزو العراقي للكويت قام بتحليل و تبخير أي وصلة حاولت العبور من فوق السور الكويتي ، فعدنا نبني السور مرة أخرى و نعالي في بنيانه لأن “العرب مافيهم خير”.. فلا القومية نفعتنا و لا الأخوة الإسلامية… لم ينفعنا إلا دينارنا ! و هكذا استمر ذلك السور الذي يعزل الكويتي عن الآخر ينمو و يعلى إلى اليوم.

السور الطرثوثي

هناك فكر آخر ضيق خناق ذلك السور من خلال تعزيز فكرة النخبوية الكويتية التي لم يكتفي بإرسائها كأساس للتعامل مع الغير.. بل حصر امتيازاتها على فئة معينة من الكويتيين هم فقط من “يستحقون” أن يحصلوا عليها ، فهناك من استند إلى السور كأساس “حرفي” لتقسيم المجتمع الكويتي ذاته إلى فئتين: فئة أصيلة و هي العوائل التي كانت تعيش داخل حدود أسوار الكويت الثلاث الأولى و هي من يستحق لقب الكويتي ، و فئة “غير أصيلة” لا تستحق ذلك اللقب لأنها -كما يدعي أصحاب ذلك الفكر- كانت و لا تزال غير محددة الولاء ، فهي فئة “مزدوجة” كانت تهيم في الصحراء بلا وطن محدد ولا جذور ثابتة تربطها بالأرض ، فهي كنبات الطرثوث الذي تظل جذوره مختفية تحت الأرض ليظهر فجأة بعد سقوط الأمطار و يستمد غذاءه متطفلا على غيره من النباتات.

طبعا إن أخذنا بالنظرة الطرثوثية بكون سكان داخل السور هم الأصيلين و سكان من هم خارجه مجهولو الأصل فإن هذا الأمر يعزز الإدعاءات العراقية التي ذكرناها سابقا بكون الكيان الكويتي إنما هو محصور بتلك المدينة الساحلية الصغيرة… و ذلك أمر بغاية الخطورة! و لكن و لله الحمد فإن الحقائق التاريخية ثابتة و متواترة حول دور قبائل “خارج السور” في حماية الكويت خلال حروبها و معاركها التاريخية المختلفة الأمر الذي يثبت ولاءها السياسي منذ القدم ، و مرة أخرى أقول بأن المعلومات التاريخية موجودة و موثقة بالكثير من الكتب و المراجع التي كتبها المتخصصون في هذه المسائل ، لست هنا لأناقش التاريخ بل لأناقش الأثر الثقافي لهذا التاريخ ، فما يهم الآن و بعد 54 عاما على هدم السور الثالث هو أن الفكر النخبوي الذي تمركز في عقول الكويتيين على مر السنين و جعلهم يبنون أسوارا وهمية تفصلهم عن غيرهم و تجعل لهم فضلا و قيمة لا يستحقها الغير قد ضاق لدى البعض و جعل ذلك السور يحيط بفئة معينة من الكويتيين ، و مصطلح السور إن كنت أتكلم عنه مجازا عند حديثي عن الحاجز الكويتي/الأجنبي فإني أتحدث عنه بشكل حرفي بالمسألة الكويتية/المزدوجة حيث أن أدبيات حملة ذلك الفكر تستخدم “السور” كرمز صريح في للتفرقة بين الكويتي الأصلي و غيره و تضعه شعارا أيقونيا لها!

هكذا نرى بأن السور له قيمة رمزية خاصة في الثقافة الكويتية ، فالسور وجد منذ القدم لحماية الكويت من أي خطر خارجي و أصبح هو وسيلة الحماية المفضلة لدى الكويتيين منذ القرن الثامن عشر و حتى اليوم ، هو رمز للفكر الكويتي الذي عوض صغر المساحة و قلة السكان بتوفير حماية كيانه عبر تلاحم و تكافل الشعب ضد أي أخطار بتشييد سور يحميه منها.. سواء كانت هذه الأخطار خارجية أو داخلية… حقيقية أم وهمية ، فبناها على أرض الواقع عندما ما استشعر الخطر الحقيقي ، و بناها داخل عقله عندما .. أحس بتهديد وهمي لذاته.

بكل تأكيد فإني هنا لا أدعي بأن ثقافة السور التي تحدثت عنها تمثل الفكر الكويتي بشكل عام! أنا لست بهذا السذاجة!! و لكني حاولت أن أقدم صورة عامة لما يمكن أن تمثله كلمة “سور” في العقل الكويتي كما استشفيت من قراءتي لتاريخ الكويت الثقافي و الأدبي ، فما قدمت إنما هو تحليل لما قرأت و سمعت و شاهدت مما يكتبه و يقوله و ينتجه بعض الكويتيون ، بالتأكيد فإن هناك الكثير من الكويتيين لا يتفقون مع الفكر “الطرثوثي” ، و آخرين ليس لديهم سور يحجزهم عن غيرهم من شعوب الأرض ، و لكن لا أظن في ذات الوقت أن هناك من الكويتيين من لا يعتزون بنوع من القيمة الإيجابية للسور الكويتي على مر التاريخ ، و يمكنني القول بأنني لا أعتقد بأنه من السهل على الكويتيين أن يتخلصوا من عقدة السور ، فأسباب الضعف و النقص التي يعانون منها مازالت تلاحقهم و تحثهم على بناء سور تلو الآخر… أسوار بقدر ما تحميهم… تعزلهم.

و الحامي الله..

——————-

حرب الخليج و محمد هيكل


محمد حسنين هيكل، حرب الخليج: أوهام القوة و النصر، القاهرة، ١٩٩٢

إن كان هناك ما أنقذ هذا الكتاب فهما أمران: بداية غزارة المعلومات التاريخية التي يحتويها ، ثم أسلوب هيكل السلس في صياغة هذه المعلومات و سردها بشكل سهل و فيه نوع من الترابط ، بالطبع فإن ما ساعد على هذين الأمرين هو خبرة الكاتب في مجال الكتابة الصحفية الموجهة بالغالب لعامة القراء ، والكتابة البسيطة لعامة القراء هي سلاح ذو حدين ، فهي شعبية و تجذب قراء من كل المستويات الثقافية ، و من ناحية أخرى قد تكون بسيطة أكثر من اللازم لتقترب من السطحية أو حتى السذاجة في بعض الأحيان!

غول البترول

كل مشاكل العالم في نظر هيكل سببها الغول القامع في قمقم منابع “البترول” ، فالبترول -بنظر هيكل- هو ما بنى أمريكا و جيش جيوشها و حرك تلك الجيوش ، و البترول في نفس الوقت هو سبب كل مشاكل العرب ، بل إن ما سبب البترول من مشاكل ومطامع طال حتى الإتحاد السوفييتي (رغم أننا نعرف اليوم أن روسيا تملك واحدا من أكبر احتياطيات البترول بالعالم).

دور البترول كقوة اقتصادية مؤثرة هو أمر لا يمكن إنكاره ، لكن مهما كانت أهميته لا يمكن أن يكون هو ذلك السبب الرئيسي بالشكل الذي صوره هيكل مغفلا أو متغافلا عن العوامل الأخرى المؤثرة كالعوامل الثقافية و الاجتماعية و التي و إن كان هيكل قد تطرق لها فإن طرحه صورها لا كعوامل أساسية بقدر ما كان استشهاده تأكيدا على نظريته البترولية! فالثقافة بترولية و المجتمع بترولي و السياسة بترولية و التاريخ بترولي بنظر هيكل.

تاريخ مسطح

و بالحديث عن التاريخ نجد أن الكاتب رغم غزارة معلوماته سطّح بعض الحقائق التاريخية و صاغها بما يناسب طرحه و هذه واحدة من أكبر المآخذ على هذا الكتاب ، فقضية الحدود العراقية الكويتية السعودية -على سبيل المثال- و هي واحدة من أعقد المسائل التاريخية قد اختصرها هيكل بأنها ناتجة عن خط رسمه “كوكس” على الخريطة في لحظة غضب و أن هذه الحدود لم تكن موجودة من الأساس بسبب الطبيعة “البدوية” لسكان هذه المنطقة التي كانت تتنقل بين بحار الرمال! و اختصر هيكل كذلك العلاقة السياسية و الدبلوماسية المعقدة بين الكويت و بريطانيا و الدولة العثمانية مصورا اتفاقية الحماية التي وقعت بين الكويت و بريطانيا و كأنها مؤامرة استعمارية تهافتت عليها بريطانيا لتسيطر على المنطقة و تهزم الخلافة العثمانية… بينما الواقع التاريخي يوضح بأن هذه المعاهدة لم توقع إلا بعد معركة دبلوماسية بين الأطراف الثلاث نتج عنها اتفاقية كانت بالأساس سرية لعدم رغبة بريطانيا لأن تكون طرفا في هذه المسألة من الأساس!

الطرح التاريخي المتعلق بالخليج و الكويت من ما يذكره هيكل كحقائق تاريخية هي بالواقع تنم عن نظرة بها نوع من “الاستشراق” الداخلي تصور منطقة الخليج على أنها مشايخ قبليّة رجعية بشكل أو بآخر ، و نحن هنا لا نقول بأن هذا الأمر غير صحيح أو حتى بأنه “عيب” يجب الخجل منه! و لكن ما أحاول قوله بأن طريقة عرض هيكل له قدمت بشكل نمطي و غير منصف إن صح التعبير.

إغفال اللب

إضافة لذلك ، و استكمالا للنظرة البترولية الهيكلية ، نجد الكاتب قد انجرف بتصوير حرب الخليج و كأنها حرب مصالح بين أمريكا و العراق… و له في ذلك مبرراته ، و لكن طرحه هذا كان فيه تجاهل واضح للجانب الإنساني من القضية ، و مرة أخرى نحن هنا لا ننكر دور “المصالح” التي حركت أطراف هذه الحرب… و لكن التركيز على مبدأ “التمصلح” أو “التمصلح البترولي” على وجه أدق أدى بهيكل لأن يغفل حقيقة الدافع الإنساني الذي حرك الشعوب لمساندة قضية الكويت و الحشد لهذه الحرب ، فمرور هيكل كان لا يتجاوز التلميح لما ارتكبته القوات العراقية في الكويت من جرائم إنسانية .. بل أدنى حتى من التلميح إن لم يبذل القارئ جهدا في استخلاص ذلك من كلام هيكل! فهو تناول كل ما حدث حول الكويت قبل الغزو و أثناءه و بعده (و ربما على عجالة لأميرها و حكومتها في المنفى) و تناسى ما حدث فيها و على أرضها و لشعبها رغم أن ذلك من المفروض أن يكون هو الأساس الذي قامت الحرب لأجله! و لكن يبدو أن هيكل تجاهل ذلك لأن فيه إضعاف لنظريته التي تعتبر المنطقة بترولا تحت رمال يرقد فوقها شيوخ القبائل قبل أن تكون شعبا و تاريخا و ثقافة… و تلك هي النظرة الإستشراقية التي اعتدنا عليها من الغرب.. و من أغلب العرب.

إضافة لذلك نجد بأنه حسب طرح هيكل لمجريات الحرب (وهي من المفترض بأنها حرب “تحرير الكويت“) نجده نسى تمام الهدف الأساسي (على الأقل المعلن) منها حتى أنه لينهي الفصل العاشر المعنون بـ”عاصفة الصحراء” صراحة بأن هدف الحرب تحقق بتدمير “الامكانيات العراقية” … دون حتى الإشارة إلى “هدف” تحرير الكويت من القوات العراقية الغازية!

هل أنصح بقراءة الكتاب؟

نعم..

بالنهاية فإن الكتاب بشكل عام يعتبر مصدرا تاريخيا غنيا ليس فقط بما يتعلق بحرب الخليج (أو حرب تحرير الكويت) بل بتاريخ المنطقة الحديث منذ بداية القرن العشرين و حتى العقد التاسع منه لا سيما لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (بغض النظر عن بعض التسطيحات المقصودة أو غير المقصودة كما ذكرنا أعلاه) ، كما أن الكتاب سهل القراءة كما ذكرنا سابقا رغم أنه يحوي أكثر من 630 صفحة ، و لكن يجب التعامل معه بحذر و قراءته قراءة نقدية لا تسلّم بكل ما ورد به على أنه هو الحقيقة الكاملة و الشاملة لحرب الخليج و “حروب البترول” كما أسماها الكاتب ، فهناك دائماً صورة أكبر و دوافع أعمق من البترول المجرد و مصالحه.

قد يوافق هذا الكتاب هوى الكثير العرب و بعض الأجانب لأنه يؤكد صورة نمطية تكونت لديهم خلال سنين طويلة ، كما أنه قدم رأيا مختلفا (أو كان مختلفا وقتها) عما كان شائعا عن الحرب عبر الإعلام و الأحداث السياسية المعاصرة للحرب ، و لكن ذلك لا يكفي اليوم و بعد عشرين عاما (أو أكثر) من انتهاء أحداثها ، فكلام هيكل و الفكرة العامة لنظريته (والتي لا زلت لا أختلف معها من حيث المبدأ) أصبحت اليوم شائعة و معروفة خاصة بعد حرب الخليج الثالثة (2003) ، و الخطر الكامن هنا هو بانقلاب حالة المعرفة العامة ليصبح كلام هيكل الذي كان ردا على حالة معرفية شائعة هو الأساس المؤكد بينما حقائق التسعينات و ما قبلها المخالفة له هي الأمر الشاذ! بمعنى آخر على القارئ عندما يقرأهذا الكتاب أن يضع باعتباره أنه كتب عام 1992 ، فإن كان القارئ عاصر ذلك التاريخ و ما قبله فإنه سيكون مكملا لما عاصره… أما إن لم يعاصر ذلك التاريخ فعليه أن يتذكر بأن هذا الكتاب يمثل وجها واحدا فقط للحقيقة… و التاريخ دائما متعدد الأوجه!

———–
تحديث:

إن كنت تبحث عن نقد مطول و أكثر “شراسة” للكتاب يمكنك الرجوع لكتاب “محمد حسنين هيكل و أوهامه عن القوة و النصر: حقائق حرب الخليج” لحنفي المحلاوي ، في هذا الكتاب يفند الكاتب مستعينا بكتابات كل من محمد جلال كشك و عبد العظيم ومضان العديد من المعلومات التاريخية التي صاغها هيكل في كتابه و يبين كيفية تلاعب هيكل بالألفاظ لتقديم صورة للقارئ قد تخالف ما هو حاصل بالواقع.

نجد في كتاب المحلاوي نقدا لاذعا لهيكل و اتهاما له بالكتابة مرتديا “الجزمة البعثية” كما يقول الانجليز! و يذكر بأن هناك تحيز واضح من هيكل نحو وجهة النظر العراقية و يستدل على ذلك بإنكاره للسبب الحقيقي للحرب و بتصويرها على أنها حرب عدوان على العراق و بأن هذه الحرب تفتقر للشرعية دون أدنى إشارة إلى كون العدوان العراقي على الكويت قد نسف كل أسس الشرعية من جذورها و صوره (تلميحا) كأنه حركة طبيعية استرد بها العراق الجزء السليب الذي اقتطعه منه الإستعمار الانجليزي.

من ناحية أخرى يعرض الكاتب اختلافات جذرية بين النسخة الإنجليزية من الكتاب (وهي التي طبعت أولا) و بين النسخة العربية ، و يتهم هيكل بأنه تلاعب في بعض الجمل و الألفاظ و زاد أو أنقص بعضها بحيث خرجت النسخة الانجليزية منه أشد قسوة على النظام المصري و أكثر دعما للنظام الأردني من النسخة العربية بحيث يكون الكتاب أكثر صلاحية للاستهلاك المصري ، كما يوضح أغلاطا جلية في بعض المعلومات التي أوردها الكتاب و التي أوقعت الإعلام المصري في حرج كحادثة تكذيب جمهورية أفريقيا الوسطى لمعلومة مشاركتها في حرب الخليج و إرسالها قوات للقاهرة طمعا في المساعدات المالية كما يدعي هيكل!

النقد في هذا الكتاب لاذع و شديد و لكنه في أحيان كثيرة يثري معلومات القارئ و يبين له على الأقل وجود وجهة نظر مختلفة و ينبهه على أن لا يأخذ بالمعلومة دون تحقق… حتى لو كان مصدرها محمد حسنين هيكل بجلالة قدره.

بينالي البندقية… حلم

ماهو البينالي؟

البينالي (بنيالي/بينيالي/Biennale/Biennial) هو نوع من المعارض الفنية تقام مرة كل عامين ، هذه المعارض تكون بمشاركات من عدة دول حيث يخصص لكل دولة جناح (أو بافليون Pavilion) تعرض فيه أعمال فنانيها المشاركين ، في نهاية كل بينيالي تقوم اللجنة المنظمة باختيار الدولة الفائزة بجائزة أفضل جناح بالإضافة للفنانين و الأعمال الفائزين بجائزة أفضل الأعمال الفردية.

هناك العديد من البيناليات العالمية الشهيرة في كثير من الدول مثل بينالي فلورانسا و الويتني بينيالي و بينالي موسكو و بينالي شنغهاي ، و هناك العديد من البيناليهات العربية كذلك مثل بينالي القاهرة و بينالي الشارقة ، و طبعا في الكويت لدينا بينالي الكويت و بينالي الخرافي.

بينالي البندقية

بالطبع فإن بينالي البندقية (فينيسيا) (The Venice Biennale/Biennale di Venezia) يعتبر واحدا من أقدم و أهم البناليهات بل و من أهم أحداث الفن المعاصر الدولية و التي يتم إنتظارها كل سنتين منذ عام 1895 و التي ستعقد دورته الرابعة و الخمسين هذا العام 2011 ، و هو طبعا يقام في مدينة البندقية Venice في إيطاليا بمشاركة العشرات من دول العالم حيث شارك بالدورة السابقة الثالثة و الخمسين (2009) سبعا و سبعين دولة و قام بزيارة أجنحة المعرض أكثر من 357,000 زائر.

بالإضافة للمعرض الرئيسي هناك أيضا معارض مصاحبة تشمل بينالي البندقية للفن المعماري و مهرجان البندقية السينمائي بالإضافة لمعارض و مهرجانات المسرح و الرقص و الموسيقى.

المشاركة العربية

رغم عراقة بينالي البيندقية إلا أن تاريخ المشاركات العربية فيه تعتبر حديثة نسبيا ، أول مشاركة عربية في مهرجان البندقية كانت لمصر (حسب علمي منذ 1952) و تلتها مشاركات لسوريا و لبنان و فلسطين و الإمارات التي تعتبر أول دولة خليجية تشارك في البينالي و ذلك في عام 2009 و بانتظار أن تشارك في معرض هذا العام أيضا بالإضافة للمملكة العربية السعودية.

المشاركة البحرينية

لعل أبرز المشاركات العربية كانت لمملكة البحرين و ذلك في بينالي البندقية للفن المعماري في عام 2010 حيث أنها لم تشارك فقط.. بل و فازت بجائزة الأسد الذهبي كأفضل جناح مشارك في المعرض !

جانب من الجناح البحريني في بينالي البندقية المعماري

جدير بالذكر كذلك أن ما ميز مشاركة البحرين هو كونها مشاركة فنية من التراث و التاريخ البحري الخليجي ، العمل المشارك عبارة عن ثلاثة أكواخ بحرية خشبية (عرزالات) يستخدمها الصيادون للجلوس و الراحة في وقت راحتهم ، المغزى من العمل هو بيان التحدي المعماري الذي يواجة المملكة في ظل التقدم المعماري المعاصر و معاناة الهوية المعمارية البحرينية في مواجهة هذا المد الثقافي الجديد.

Noura Al-Sayeh architect, co-curator of ‘Reclaim’ from epiteszforum on Vimeo.

العمل المشارك كان بإشراف وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي بنت محمد الخليفة و تنظيم الفنانين المعماريين نورة السايح و الدكتور فؤاد الأنصاري.

المشاركة الكويتية

حان وقت الدراما !!

طبعا الكويت إلى الآن لم تشارك في بينالي البندقية ، و لكن ليس هذا ما يهمنا بالموضوع.. ما يهمنا هو أن الحديث عن المحاولات الكويتية للمشاركة بدأ في عام 1962 بمقالة كتبها الفنان خليفة القطان بجريدة الهدف بعنوان “الكويت و معرض البندقية الدولي” ، كتب خليفة القطان هذه المقالة بعد أن زار بينيالي الـ1962 أثناء تواجده في إيطاليا لإقامة معرضه الفني الخاص هناك ، تحدث خليفة القطان عن مشاهداته في ذلك البينالي و عن تاريخه و تنظيمه و طالب بأن تسعى الكويت للمشاركة في معرض الـ1964 القادم بعد أن اقتصرت المشاركات العربية في المعرض الذي زاره على الجمهورية العربية المتحدة ! و ذكر خليفة القطان بأهمية أن تضع الكويت اسمها و ترفع علمها وسط الدول المشاركة بالبينيالي لأن في ذلك أفضل دعاية للثقافة الكويتية و التي كانت في ذلك الوقت في أمس الحاجة لها (و ما زالت).

طبعا خليفة القطان لم يكتف بالمطالبة و المناشدة بالمشاركة ببينالي البندقية… بل سعى مع مجموعة من زملائه للمشاركة الفعلية فيه… و لكن محاولاته باءت بالفشل لأن البينالي لا يقبل المشاركات الفردية بل يجب أن يقدم طلب المشاركة رسميا من قبل الدولة المشاركة ، و بما أنه لم توجد في الكويت جهة رسمية تمثل الفنون (و ما زالت.. تقريبا) فإن طلب الفنانين الكويتيين قوبل بالرفض.

خليفة القطان لم يكتف بمحاولة المشاركة الفاشلة… بل سعى لتكوين جهة رسمية تمثل فناني الكويت و تنظم أمورهم و تطالب بحقوقهم ، و تم له ذلك عام 1967 بتشكيل الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية والتي تمت تزكية القطان ليكون أول رئيس لها ، جدير بالذكر كذلك أنه من ضمن أوائل أنشطة الجمعية كانت تأسيس بينيالي الكويت و الذي أقيم أول مرة في ربيع عام 1969 بمشاركة ثمان دول عربية.

رغم حصول الكويت على بيناليها الخاص إلى أنه و بسبب البيروقراطية و انعدام الاهتمام و الجدية الحكومي و وجود الخلافات و الحزازيات بين الفنانين أنفسهم ظلت المشاركة في بينالي البندقية… حلما لم يتحقق ، مر 48 عاما على حلم خليفة القطان… و ها هي شقيقاتنا العربيات و الخليجيات تتسابق في المشاركة و الفوز بالبيناليات و المعارض العالمية و نحن ما زلنا … نحاول.

فهل موعدنا 2013 ؟

——–

مصادر:

موقع بينالي البندقية

معلومات عن البينالي

موقع designboom متحدثا عن فوز البحرين

موقع الجناح الإماراتي

شيخ الفنانين: خليفة القطان و الدائرية

مؤتمر جلاسجو (الجزء الثالث): طراز دبي و لاندسكيب لبنان

تيم كيندي من الجامعة الأمريكية في الشارقة تحدث عن التاريخ العمراني لمنطقة خور دبي ، ذكر كيندي أن فكرته عن الشرق كانت مستقاة من أفلام على بابا التي شاهدها في صغره و أنه عندما زار دبي وجدها كما توقعها في أحلامه!

قبل أن يرى دبي بعينيه قيل له أن الطراز المعماري في المنطقة تمت استعارته من مناطق مختلفة من العالم لعدم “وجود” طراز معماري محلي! كمثال على ذلك ذكر النقاد أن منطقة مثل شاطئ الجميرة إنما هي محاولة لتكوين شكل معماري إماراتي بينما هي بالواقع خليط معماري غير متجانس ، ‪فهي مدينة عربية “مزيفة” كما أسموها (رغم أنهم استمتعوا بالإقامة فيها) ، و لكن الشك سايره تجاه هذه الملاحظة ، و عندما أجرى أبحاثه وجد أن المنطقة مازالت تحتفظ بتاريخ تراثي و معماري ممتد.

مشكلة دبي كما يراها كينيدي هي أن هناك اهتمام “بشكل المعمار أكثر من الاهتمام بالمعمار ذاته” ، فالشكل البصري للمعمار ليس سوى جزء من التصميم المعماري ، بينما هناك عوامل أخرى لا تقل عنه أهمية كالمادة و الوظيفة و المكانة التاريخية ، و ذكر بأنه في دبي هناك اهتمام بصورة التاريخ أكثر من التاريخ ذاته ، و استشهد كينيدي بمقولة لرونالد بارت حول الفرق بين شكل المصارع و وظيفته التي لا تتعلق بالفوز بل بشكل الفوز.

كمثال على مبدأ الشكل و الوظيفة استشهد كينيدي بأسماء المناطق و المعالم ، فالاسم كما يذكر كينيدي شيء أساسي ، و معرفة كيفية حصول المكان على اسمه تعتبر قصة ترشدنا لتاريخ ذلك المكان ، و ذكر أن أسماء مناطق مثل ديرة و البطينة و الراس و البستكية جميعها تدلنا إما على تاريخ هذه المنطقة أو على أهمية موقعها الجغرافي ، و رأى بأن هناك فرق كبير بين هذه الأسماء التاريخية و بين أسماء المناطق الجديدة التي تحمل وصفا شكليا كمدينة الإنترنت و مدينة الإعلام و غيرها.

عبدالله كاهل من الجامعة الأمريكية في بيروت قدم ورقة بعنوان الهوية في فن اللاندسكيب اللبناني خلال القرن العشرين ، إقتراح الورقة هو أن فن اللاندسكيب اللبناني منذ فترة الانتداب الفرنسي خلال العشرينات مرورا بفترة الحرب الأهلية و حتي اليوم إنما يحمل رسائل فكرية موازية لنشأة “الدولة” اللبنانية.

تاريخيا لبنان لم تكن مركز اهتمام فني بالنسبة للمستشرقين ، فلبنان كانت تمثل محطة عبور بالنسبة لهم تجاه قبلتهم في فلسطين ، و لكن كانت هناك لوحات قليلة رسمت للطبيعة اللبنانية من قبل المستشرقين و هذه اللوحات يمكن أن تكون موضوعا للمقارنة مع الإنتاجات اللاحقة للفنانين المحليين الذين بدأ انفتاحهم على الفن الغربي خلال أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين ، و في بدايات القرن العشرين بدأ هؤلاء الفنانين المحليين بالتوجه إلى بيروت لأنها تعتبر السوق المناسب لهم لوجود الكنائس و الرعاة ، و خلال الثلاثينات و بعد إعلان مبدأ “لبنان الكبير” و توافد اللبنانيين من الجبل و الجنوب إلى بيروت بدأت المشاكل السياسية حول مواضيع تقسيم السلطة و رفض الوجود الفرنسي تطفو على السطح.

خلال تلك الفترة كان هناك توجه من قبل الفنانين اللبنانيين نحو فن اللاندسكيب و ذلك لعدة عوامل ، ففن اللاندسكيب أولا يعتبر محور اهتمام لجميع اللبنانيين بمختلف توجهاتهم و الفنان بذلك يضمن سوقا لأعماله ، و ثانيا يعتبر اللاندسكيب مفرا لبعض الفنانين الذي تعلموا في أوربا بعيدا عن مواضيع “النودز” التي تعتبر من المحرمات الدينية و الاجتماعية في المجتمع اللبناني المحافظ ، و السبب الثالث هو أن اللاندسكيب أيضا يعتبر مفرا من قضية “الهوية” اللبنانية في ظل الأجواء السياسية الحرجة ، فالمجتمع اللبناني يعتبر خليطا بين الحضارات العربية و الفينيقية بالإضافة إلى الأرمينية و غيرها (كما ذكرنا سابقا في موضوع بحر أوسطية لبنان) ، و اللاندسكيب يعتبر هروبا من التعبير عن هذه الهوية التي لا مفر من التعبير عنها عند تناول مواضيع البورتريه أو المباني أو المواضيع التاريخية.

رغم التجرد الظاهري لفن اللاندسكيب من البعد السياسي و الاجتماعي الا أن أعمال بعض الفنانين يمكن أن تفسر تفسيرا يعبر عن إسقاطات سياسية أو تاريخية تتعلق ببعض الحوادث أو القصص المتعلقة بالمنظر المرسوم كما يذكر عبدالله كاهل ، و من ناحية أخرى فإن أسلوب الرسم أو التعبير قد يكون له دلالات سياسية و اجتماعية و إن كان الموضوع مجردا منها ، و استشهد كاهل بأعمال الفنان رفيق شرف الذي تحدى الصورة الزاهية للطبيعة اللبنانية و قدمها بشكل أكثر سوداوية ، و أرجع هذا التقديم لخلفية الفنان الذي يأتي من خلفية شيعية تحمل شعورا سلبيا متعلقا بوجودها الاجتماعي في الكيان اللبناني.

و اختتم كاهل ورقته بالحديث عن فن مرحلة الحرب الأهلية و ذكر بأنه خلال هذه الفترة حدث تحول في مواضيع اللاندسكيب اللبناني ، فمواضيع اللاندسيكب الطبيعية اخذت بالهجرة إلى نحو داخل المدينة و تحولت إلى السيتي سكيب ، فالفنان اللبناني بعد أن كان يصور الطبيعة اللبنانية بجبالها و أنهارها و وديانها انتقل لتصوير المباني و الترسانات المصبوغة بالأعلام و الشعارات السياسية و التي من خلالها ظهرت للسطح الانقسامات الداخلية اللبنانية بعد أن كانت تحاول الاختباء طوال الأعوام التي سبقتها.

———–

ملاحظات:

– ما ينطبق على الحديث عن دبي ينطبق كذلك على العديد من المدن العربية و التي من ضمنها المناطق الكويتية طبعا !
– يبدو بأن المصير المشترك للعرب يخص مشاكلنا و خلافتنا أكثر من أي شيء آخر لأن عبدالله كاهل تحدث بشكل موجز عن مشاكل الفن اللبناني في الوقت الحالي و وجدتها مطابقة تماما لمشكالنا في الكويت !
– عندما بحثت عن الفنان رفيق شرف على جوجل وجدت بأن غالبية النتائج كانت تتحدث عن خبر وفاته !!

مؤتمر جلاسجو (الجزء الثاني): بين اسطنبول و موسكو و بيروت

خلال اليومين التاليين من أيام المؤتمر قمت بحضور مناقشات العديد من الأوراق العلمية تتعلق غالبيتها بموضوع النظرة الجديدة للفن الشرق أوسطي ، منظمة هذه المناقشات هي كريستين ريدينج منظمة المعارض في متحف التيت في لندن ، تهدف هذه الأوراق إلى تركيز الضوء على مفهوم جديد للفن الشرقي.

تاريخيا و حتى آواخر السبعينات من القرن العشرين كان ينظر لفن الشرق بمنظور تقليدي أسسه الكتاب و الفنانين المستشرقين الذي أظهروا المنطقة على أنها منطقة بسيطة و متأخرة حضاريا إلا أنها تملك سحرا شرقيا خاصا مرتبطا بمواضيع السلاطين و الخيام و الحريم و ليالي ألف ليلة و ليلة ، و لكن في عام 1978 كتب إدوارد سعيد كتابه الشهير “الاستشراق” و نبه فيه الأدب و الفن الغربي على أن هناك سوء في الفهم و أخطاء منهجية يعاني منها الباحثون في أمور منطقة الشرق الأوسط.

أولى الأوراق العلمية كانت بعنوان المجموعة البحر أوسطية: كنوز الفن العربي في منزل هنري فرعون قدمتها مي فرحات من الجامعة الأمريكية في بيروت ، خلال الربع الأول من القرن العشرين قام رجل السياسة اللبناني هنري فرعون ببناء بيته على الطراز العربي/الإسلامي التقليدي و بدأ بجمع ما استطاع من التحف و الآثار المتعلقة بالتاريخ اللبناني و تاريخ المنطقة بشكل عام ، تراوحت المجموعة ما بين الآثار العربية و الإسلامية و الفينيقية و التي جمعت من لبنان و سوريا و فلسطين و قبرص و غيرها من مناطق البحر الأبيض المتوسط.

تحدثت فرحات عن مفهوم البحر أوسطية و أن فكرة فرعون كانت أن المنطقة اللبنانية تتميز بتاريخ مشرك بين أعراق و حضارات مختلفة عاشت و تعيش في هذه المنطقة ، كان فرعون من خلال مجموعته هذه يهدف لأن يجمع بين الأعراق المختلفة من خلال التعدد العرقي لمجموعته و التعدد الرمزي للعناصر المعمارية الموجودة في المنزل ، فتم استخدام النقوش الإسلامية بجانب المسيحية بجانب الفينيقية و ذلك للدلالة على التآلف و العيش المشترك خاصة في تلك الفترة الحرجة من تاريخ لبنان بعد إعلان مفهوم لبنان الكبير و ظهور دعوات الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.

———–

ثاني الأوراق كانت بعنوان بين أوربا و آسيا: لوحات محطة قطار مدينة كازان في موسكو ١٩١٣-١٩١٦ و قدمتها إنيسا كوتينيكوفا من متحف جورنينجر في موسكو ، تتناول الورقة العلمية موضوع اللوحات و الجدارايات المعروضة في محطة قطار كازان و التي تمثل حلقة الوصل بين أوربا و آسيا الوسطى ، تلك اللوحات و الجداريات أتت متأثرة بحياة القرى و الأرياف التركمانستانية و بساطتها ممزوجة بالتراث و الأدب الروسي خاصة مع ارتباط فناني و أدباء الاستشراق الروس بالشرق الذي وجدوا فيه السحر الذي افتقدوه بالثقافة الأوربية.

جدير بالذكر أن فكرة الاستشراق الروسية تنظر للشرق على أنه منطقة آسيا الوسطى ، على خلاف النظرة الغربية للشرق على أنه منطقة الشرق الأوسط.

بالحديث عن الاختلاف الثقافي الجغرافي لمفهوم الشرق فإن فندا بيركسوي من جامعة اسطنبول التقنية ذكرت في ورقتها أنه بالثقافة التركية العثمانية يعتبر الشرق هو الجانب العربي و “البدوي” على وجه التحديد ، و ذلك يعطينا انطباعا بأن فكرة “الآخر” التي تحدث عنها إدوارد سعيد يمكن النظر إليها بشكل نسبي ، فالمجتمعات و الثقافات المختلفة لديها “شرقها” الخاص بها و الذي تعتبره أكثر بساطة منها و أقل تقدما.

تحدثت بيركسوي عن مفهوم “الاستشراق الداخلي” و عن نظرة المجتمع التركي “المتغرب” للتقاليد العثمانية و المناطق “النامية” (كما كان يطلق عليها) التي ظلت متعلقة بها على أنها “آخر” لا ينتمي لأفكارها “التقدمية” و ذلك خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى و في العشرينات و الثلاثينيات من القرن العشرين على وجه التحديد ، كتطبيق على ذلك تحدثت بيركسوي عن النظرة الاستشراقية في لوحة “ميدان تقسيم” للفنان التركي نظمي ضياء و التي قدمها في معرض الثورة في عام ١٩٣٥ ، يوضح هذا العمل التغير بصورة المرأة التركية على وجه التحديد و انتقالها من “الحريمية” إلى شكلها الغربي “المتقدم”.

-‫—–‬

و في موضوع مرتبط تحدثت مارتينا بيكر من جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة عن فترة إصلاح نظام التعليم التركي خلال السنين الأولى للنظام الجمهوري التركي و عن تأسيس أكاديمية الفنون الجميلة في اسطنبول في ١٩٣٢ ، و ذكرت أن سياسة الحكومة التركية كان لها تأثيرا مباشرا على نهج هذه الكلية و نظامها و مناهجها التي أعدت لإخراج نوعية معينة من الفنانين و الحرفيين ، و هذه السياسة مع مرور الوقت كانت لها نتائج سلبية تمثلت في تبرؤ بعض الفنانين الأتراك منها و من سياستها.

——-

في الجزء القادم سنتحدث عن كل من الطراز المعماري في دبي و نظرة جديدة لفن اللاندسكيب اللبناني.