أرشيف الوسم: سور

سفهاء ماكدونالدز

 

قصة الفيديو أعلاه هي كما يلي:

شاب يبلغ من العمر ١٧ عاما يتصدى بشجاعة لمجموعة من رجال الأمن لقيامهم باستفزاز ومن ثم اعتقال رجل مشرد كان نائما في إحدى مطاعم ماكدونالدز في مدينة بيرمينجهام البريطانية. التفاصيل حسب رواية الشاب وأحد الشهود هو أن رجل الشرطة قدم للمطعم من أجل إخراج الرجل المشرد، فأخبره بأنهم لا يستطيعون توفير المأوى له اليوم وبالتالي فإن عليه أن يخرج ليس من المطعم وحسب بل من مركز المدينة ككل! عند رفض الرجل الخروج في ذلك الجو البارد استدعى الشرطي جماعته المكونة من ثلاثة أو أكثر من أفراد شرطة آخرين من فئة المناكب العريضة بكامل عدتهم ومرتدين قفازاتهم وقاموا بإخراجه من المطعم واعتقاله بتهمة إثارة الشغب.

في المشهد نرى الشاب المتعاطف مع الرجل المشرد معترضا على أسلوب تعامل الشرطي مع الموقف متهما إياه بأنه لا يحق له إخراج الرجل من المطعم دون تهمه من الأساس، وأنه هو من قام باستفزازه ومن ثم قرر اعتقاله بتهمة إثارة الشغب! وأبدى له امتعاضه من كون أن الشرطة تركت أداء واجبها الحقيقي في مكافحة الجريمة ومساعدة الناس وتوجهت لمضايقة المشردين والمساكين. رجل الشرطة من جانبه “سفه” الشاب واصفا إياه بأن أفكاره صبيانية وأنه جاهل سفيه ولا يفهم… طالبا منه أن يبين الجهة التي “تدعمه”، واستدار ناحية المصور طالبا منه التعريف بنفسه وإن كان صحفيا وسأله عن هويته. طبعا رد الشابين على الشرطي كان حاسما وقويا بأنهما يعرفان حقوقهما وأنهما في مكان عام ولا يحتاجان لتصريح أو هوية، وأن الجاهل هو أنت أيها الشرطي!

شاهدت هذا الفيديو البارحة ولم يستوقفني كثيرا، فقد مرت علي الكثير من المواقف المشابهة التي شاهدت فيها شبابا واعيا عارفا بحقوقه ويجيد التعامل مع مثل هذه المواقف التي تضطره للتعامل مع أصحاب السلطة من شرطة أو سياسيين أو غيرهم. كما أني لم أستغرب كثيرا من تعاطف الشاب مع الرجل المشرد لأن الشعوب المتحضرة تحترم إنسانية الإنسان بغض النظر عن مستواه الاجتماعي أو عرقه أو لونه أو جنسيته.

نعم سيخرج لي الآن من يردد جملا مثل أن الغربيين لو كانوا يحترمون الإنسان لما كان ذلك الرجل مشردا من الأساس… “وإحنا أحسن منهم لأن ما عندنا مشردين!“… أو غيرها من الهراء الذي حفظناه! ولن أطيل الرد على هؤلاء لكي لا أتعب نفسي بإيقاظهم من نومة النصف عين التي يتمتعون بها!

——–

 

قصة الفيديو أعلاه كما يلي:

نعم، الفيديو يبدو أنه أيضا تقع أحداثه في مطعم ماكدونالدز… لكن هذه المرة في إحدى مناطق دولة الكويت. نشاهد في هذا الفيديو الذي انتشر اليوم إمرأة قد تكون في الأربعينات أو أواخر الثلاثينات من العمر… طويلة عريضة ترتدي ثيابا مزركشة بألوان علم الكويت، غالبية حديثها نسمعه بلهجة كويتية… بالإضافة لبعض الإنجليزية المكسرة… وما يبدوا لي كلغة غريبة لم أفهمها صراحة.

ما فهمته هو أنه كان هناك سوء تفاهم بينها وبين العاملين في المطعم مما أدى لتقديمهم طلب خاطئ لها. الأمر بسيط ويحدث يوميا، أليس كذلك؟ ردة فعل المرأة على الموقف ليست بتلك البساطة على الإطلاق!

لا أعلم ملابسات الموقف ولا مقدماته ولا الحالة النفسية التي كانت فيها المرأة في ذلك الوقت، قد تكون هناك تراكمات أدت بالنهاية لانفجارها العصبي بهذا الشكل الذي نشاهده في هذا الفيديو… من نحن لكي نحكم على أعصاب وانفعالات الآخرين؟

لكن…

ما أثار عواطفي أنا وسبب لي حالة من الغثيان عند مشاهدتي لهذا الفيديو ليس انفعال المرأة وثورتها، لكن المتسبب في غثياني أمران:

أولا، ما ورد على لسانها من ألفاظ عنصرية. تبدأ سلسلة القبح اللفظي المسجلة بالفيديو بتحذير للعامل (الذي يبدو من لهجته بأنه مصري) من افتعال المشاكل في الكويت… لأنه تعلم “بأنهم” من الجواسيس في البلد! وأنها لن تنسى ما “فعلوه” أيام الغزو إلى يوم الدين… وأن من يدافع عنه هم خونة الكويت! ثم الإشارة إلى أنه موجود فقط من أجل الفلوس… دنانير الكويت! ثم تقوم بتذكيره بلجنة “الإبعاد” التي يبدو أن دوره قد أتى فيها من أجل “تسفيره” كما تدعي! ثم تتوجه بحديثها للعاملة الفلبينية بحديث لا يقل شدة عن ما سبقه لم أفهم منه سوى فكرة التأكيد على طلب “الكابتشينو”… رغم اعتذار العاملة اللبق الذي لم يشفع لها بشيء.

ثانيا، رغم زوبعة العنصرية والقذارة اللفظية التي كانت تكيلها تلك المرأة للعاملين في المطعم… هل وجدت من تصدى لها أو أوقفها أو حتى حاول تهدئتها؟ أبدا! أشجع من ظهر بالفيديو كانت الطفلة الصغيرة التي اقتربت من المرأة متأملة تصرفاتها باستغراب إلى أن سحبتها العاملة الآسيوية! أما بقية من في المطعم من رجال وفتيات فاكتفوا بالتفرج من بعيد… والضحك… والطلب من المصور بأن يأخذ “زوم” على وجه المرأة الثائرة!

—–

قارن الآن بين الموقف في المكدونالدزين!

 

مجلس التعاون الجديد و المقاومة الثقافية

من خلال رصد ردود الأفعال على خبر انضمام مملكتي الأردن و المغرب لمجلس التعاون لدول الخليج العربي عبر موقع تويتر لاحظت أن هناك نسبة كبيرة من المعترضين على هذا القرار/الفكرة متعللين بالأسباب التالية:‬ 

‫١- جغرافيا.. المملكتان الجديدتان لا تطلان على الخليج العربي. ‬
‫٢- جغرافيا أيضاً.. المغرب بعيدة عن بقية دول المجلس. ‬
‫٣- “عادات و تقاليد” و تراث المملكتين الجديدتين لا ينسجم مع بقية دول المجلس. ‬
‫٤- الأردن كان لها موقف مضاد للكويت أثناء الغزو. ‬
‫٥- المغرب فيها عدد كبير من اليهود و لها علاقات مع إسرائيل… و كذلك الأردن.‬
‫٦- الخوف على رجال الخليج من المغربيات و الأردنيات! (و هذا الرأي الظريف تدور حوله غالبية التويتات الساخرة)‬
‫٦- أن القرار/الفكرة جاء مفاجئا لمواطني الدول المعنية و تم دون أخذ رأيهم أو حتى تمهيد الأمر له.‬
‫ ٧- المجلس بتشكيلته الجديدة أصبح ناديا للممالك و الإمارات و السلطنات العربية. ‬

‫باستثناء النقطتين الأخيرتين أرى أن جميع الأسباب المذكورة واهية و لا ترتكز على قاعدة منطقية:‬

‫فهل حقا أن دول الخليج الحالية متطابقة اجتماعيا و تاريخيا أو حتى سياسيا؟ لو كانت كذلك لما أصبحت ولا ظلت تلك الدول الست ستاً إلى اليوم! الأردن على الأقل ذو نظام قبلي مرتبط ببقية دول الخليج و متداخل معها ، كما أن العائلة المالكة فيه إنما هي من الجزيرة العربية أصلا ، و المجتمع المغربي كذلك -رغم قلة معلوماتي عنه- يتمتع بنسيج قبلي ممتد كما هو حال منطقة شمال أفريقيا قاطبة ، ثقافيا جميع دول المجلس القديمة و الجديدة متقاربة بالعادات و التقاليد الشرقية و حتى بلبس الدشداشة أو الثوب أو الدرّاعة 🙂 نعم اللهجات تختلف… كما تختلف لهجة أهل شرق عن لهجة أهل دبي ، بعض العادات تختلف… كما تختلف عادات أهل مكة عن عادات أهل الدوحة ، و حتى المذاهب الدينية تختلف كما يختلف مذهب أهل المحرق عن مذهب أهل ظفار ، المغرب فيها يهود؟ دول الخليج فيها هنود! و فيها مسيحيين و هندوس و سيخ و ما لا يعلم به غير الله من ديانات و ملل.‬

‫أولى الدول التي كان الحديث يدور حول انضمامها للمجلس كانت العراق و من بعد ذلك اليمن (و قد دخلتا بالفعل من خلال كأس الخليج مؤخرا) ، العائق الأكبر حول انضمام هاتين الدولتين كان النظام السياسي ، فبخلاف الدول الست الاصلية النظام بالعراق و اليمن لا يمكن ضمانه… و هذا الأمر أثبته و مازال يثبته التاريخ ، فصديق اليوم كان عدو الأمس ، و عدو الأمس كان صديق قبل أمس… وهلم جرا ، و النظام السياسي الملكي/الإماري/السلطاني بالإضافة لثباته فإنه يفرض كذلك علاقة خاصة بين الحاكم و المحكوم مرتبطة ارتباطا وثيقا بطبيعة المجتمع القبلية… ذلك أمر طبيعي و عاشت في ظله شعوب المنطقة لقرون طويلة و يستحيل تغييره خلال سنين أو حتى عشرات من السنين.‬

مسألة الرفض الشعبي لقرار/فكرة الانضمام ليست قائمة على الاجتماع و لا السياسة… و بالتأكيد ليست قائمة على الجغرافيا (دول حلف شمال الأطلسي ليست جميعها تطل على المحيط الأطلسي! و قبرص بعيدة نسبيا عن بقية دول الاتحاد الأوربي) ، بل الحاجز القائم هو حاجز ثقافي بالدرجة الأولى ، ‬فلثلاثين عاما كان الخليجيون يغنون على دولهم و شيوخم الست و يرسمون أعلامهم مترابطة ببعض ، حتى سيميائية إعلاميات المجلس تمثل دوله على شكل كتلة مترابطة و تستخدم رموزا دالة على البيئة الخليجية كمراكب الخليج الشراعية أو الصقر أو البحر أو الصحراء ، الخريطة -والتي يستند عليها أصحاب رأي الترابط الجغرافي- هي جزء من شعار المجلس و بعض أهم لجانه ، تلك السيميائيات و الرموز الثقافية دخلت في عمق النسيج الخليجي طوال السنوات الثلاثين الماضية و تغلغلت فيه بشكل يجعله يقاوم أي تغيير يطرأ عليها بغض النظر عن مسألة الأهمية أو المصلحة في ذلك التغيير… تلك هي طبيعة النفس الإنسانية و طبيعة “الثقافة” بحد ذاتها.

أذكر أنه بعد دورة الخليج الأخيرة و التي أقيمت في اليمن و من خلال برنامج تلفزيوني قدم على قناة دبي الرياضية تمت استضافة مجموعة من الفنانين في احتفالية بمناسبة انتهاء الدورة و فوز الكويت بها ، أحد ضيوف البرنامج كانت الفنانة منى شداد (بالإضافة لطارق العلي و عبدالله بالخير و غيرهم) و التي غنت بمصاحبة الفرقة الغنائية أغنية “لا دار لا هنتي ولا هان راعيك” ، مشكلة هذه الأغنية هي أنه يذكر فيها لقب “أبو فيصل” ، و هي أغنية دينامكية و يمكن تغيير كلماتها و محتواها حسب الحاجة أو الزمن أو الوضع السياسي ، فالفنانة منى غيرتها و أضافت لها ألقاب الحكام الحاليين كـ”أبو ناصر” و “أبو متعب” و “أبو سلطان”… الخ ، لكن الفنانة منى شداد “توهقت” في أمرين: أولا، في السلطان قابوس و الذي ذكرت اسمه دون لقب لأن ليس له أبناء ، و ثانيا في حكام العراق و اليمن و الذين “نقفتهم” من لأغنية من الأساس! و أشك أنها تعرف أسماء الأبناء الكبار لجلال الدين طالباني و علي عبدالله الصالح أصلا!! (أنا شخصيا لا أعرف.. هل تعرفهما أنت؟) تذكر اسم الأبناء الكبار للملك عبدالله (أبو حسين) و الملك محمد (أبو حسن) بالتأكيد سيكون أسهل… و لكن إدخال هاذين اللقبين بالأغنية سيحتاج إلى جهد بسبب الممناعة أو المقاومة الثقافية الناتجة عن تأصل فكرة أن دول المجلس ست… و تطل على الخليج العربي ، و الثقافة دائما أمر معقد و يصعب تغييره و إن كان ليس مستحيلا.

جانب من الممناعة الثقافية يأخذ شكلا سلميا و لا يلبث أن يتبدد تدريجيا ، فطبيعة النفس البشرية تقاوم التغيير بشكل طبيعي و تخاف من المجهول كوسيلة بدائية للدفاع عن النفس ، و لكن هناك دائما الممانعة العنيفة… و ليس بالضرورة أن يكون العنف جسديا أو ماديا ، تتبع آراء الناس على تويتر يبين لنا آثار تلك الممانعة العنيفة بشكل لفظي واضح ، فالأردنيين “زلمات” لا نريدهم بيننا! و المغاربة “سحرة” و بناتهم “فاتنات” لشبابنا … و العياذ بالله!! و الرأي من الجهة الأخري قد لا يختلف كثيرا ، فشباب الخليج “مترفون” و “صيّع” و أهله قد “أفسقتهم” ثروتهم البترولية التي لم يتعبوا في تحصيلها! و طبعا نجد بعض الخليجيين خائفين من اقتسام “كيكتهم” و من مشاركة “الغريب” لهم فيها ، “طبعا… فالأردنيين و المغاربة هم من سيستفيد من ثروتنا و يطمع فيها ، أنظر لهم ما أكثرهم! سيغرقون دولنا برعاياهم و ينافسوننا على لقمتنا! سيأكلون خيراتنا (و يسرقون رجالنا)! لا نريدهم و لا نريد قربهم… نحن “زينين” دون دخولهم لمجلسنا.” و هكذا ترتفع الحواجز و الأسوار التي لا ننفك نبنيها و نعليها حولنا ، هي أسوار ثقافية بالدرجة الأولى ، أسوار تلقي بظلالها علينا و تغشي عيوننا و تمنعنا من معرفة إلى أين يؤدي مسارنا.

بعد هذا الكلام… هل أنا إذا أؤيد انضمام الأردن و المغرب لمجلس التعاون؟ أليست فكرة الضم هذه مؤامرة من الحكام على الشعوب؟ أليس في طريقة اتخاذ هذا القرار استخفاف بتلك الشعوب؟ و هل هناك حقا فائدة حقيقية ترتجى من هذا الانضمام؟

هذه الأسئلة لا تهمني هنا و ليس لها علاقة بهذا الموضوع من الأساس! لندع أمور السياسة لأهل السياسة و أمور الاقتصاد لأهل الاقتصاد.. فهم من يستطيعون الإجابة على تلك التساؤلات ، و لكني شخصيا قبل أن أستطيع أن أكون رأيا سياسيا حول هذا الموضوع يجب أن أزيل عن رأسي الغبار الثقافي الذي تراكم عليه خلال الثلاثون عاما الماضية ، يجب أن أفرق بين المصلحة الحقيقية و بين الحواجز النفسية التي تحول دون تحقيق تلك المصلحة ، و أفرق بين رأي من يتكلم في إنطلاقا من المنطق و العقل و من منطقه يقبع تحت ظلال الأسوار الثقافية التي بناها حول نفسه ، موضوعي ليس سياسيا و لا اقتصاديا ، و لكنه مدخل ثقافي للمسألة… و الثقافة هي القاعدة المؤسسة للشعوب و الوقود المحرك لها ، لن نستطيع أن نبني رأيا صائبا ولا قرارا حكيما إن ظللنا نردد نفس الكلام الذي كنا و مازلنا نسمعه من ثلاثين عاما دون أن ندرك بأننا لسنا من يتحدث… و أنما ألسنتنا (و أصابعنا) قد تبرمجت على ما اعتادت سماعه بأن المجلس هو عبارة عن ست دول تطلع على الخليج العربي! لننسى التعريف الذي تعلمناه في كتب الاجتماعيات قليلا… و لنحاول هدم السور و بناء رأي حر جديد تحت ضوء الشمس و مهب الريح.

ثقافة السور في العقلية الكويتية

أم الثلاث أسوار يا كويتنا !

ترى هل خطر لكاتب هذه الأغنية أن تلك الأم ستنجب أسوارا متعددة أخرى خلال الثلاثة عقود التالية؟ و هل كان سيفخر بأمومة الكويت لهذه الأسوار لو علم إلى أي طريق ستسير الثقافة السورية (من السور و ليس من سوريا) و إلى أين ستصل؟ و هل كان يدرك كيف تؤثر ثقافة السور علينا منذ عام 1760 إلى اليوم؟

تاريخ الأسوار الكويتية

قصة الأسوار الثلاثة الأولى (التي تغنى بها عبدالكريم) معروفة و مؤرخة بشكل جيد و كتب عنها العديد من المؤرخين ، وفقا لمعلومات ويكيبيديا حول هذا الموضوع فإن السور الأول بني عام 1760 و الثاني 1814 و الثالث 1920 ليهدم هذا الأخير عام 1957 لتبقى الكويت بعدها “سور فري” حتى ما بعد الغزو العراقي ، طبعا تلك الأسواركانت فعالة وقتها في صد أي هجمات أو اعتداءات برية على مدينة الكويت ، و كانت ضرورية -كما كان يعتقد- لضبط حركة الدخول و الخروج من المدينة عن طريق بواباتها ، و الحديث هنا عن الضبط الأمني و الضبط التجاري كذلك.

السور الرابع

السور الرابع له قصة مختلفة قليلا ، بدأت الكويت بتشييده… أو بتعبير أدق حفره… بعد الغزو العراقي ، طبعا على خلاف الأسوار السابقة فإن هذا السور لم يكن فعالا لصد غزو جديد مثلا! فالحروب اليوم لا تقف بالغالب عند الأسوار و الموانع و لنا في حرب أكتوبر و حرب تحرير الكويت خير شاهد على ذلك ، فما هو إذن الهدف من هذا السور و قد شارف القرن العشرين على الإنقضاء؟

أذكر بأني عندما كنت أسمع عن السور الرابع كنت أظن بأن الحديث هو عن سور معنوي أو رمزي ، فالأسوار التي تغنى بها عبدالكريم عبدالقادر ليست وسيلة دفاعية وحسب… بل هي رمز على اللحمة و التكاتف الاجتماعي و ذلك لتعاون أهل الكويت جميعا في بنائها و تشييدها في وقت قياسي كما تذكر المصادر ، كما أن تلك الأسوار لها قيمة سياسية حيث أنها ترمز للكيان الكويتي كوجود سياسي مستقل يبني على أرضه ما يشاء و لديه القدرة على صيانة نفسه و الدفاع عن أرضه بكافة الوسائل ، لذلك ظننت بأن الأمر يعني القيمة المعنوية للسور… أي كما كان يقال “شهداؤنا… سورنا الرابع“.

بالواقع فإن السور الرابع لم يكن سورا معنويا فقط… بل كان سورا حقيقيا على الحدود الكويتية العراقية ، فتم إطلاق حملة شعبية لجمع التبرعات لمشروع بناء السور ، أي أنه هذه المرة لم ينشأ بأيدي أهل الكويت بل بأموالهم ، السور كان عبارة عن خندق طويل بالمقربة من خط الحدود الشمالية مزود بوسائل رصد و حماية متطورة كأجهزة الإنذار و المراقبة بالإضافة للأسلاك الشائكة و المكهربة.

الهدف العملي للسور الرابع كان وقاية البلد من عمليات التسلل و التهريب التي انشرت بعد تحرير الكويت ، فقد شهدت الحدود الكويتية خلال تلك الفترة نشاط تلك العمليات التي يتم من خلالها إما هروب أفراد من العراق للكويت أو تهريب للبضائع أو الممنوعات عبر تلك الحدود ، و لعمليات التهريب تلك تاريخ طويل و لكن خطورتها اشتدت بعد الغزو بطبيعة الحال ، من ذلك ندرك بأن ذلك السور كان سورا حقيقيا و ليس معنويا و حسب و كان يؤدي (أو من المفترض أن يؤدي) وظيفة أمنية حقيقية و إن اختلفت العوامل العسكرية أو التكنولوجية المحيطة به ، و طبعا تم ردم و إزالة أجزاء من ذلك السور قبل حرب العراق عام 2003 و ذلك ليتاح للقوات العسكرية دخول العراق عبر الحدود.

للأسف فإن المعلومات التاريخية المتعلقة بالسور الرابع قليلة جد على الإنترنت ، و الأخطر من ذلك هو أن بعضها مغلوط و مقدم بشكل مفرغ المحتوى ، فتذكر بعض “المنتديات” نقلا عن مصدر “فلسطيني” كما تدعي بأن حملة التبرع لمشروع السور الرابع بدأت عام 2005 و هذا أمر غير صحيح ، فأنا أذكر تلك الحملة منذ أيام الثانوية.. يعني….. قبل 2005 و خلاص 😛 ، ثم أن مجموعة الفتاوى الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية: فتاوى عام/ 1992م 1412 – 1413 ه و الصادرة عن وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية الكويتية تشير إلى سؤال عن حكم التبرع لهذه الحملة ، و ذلك يدل على أن الحملة انطلقت منذ عام 1992 أو ربما قبل ذلك.

Veronica Holder - بوابة الجهراء عام 1961

السور الثقافي

كما ذكرت سابقا فإن الأسوار لها قيمة معنوية كبيرة لدى الكويتيين ، فهي مصدر فخرلهم لأنها بنيت بأيديهم (أو أموالهم!) و لأن الشعب تكافل و توحد لبنائها دفاعا عن أرضه و عن وجوده ، و هي ترمز للسيادة على الأرض و الاستقلال عن أي كيان آخر حيث أن لا أحد يستطيع أن يبني سورا على أرض غيره! و تمثل أحد أدوات فرض السلطة و التي تعتبر من مقومات قيام الدولة الحديثة ، و قد قدّر الكويتيون تلك القيم و احتفظوا ببوابات السور الثالث كشاهد رمزي عليها حتى اليوم.

من ناحية أخرى ، فالسور قد يرمز كذلك لحالة من العزلة… و ذلك أمر في غاية الخطورة!

أحد ادعاءات الأنظمة العراقية حول موضوع تبعية الكويت للعراق هو أن الكويت الحقيقية -إن كان هناك كويت- فهي تلك المنطقة الصغيرة التي تقع داخل ذلك السور الطيني! و تلك المنطقة المتناهية الصغر لا تستحق حتى أن تكون وطنا مستقلا! بالطبع فإن هذا الادعاء ليس صحيحا أبدا.. فالسيادة الكويتية كانت تمتد لمساحات أكبر من ذلك بكثير و كانت تتمثل بداية بالولاء القبلي لسكان المناطق المحيطة بالمدينة لشيوخ الكويت ، و تتمثل كذلك بالمنشآت و الممتلكات الكويتية التي امتدت خلال أزمنة متفاوتة حتى وصلت لمنطقة أم قصر و صفوان شمالا و حتى الخفجي جنوبا مخضعة إياها لسلطة الكويت و حكامها ، و قبل أن تتعالى الصيحات و الهتافات ضد أو مع هذه المعلومات أرجو الرجوع للكتب التاريخية المختصة.. فأنا لست خبيرا تاريخيا في مسألة الحدود الكويتية و لكني أعرض لكم ما قرأته في تلك الكتب دون أي دعاوى أو تلميحات من أي نوع ، المقصود من هذه الحقائق هو أن أسوار الكويت كما أن لها دور استراتيجي و عسكري لحماية المدينة و لها قيمة لإثبات شرعية الكيان الكويتي و إثباتا لسلطته بالإضافة للدور المعنوي الذي تحدنا عنه إلا أنه يجب أن لا نحملها أكبر من تلك القيمة ، فهي ليست حدودا عازلة بأي شكل من الأشكال ، لا تعزل الكويت عن ما يحيط بها و لا تعزل “كويتي” عن “كويتي أقل”!!


داخل السور… و خارج السور

و هنا يستمر الألم ، فالأسوار رغم قيمتها المعنوية الإيجابية أصبحت كذلك لها قيمة إنعزالية تتعلق بعلاقة الكويتي مع غيره و كذلك -كما يحلو للبعض أن يدعي- علاقة الكويتي “الأصلي” مع الكويتي “المو أصلي”.

أنا كويتي

فتأصل فكرة السور بالعقل الكويتي جعله يبني “حاجزا” وهميا بينه و بين غيره من الشعوب ، فيرى نفسه مختلف عن غيره و يجب أن يعامل وفقا لهذا الاختلاف ، إنه شعور “قومي” [1. هناك فرق بين فكرتي “القومية” و “الوطنية” ربما نتناولها في مواضيع مستقبلية ، فالأولى تعني الشعور بتفوق على بقية الشعوب و الثانية هي شعور مجرد بالارتباط بالأرض ] بالأفضلية على الغير ، فالآخرين جميعهم طامعون به و يحسدونه على ما هو فيه من نعمة ، و ذلك السور الوهمي في العقلية الكويتية ليس أمرا لا مستجدا و لا هو أمر متأصل بالعقلية الكويتية ، فقد أنشأ هذا السور أول مرة بعد اكتشاف البترول و التوسع المدني و العمراني في الكويت و الذي استدعى هجرة موسعة للآلاف من مواطني الدول العربية و الأجنبية للكويت بسبب عدم كفاية السكان “الأصليين” لسد حاجة وطنهم النامي للقوى العاملة أو للخبرات المطلوبة لبناء الوطن المتطور الذي سعت له الحكومة الكويتية آنذاك ، طبعا في ظل ذلك التقدم السريع و الخير المفاجئ الذي أصاب الكويتيين (مع تشجيع حكومي لمبدأ التوزيع -غير المدروس- للثروة) نشأ لدى الكويتي نوع من التضخم بالذات ، فأخذ يرى نفسه مميزا بعد أن “حباه الله” بنعمة البترول بعد قرون عجاف طويلة ، فظهرت نفسية “أنا كويتي” المتعالية على “الغير” الذي وفد إليها طمعا في تلك النعمة ، و من لا يطمع بالكويت؟ أليست هي ديرتنا التي “فيها اللي نبي“؟!

مرت العقود و لم يتغير ذلك الفكر الإنعزالي كثيرا ، ربما جاءت القومية العربية و الناصرية و المد الاشتراكي و الحركات الإسلامية و غيرها من الحركات السياسية و الاجتماعية و الفكرية التي حاولت مد جسر يوصل الأمة الكويتية بغيرها من أخوانها من الشعوب العربية و الإسلامية ، و لكن و مع بداية التسعينات حدث ما نسف جميع جهود تلك الحركات ! فالغزو العراقي للكويت قام بتحليل و تبخير أي وصلة حاولت العبور من فوق السور الكويتي ، فعدنا نبني السور مرة أخرى و نعالي في بنيانه لأن “العرب مافيهم خير”.. فلا القومية نفعتنا و لا الأخوة الإسلامية… لم ينفعنا إلا دينارنا ! و هكذا استمر ذلك السور الذي يعزل الكويتي عن الآخر ينمو و يعلى إلى اليوم.

السور الطرثوثي

هناك فكر آخر ضيق خناق ذلك السور من خلال تعزيز فكرة النخبوية الكويتية التي لم يكتفي بإرسائها كأساس للتعامل مع الغير.. بل حصر امتيازاتها على فئة معينة من الكويتيين هم فقط من “يستحقون” أن يحصلوا عليها ، فهناك من استند إلى السور كأساس “حرفي” لتقسيم المجتمع الكويتي ذاته إلى فئتين: فئة أصيلة و هي العوائل التي كانت تعيش داخل حدود أسوار الكويت الثلاث الأولى و هي من يستحق لقب الكويتي ، و فئة “غير أصيلة” لا تستحق ذلك اللقب لأنها -كما يدعي أصحاب ذلك الفكر- كانت و لا تزال غير محددة الولاء ، فهي فئة “مزدوجة” كانت تهيم في الصحراء بلا وطن محدد ولا جذور ثابتة تربطها بالأرض ، فهي كنبات الطرثوث الذي تظل جذوره مختفية تحت الأرض ليظهر فجأة بعد سقوط الأمطار و يستمد غذاءه متطفلا على غيره من النباتات.

طبعا إن أخذنا بالنظرة الطرثوثية بكون سكان داخل السور هم الأصيلين و سكان من هم خارجه مجهولو الأصل فإن هذا الأمر يعزز الإدعاءات العراقية التي ذكرناها سابقا بكون الكيان الكويتي إنما هو محصور بتلك المدينة الساحلية الصغيرة… و ذلك أمر بغاية الخطورة! و لكن و لله الحمد فإن الحقائق التاريخية ثابتة و متواترة حول دور قبائل “خارج السور” في حماية الكويت خلال حروبها و معاركها التاريخية المختلفة الأمر الذي يثبت ولاءها السياسي منذ القدم ، و مرة أخرى أقول بأن المعلومات التاريخية موجودة و موثقة بالكثير من الكتب و المراجع التي كتبها المتخصصون في هذه المسائل ، لست هنا لأناقش التاريخ بل لأناقش الأثر الثقافي لهذا التاريخ ، فما يهم الآن و بعد 54 عاما على هدم السور الثالث هو أن الفكر النخبوي الذي تمركز في عقول الكويتيين على مر السنين و جعلهم يبنون أسوارا وهمية تفصلهم عن غيرهم و تجعل لهم فضلا و قيمة لا يستحقها الغير قد ضاق لدى البعض و جعل ذلك السور يحيط بفئة معينة من الكويتيين ، و مصطلح السور إن كنت أتكلم عنه مجازا عند حديثي عن الحاجز الكويتي/الأجنبي فإني أتحدث عنه بشكل حرفي بالمسألة الكويتية/المزدوجة حيث أن أدبيات حملة ذلك الفكر تستخدم “السور” كرمز صريح في للتفرقة بين الكويتي الأصلي و غيره و تضعه شعارا أيقونيا لها!

هكذا نرى بأن السور له قيمة رمزية خاصة في الثقافة الكويتية ، فالسور وجد منذ القدم لحماية الكويت من أي خطر خارجي و أصبح هو وسيلة الحماية المفضلة لدى الكويتيين منذ القرن الثامن عشر و حتى اليوم ، هو رمز للفكر الكويتي الذي عوض صغر المساحة و قلة السكان بتوفير حماية كيانه عبر تلاحم و تكافل الشعب ضد أي أخطار بتشييد سور يحميه منها.. سواء كانت هذه الأخطار خارجية أو داخلية… حقيقية أم وهمية ، فبناها على أرض الواقع عندما ما استشعر الخطر الحقيقي ، و بناها داخل عقله عندما .. أحس بتهديد وهمي لذاته.

بكل تأكيد فإني هنا لا أدعي بأن ثقافة السور التي تحدثت عنها تمثل الفكر الكويتي بشكل عام! أنا لست بهذا السذاجة!! و لكني حاولت أن أقدم صورة عامة لما يمكن أن تمثله كلمة “سور” في العقل الكويتي كما استشفيت من قراءتي لتاريخ الكويت الثقافي و الأدبي ، فما قدمت إنما هو تحليل لما قرأت و سمعت و شاهدت مما يكتبه و يقوله و ينتجه بعض الكويتيون ، بالتأكيد فإن هناك الكثير من الكويتيين لا يتفقون مع الفكر “الطرثوثي” ، و آخرين ليس لديهم سور يحجزهم عن غيرهم من شعوب الأرض ، و لكن لا أظن في ذات الوقت أن هناك من الكويتيين من لا يعتزون بنوع من القيمة الإيجابية للسور الكويتي على مر التاريخ ، و يمكنني القول بأنني لا أعتقد بأنه من السهل على الكويتيين أن يتخلصوا من عقدة السور ، فأسباب الضعف و النقص التي يعانون منها مازالت تلاحقهم و تحثهم على بناء سور تلو الآخر… أسوار بقدر ما تحميهم… تعزلهم.

و الحامي الله..

——————-