الشوروقراطية

Birmingham ☪ ✝

الشوروقراطية هي مفهوم هجين يجمع بين الشورى والديموقراطية، من الممكن أن نطلق عليه أيضا تسمية الديموقراطية الإسلامية أو “ديموقراطيتنا الخاصة” أوغيرها من المسميات التي نحاول أن نطلي من خلالها الديموقراطية بطلاء ديني يعطيها نوع من القبول الشرعي أو الاجتماعي، وقد تعرفت على هذا المفهوم مؤخرا عند قراءتي لكتاب تجديد الفكر الديني: دعوة لاستخدام العقل للدكتور أحمد البغدادي، قد تختلط أفكاري الخاصة بأفكار المرحوم البغدادي في خضم ما سيرد في هذا المقال… وأقدم اعتذاري المسبق على هذا التداخل غير الأكاديمي، وقبل أن أبدأ سردي أود أن أورد هذه الفقرة من كلام البغدادي والتي استوقفتني أثناء قراءتي للكتاب وقمت بنشرها على حسابي بتويتر:
شورقراطية - د. أحمد البغداديبعد نشر هذه الفقرة طالبني الأخ عبدالرحمن الزعبي بأن أوضح وجة نظري فيها، هل أنا مؤيد لكلام البغدادي بأن الشورى مفهوم ميت؟ أليست الشورى بحد ذاتها مبدأ سام وسليم لكن تطبيقنا لها هو الخاطئ؟ ألا نستطيع أن نختار الرجال “الثقات” ليتولوا أمر إدارة البلد بدلا من أن نترك إدارة البلد لمن يختار الشعب كما هو حاصل بالنظام الديموقراطي؟

جوابي على سؤال أخي عبدالرحمن أستهلك ما يقارب الست عشرة تغريدة، وقد اخترت أن أجمع فحواها هنا في هذا الموضوع الثقيل حفظا لها وكي نستكمل حوارنا على الراحة دون أن نزعج بقية المتابعين التويتريين الكرام.

الفقرة التي أوردتها أعلاه والتي تعتبر الاستنتاج الذي توصل له البغدادي بعد طرحه للعديد من الدلائل تشير إلى ما يعتقد بأنه هدف الإسلاميين السياسي من تبنيهم لفكرة الشوروقراطية (المشاركة الديموقراطية بدوافع شرعية “إسلامية”)، وهذا الهدف باختصار هو استغلال العملية الديموقراطية من خلال تكوين قاعدة جماهيرية عريضة تتيح لهم الحصول على أغلبية تمكنها من أن تسيطر على آليات صناعة القرار لتنقض بالأخير على أسس هذه الآليات وتسخرها من أجل قلب النظام الديموقراطي إلى نظام شورى خالصة يطبق من خلاله “شرع الله”.. وتلك هي الغاية العظمى.. أو القمندة!

السيناريو الذي أورده البغدادي ليس خياليا ولا نظريا بحتا، تاريخيا هذا السيناريو كاد أن يحدث مرتين، في بداية التسعينات من القرن العشرين استطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ من تحقيق فوز مفاجئ بالانتخابات الجزائرية في الوقت الذي كانت من الأهداف المعلنة من قبل بعض قادة هذه الجبهة هي إلغاء النظام الديموقراطي واستبداله بنظام حكم إسلامي! ما نتج عن هذا الفوز المفاجئ للجبهة الإسلامية للإنقاذ هو إلغاء الجيش للانتخابات، وترتب على ذلك القرار موجة عنف شرسة وصلت لحد الحرب الأهلية، طبعا القضية الجزائرية مسألة معقدة وما حدث قبل وبعد حادثة إلغاء الانتخابات (من كلا طرفيها) أمور يندى لها الجبين لا يسع المجال هنا لنقاشها.

المرة الأخرى التي كان بها هذا السيناريو في طريقه للتكرار ليست ببعيدة عنا البتة! مجلس ما يطلق عليه “الاغلبية” في الكويت والذي انتخب مطلع عام ٢٠١٢ كان يسير بطريق لا يختلف كثيرا عن مجلس الجبهة الإسلامية للإنقاذ… نوعا ما، فذلك المجلس قام بتبني بعض الأطروحات التشريعية ذات الصبغة الدينية البحتة (بحكم أن “الأغلبية” ذات توجه ديني) مثل قانون إعدام سب الصحابة، كما طرح بعض أعضائه (سواء داخل أو خارج قاعة المجلس) أفكارا تتعلق بتعديل بعض مواد الدستور.. صاحبها نوع من الحركة الشعبية المطالبة بما أطلق عليه اسم “الحكومة الشعبية” (والتي كنت قد تحدثت عن رأيي بها من ما يقارب الست سنين)، قانون إعدام ساب الصحابة ونوايا التعديلات الدستورية تم وأدها – شرعيا ودستوريا – من قبل أمير البلاد الذي رد قانون السب والمحكمة الدستورية التي حكمت ببطلان المجلس برمته لأسباب تتعلق بإجراءات حل المجلس السابق له، طبعا نحن نحمد الله بأن شعبنا مسالم بطبعه وأننا مازلنا نحترم القانون والشرعية ونحرص عليهما وإلا لكان حالنا لا يختلف عن حال الجزائر!

القصد من الفقرتين السابقتين هو تبيان أن استنتاج البغدادي ليس خياليا ولا مبالغا فيه، بل هو أمر من الممكن أن يتحقق لو أتيحت له الظروف “الشورقراطية” المناسبة، أي أنه نعم من الممكن أن يتحول النظام الديموقراطي إلى نظام شوري أحادي (حاكم مركزي ومجلس استشاري معين)، ومن ثم يتحول ذلك النظام الشوري إلى أداة سيطرة على الشعوب بغض النظر عن من يتولاه، بالحالتين التي ذكرتهما “صدف” أن القوة التي حاولت فرض سيطرتها السياسية كانت دينية، لكن نظريا من الممكن أن تتحقق تلك السيطرة بيد قوى طائفية أو عنصرية أو فوضوية أو عربجية… لا فرق! والسؤال المطروح هنا هو: هل من المعقول أن مبدأ إسلاميا قرآنيا مثل الشورى يمكن أن يكون مصدرا للفساد؟ وجوابي الحاسم هو نعم… إن طرحت الشورى كنظام حكم بمفهومها “الكلاسيكي”، سأسهب بشرح بهذه النقطة الحيوية في القسم التالي.

الديموقراطية الفكرية والإدارية

يتحدث البعض – وقد أكون أنا أحدهم – عن عيوب النظام الديموقراطي بشكل عام والنظام الديموقراطي الكويتي بشكل خاص، هذه العيوب تعتبر أمرا طبيعيا، فالديموقراطية نظرية اخترعها الفلاسفة والمفكرون منذ آلاف السنين، وظلت هذه النظرية تتطور وتتغير على مر السنين وتبنتها شعوب متعددة بأشكال وصيغ متفاوتة، وحتى اليوم لا توجد ديموقراطية واحدة يمكن أن تعمم على جميع الشعوب كنظام للحكم، فالديموقراطيات الأمريكية والبريطانية والسويسرية والفرنسية والتركية على سبيل المثال تختلف عن بعضها البعض اختلافات جذرية من حيث النظام والآلية، يستحيل اليوم أن نطبق الديموقراطية الأمريكية في بريطانيا مثلا (ناهيك عن الكويت!) رغم رسوخ كلا النظامين وعراقتهما، فلكل شعب خصوصية اجتماعية واقتصادية وثقافية تميزه عن غيره، والنظام السياسي الناجح لابد له من أن يدرس ويأخذ هذا التميز بعين الاعتبار.

الآن، دام إن كل شعب له خصوصيته عيل إحنا خصوصيتنا ما يصلح لها إلا الشورى، صح؟ لأ طبعا! الاختلاف والتعدد الذي أتكلم عنه هو اختلاف إداري أكثر من كونه اختلاف فكري، يعني الاختلاف هو في من يدير البلد وكيف، رئيس منتخب أم رئيس وزراء منتخب؟ وكيف ينتخب ذلك المدير، بشخصه مباشرة أم باختيار الحزب الذي يمثله؟ وكيف تتم عملية الانتخاب، توزع المقاعد بين الاحزاب كل حسب نسبته أم كل دائرة تخرج من يمثلها على حدة؟ وهلم جرا، وجميع ما سبق ليس هو جوهر الديموقراطية وإنما هو أمور “إدارية” إجرائية تنظيمية ليس أكثر، فالديموقراطيات العريقة تختلف فيما بينها “إداريا”… لكنها تتشابه في جوهرها “فكريا”.

طيب ما هو جوهر الديموقراطية؟

جوهر الدوموقراطية هو أجمل ما فيها وهو الروح التي تبث فيها الحياة، جوهر الديموقراطية هو المبادئ الإنسانية الجميلة التي تهدف لإعطاء الإنسان – أي إنسان – حقه في الحياة التي يستحقها، الديموقراطية تعني ضمان الحقوق للكل وفرض الواجبات عليهم بالعدل والمساواة، الديموقراطية تعني أن تكون هناك مبادئ لا يمكن الانقلاب عليها أو استغلالها من قبل أي كان… ممثلا للأغلبية كان أو للأقلية، تعني أن كل فرد بالمجتمع يجب أن يُحترم… أعجبتنا أخلاقه أو توجهاته أو فكره أو دينه أو أصله أو شكله أو لونه.. أم لم تعجبنا، تعني أن نحترم الوافد؟ نعم، هل تعني أن نحترم المشرك؟ نعم، هل تعني أن نحترم السكير والشاذ والمنحل أخلاقيا؟ نعم، هل تعني أن نحترم المجرم؟ نعم، بل حتى أن نحترم الحيوان والشجر والهواء والأرض التي نمشي عليها! فإن كنا سنحترم الحيوان والجماد أفلا نحترم الإنسان ونعطيه حقه بالتقدير؟ فقط إن سعينا إلى تحقيق هذا الاحترام سنكون قد حققنا الديموقراطية، أما إن استغلينا “النظام” الديموقراطي من أجل أن نقر قوانين تضمن عز فئة من الناس وتذل أخرى فإننا نكون لم نأخذ من الديموقراطية إلا اسمها وشكلها، فرض المذهب أو الديانة على الآخرين أو حرمانهم منها بحجة “الاغلبية” ليس بديموقراطية، مجرد التفكير بتقنين قتل من لا يعجبنا رأيه أو توجهاته بتاتا ليست ديموقراطية، اختصارا وبعد كل ما سبق… أن نُعرّف الديموقراطية بأنها حكم الشعب لنفسه وأن الشعب هو مصدر السلطات ومن ثم نسكت فهذا أمر بغاية السخافة والسطحية!

قد يقول قائل بأن كل ما ذكرته من كلام جميل عن احترام وتقدير الانسان الذي خلقه الله “بأحسن تقويم” إنما هي الأساس الذي جاء به الإسلام، وهذا كلام سليم مئة بالمئة! قد يقول قائل بأن شرع الله هو الذي يضمن للناس حقوقهم ويحقق لهم العدل والمساواة، وهذا أمر لا خلاف عليه، وقد يقول قائل بأن الإسلام ونظامه جاء من عند الله وهو خير من أي نظام يضعه البشر.. ولن أجرأ أن أقول له كلا، طيب أليس شرع الله هو من يقول “وأمرهم شورى بينهم” ويقول “وشاورهم بالأمر”؟ نعم قالها سبحانه وتعالى وهو خير القائلين، ولكن سؤالي هو: مالذي يمنع أن تكون الديموقراطية – كما نعرفها اليوم – هي “آلية” الشورى بعينها؟ لم الإصرار على أن الشورى هي نفس النظام الإداري الذي حكم من خلاله الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده؟ لم لا يمثل شرع الله الجوهر الفكري للديموقراطية بينما تستخدم الآلية الديموقراطية الحديثة كأداة إدارية لتطبيق ذلك الجوهر؟ لم الإصرار على نسف الآلية الديموقراطية برمتها من أجل فرض الوصاية الدينية على نظام الحكم تحت مسمى “الشورى” بصورتها الكلاسيكية؟

الشورى الكلاسيكية ومقاومة التطور

المفهوم الكلاسيكي السائد للشورى والذي يقضي بوجود حاكم مركزي يتميز بالعقل والعدل ومجلس استشاري معين يتكون من خيرة القوم من الثقات والحكماء والعقلاء والعلماء والمفكرين كان أمرا مقبولا في دولة صدر الإسلام، ولكنه مستحيل اليوم، والتركيز هنا على فترة صدر الإسلام لسبب جوهري، المراقب للتاريخ يجد بأن الظلم والاستبداد السياسي وازدياد الفجوة بين النظام السياسي وبين “الروح” الجميلة للشريعة التي تكلمت عنها بالفقرة السابقة أخذت بالازدياد كلما كبرت الدولة واتسعت وتعقدت، طوال تلك القرون وحتى انتصاف القرن العشرين ونحن مصرين على التمسك بمفهومنا التقليدي للشورى وأحوالنا تسير من سيء إلى أسوأ، أليس هناك درس مستفاد من ذلك؟ نعم هناك عوامل لا حصر لها ترفع الأمم حضاريا أو تهبط بها، ولكني هنا أتحدث عن مسألة محددة وهي مسألة الاستبداد السياسي واحترام الإنسان، لو كانت الشورى بمفهومها الكلاسيكي السائد صالحة لكانت نفعتنا وحققت لنا العز وقضت على مبادئ الحكم الفردي وتوارث الإمارة التي مازالت تفتك بنا منذ أكثر من ألف سنة، فإن كانت الشورى لم تنفعنا طوال هذه القرون فكيف نتوقع منها أن تنفعنا اليوم؟ كيف نصر على تكرار نفس التجارب ونتوقع نتائج مختلفة؟

والسؤال الأهم الآن، لماذا كان المفهوم الكلاسيكي للشورى ينفع في فترة صدر الإسلام ولا يمكن أن ينفعنا اليوم؟ أو بتعبير البغدادي… لماذا مات مفهوم الشورى بحيث لا يمكن مقارنته بالديموقراطية الحية؟ يجيب على ذلك البغدادي بالقول بأن مجتمع صدر الإسلام كان مجتمعا بدائيا بسيطا، وأن تلك المجتمعات البدائية هي فقط التي يمكن أن تحكم مركزيا عن طريق الشورى الكلاسيكية (الحاكم المركزي والمجلس الاستشاري من الثقات)، ويذكر بأن الشورى ليست اختراعا اسلاميا أصلا، بل هي كنظام إداري كان سائدا لدى القبائل العربية حتى قبل ظهور الإسلام ولذلك كان من الطبيعي أن يستمر العرب بالحكم بواسطة هذا النظام الإداري لأن المجتمع ما كان قد تغير بشكل جذري في ذلك الوقت، أي أن نظام صدر الإسلام السياسي هو بالأساس نظام مشتق من النظام القبلي السائد لدى العرب في ذلك الوقت، نعم روح الشريعة أثرت في القرارات التي أصدرها ذلك النظام السياسي القبلي… ولكنه كنظام استمر على نفس النمط تقريبا، خلال فترة الخلفاء الراشدين حصلت هناك تحديثات إدارية طورت من النظام السياسي قليلا كتأمير الأمراء على المناطق الجديدة وأعطاء هؤلاء الأمراء بعض الصلاحيات التي تمكنهم من تسيير أمور رعاياهم (نوع من مشاركة السلطة)، ولكن من بعد عهد الخلفاء الراشدين لم يتوقف التطور السياسي وحسب… بل تراجع نحو المزيد من الاستبداد… بمباركة من الوعاظ و”علماء” الدين، والحديث عن هؤلاء يحتاج لمقالات طوال!

تطور أي نظام سياسي أمر في غاية الأهمية، فكما ذكرنا عندما تحدثنا عن مواءمة النظم السياسية لاحتياجات الشعوب فإن النظام يجب أن يتطور ويحدّث ليواكب تعقيد تركيبة الشعب، قبل وخلال فترة صدر الإسلام كانت هناك دولا وحضارات أكبر أو كثر تطورا من الدولة الإسلامية الناشئة، فالروم مثلا كانوا في يوم من الأيام سادة الكون وكانت لديهم برلماناتهم ونظمهم الخاصة، وكذلك الفرس الذين اشتهروا بدواوينهم وإداراتهم، مع حدوث النهضة الحضارية الإسلامية الشاملة قام العلماء المسلمون بترجمة وتعلم تلك العلوم الإدارية واستفادوا منها في تطوير دولتهم، ولكن – حسب وصف البغدادي – العلوم المتعلقة بنظام الحكم ذاته تم تجاهلها! وسبب ذلك التجاهل واضح، لم يكن المانع دينيا بقدر ما كانت تلك العلوم من المحظورات السياسية! فأي خليفة مسلم وصل للسلطة بعد أن ورثها عن أبيه ويعكف على توريثها لابنه سيصرح لنشر فكر داع للتخلي عن السلطة المطلقة لتوضع بيد مجلس منتخب كما كان سائدا لدى الإغريق مثلا؟ بالتأكيد فإن تشجيع السلطة السياسية لترجمة علوم فيثاغورث لن يكون بنفس تشجيعهم لفلسفات أفلاطون، فالأمر هنا يمسهم شخصيا ويضر بمصلحتهم، وأي ضرر يصيب السلطان فإنه بطبيعة الحال سيصيب الدائرة المحيطة به والتي تشمل “وعّاظه” الذين ذكرناهم أعلاه، ونتيجة لذلك نجد أن علماء المسلمين تمكنوا من تطوير كافة العلوم… ما عدا العلوم السياسية التي ظلت متعلقة بأصولها القبلية… ومازالت حتى القرن العشرين، المجتمع تطور في جميع النواحي وتوسع ودخلت في تركيبته شعوب وقبائل من كل أصل ولون لكن نظام حكمهم ظل كما هو… وذلك أمر لا يمكن لعقل مفكر أن يعتبره طبيعيا.

ماذا حدث بعد ذلك؟

نتيجة للجمود السياسي انتهى بنا الأمر لأن نضطر لمعايشة قرون من الاستبداد الملتحف بغطاء أطلق عليه رجال السلطة وعلمائهم اسم “الشورى”، يستخلص ذلك الغطاء اسمه فقط من القرآن، بينما مع مرور الوقت لم يقاوم ذلك الغطاء التطور الإداري لنظام الحكم وحسب… بل طرد أيضا الروح الجميلة التي تمتع في أجوائها الصحابة الكرام الذين سعوا لتحقيق العدالة والمساواة والحرية لجميع البشر، فعانت الشعوب الإسلامية من القهر والظلم والاستبداد بينما استمتع الحكام بالرخاء وتمرغوا بالملذات على حساب تلك الشعوب، واستمر حال المسلمين في ذلك التردي حتى انتهى بهم المطاف لأن يفرض عليهم المستعمرون “ديموقراطيتهم” ويخلصوهم من الظلم والعبودية التي سيروا بها لقرون طويلة! أنا بالتأكيد لا أدافع هنا عن الإستعمار بحد ذاته، فالمستعمرون بدورهم “ما قصّروا” في نهب الشعوب واضطهادها وفرض ثقافتهم الدخيلة عليها، لكن ذلك لا يمنع بأن نتعقل ونستذكر بعض أفضال المستعمر الغربي الذي في يوم ما استكمل عملية التطوير الحضاري بعد أن تخلينا عنها، وإحدى أهم أوجه ذلك التطوير الحضاري تشمل النظام السياسي وعلومه التي حاول إعادة نشرها لدينا بشكل ما.

نحن مصرون على التمسك بأمجاد مضت كما يذكر البغدادي، وهذا الإصرار جرنا لمحاولة التعلق بقشّات متناثرة من الماضي منها قشة الألفاظ… رغم هيافتها، فرغم يقيننا بتفوق “الغرب” علينا في أيامنا هذه ورغم انبهارنا بأمة بيضاء يترأسها “أسود” وأمة لديها القدرة على محاسبة المخطئ من مسؤوليها وأمة تسمح بانتشار مساجدنا بالقرب من كنائسها… إلا أننا نرفض الأخذ بالأسباب التي أدت لمظاهر هذا الانبهار، وسبب هذا الرفض وهذا العناد هو كون أن ما ينادون “هم” به اسمه “ديموقراطية” بينما ما ننادي به نحن اسمه “شورى”… كما ذكر بالقرآن! تعلقُنا باللفظ هنا ليس لغويا وحسب، بل هو تعلق بالإرث الثقافي الجامد لهذا اللفظ، فلفظ الشورى ارتبط لدينا بذات النظام القبلي القديم الذي كانت تحكم به الأعراب… فقط لأن الرسول والصحابة استخدموا هذا اللفظ في وصف آلية الإدارة التي ربما كانت صالحة لدولتهم في ذلك الوقت، واستمرينا نحن لا في التعلق باللفظ فقط… بل بالتعلق الشرطي بالآلية التي وصفها ذلك اللفظ في يوم ما، بمعنى آخر تجاهلنا فكرة أن اللغة بحد ذاتها كائن متغير، وأن لفظة “الشورى” كما وردت بالقرآن بإمكانها أن تستوعب آليات الديموقراطية الحديثة وروحها التي لا تختلف بتاتا عن ما تدعونا إليه شريعة الله… خاصة وأننا لا ننفك نشاهد ما تقدمه تلك الروح لنا ولغيرنا من خير، فإن كنا نستوعب هذا الخير فلم نسعى للتلاعب بألفاظه ونحاول الالتفاف والانقلاب عليه بمحاولة للعودة لماض نعلم جيدا سواد الظلام الذي انتهينا بغياهبه؟ وذلك سؤال له إجابات كثيرة حمل التاريخ لنا بعضها… وأفضل تركها لتداعب فكرك يا قارئي الفطين!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *