أرشيف الوسم: Kuwait

فلسطيني تحت الاحتلال العراقي: تاريخ العلاقات الكويتية الفلسطينية أثناء الغزو وبعده

الحديث عن العلاقة الكويتية-الفلسطينية بفترة الغزو العراقي وما بعدها من المواضيع الحساسة جدا والتي تتباين فيها الآراء وتتدخل فيها العواطف بشكل كبير. وحتى التناول الموضوعي لهذه القضية معرض لردود الفعل العاطفية ذاتها من كلا الطرفين، وذلك يدخل الموضوع بمجال قريب من التابوهات المحرمة التي يتجنبها من يسعى لتقديم وجهة النظر الموضوعية المنشودة، لكن لا بد من تسميك الجلد وتحمل ما سيأتي.

ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو قراءتي لكتاب أيام الغزو: يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت. قدمت مراجعة موضوعية للكتاب على موقع جود ريدز لمن أراد أن يأخذ فكرة عن الكتاب ومحتواه، لكنه باختصار (كما يوحي اسم الكتاب) هو مذكرات كتبها الكاتب والفنان الفلسطيني إسماعيل شموط خلال أيام الاحتلال الاحتلال العراقي للكويت والتي كان يعيش على أرضها خلال تلك الفترة. بالإضافة للجانب التوثيقي للكتاب فإن القارئ يمكنه أن يستشف بوحا عاطفيا من الكاتب يتعلق بهويته كفلسطيني على أرض الكويت المحتلة، ومن هذا البوح نستطيع أن نستخرج مجموعة من الأفكار هي أساس هذا المقال.

السؤال الكبير

بالبداية نتحدث عن المشكلة المختلف عليها، وهي باختصار سؤال: هل خان الفلسطينيون الكويت ووقفوا بصف المحتل العراقي ضدها؟ وهو سؤال تصعب الإجابة عليه بنعم أو لا، واستسهال الجواب مسألة أخلاقية يجب معالجتها بعمق.

من هم الفلسطينيون الذين نتحدث عنهم هنا؟ هل هي القيادات الفلسطينية؟ هل هم من كانوا خارج الكويت أم داخلها؟ هل هم من بقوا داخل الكويت أثناء الاحتلال أم من خرجوا منها؟ التعميم على مجمل ملايين الفلسطينيين بالطبع أمر لا يجوز، فعن من نتحدث هنا؟

موقف الخارج

الموقف الأشهر هو بالطبع موقف قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، فهي من المفترض أن تكون الممثل الرسمي للفلسطينيين والمتحدث باسمهم في ذلك الوقت. المنظمة، مثل الكثير من العرب، كانت في موقف حائر، فموقفها المعلن كان رافضا لغزو دولة عربية لدولة أخرى، لكن هذا الرفض كان يصحبه رفضا للتدخل الأجنبي الساعي لتحرير الكويت… وهذا ليس كل شيء!

من الحيل التي استند عليها المحتل العراقي كانت ربط احتلاله للكويت بالقضية الفلسطينية. إحدى الشروط التي تباناها وأصر عليها النظام العراقي لانسحابه من الكويت في فترات مختلفة من الغزو كانت ضرورة عقد مؤتمر لحل القضايا العربية، وأبرزها القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. ونعم، هي حيلة للمماطلة ولتعقيد وتبرير جرم الاحتلال وجذب استعطاف الشعوب العربية، وإلا ما العلاقة بين الأمرين؟ هل من الأخلاق أخذ الكويت كرهينة من أجل الضغط على العالم لحل قضية فلسطين؟ خاصة أن التبرير الأساسي لهذا الغزو كان ضم الكويت للعراق لكونها جزءا تاريخيا منه، فمنطقيا هل بالنهاية سيتخلى العراق عن جزء منه (حسب كلامه) من أجل فلسطين؟ أليس ذلك تناقض مع مبدأ الأمة العربية الواحدة التي كان النظام يدعي الإيمان فيها؟

ما يهمنا هنا هو الموقف الفلسطيني المتردد، فالحجة هنا هي أن عدم مساندة العراق تعني التخلي عن فرصة لحل القضية الفلسطينية، كما أن مساندة جهود تحرير الكويت تعني مساندة الوجود الأجنبي بالمنطقة، وتعني الوقوف بصف الولايات المتحدة… وهي الداعم الأكبر لإسرائيل. ذلك الوضع -ظاهريا- سبب للفلسطينيين ولكثير من العرب أزمة أخلاقية أضعفت من موقفهم تجاه دعم الكويت في أزمتها، من ذلك أتى الموقف المتردد ما بين الوقوف مع الكويت وما تعانيه من آثار الاحتلال وبين الحزم في السعي لتحريرها. ذلك يعني أنه لا بأس لدى أصحاب هذا الموقف من معاناة الكويت تحت الاحتلال مقابل الأمل بأن يخضع العالم للموقف العراقي ويتحرك لحل قضية الفلسطينيين. نضيف لذلك تحسر غالبية العرب، بما فيهم الكويتيين ذاتهم، على خسارة العرب للقوة العسكرية العراقية في حالة نشوب حرب لتحرير الكويت، ذلك الجيش “العظيم” الذي كان يؤول عليه أن يكون سندا للعرب وأداة لتحرير فلسطين إن نشبت حرب لتحريرها، جيش كان يقدر بما بين رابع إلى سادس أكبر جيش بالعالم معرض للدمار إن نشبت الحرب… وليست أي حرب، حرب بقيادة أمريكا! فأين نقف؟ مع العراق أم مع الكويت والتحالف المساند لها؟ أم بين البين إن كان ذلك ممكنا؟ بالنسبة للكويتيين، ولغالبية العالم الممثلة في موقف الجامعة العربية والأمم المتحدة، ليس هناك بين بين، وليس هناك مبرر أخلاقي ولا حتى منطقي للوقوف مع المحتل الذي بادر بمحض إرادته باحتلال دولة مجاورة وعاث فيها تخريبا وتنكيلا ثم جاء ليخلط الأمور ويقدم المبررات لاستمرار هذا الاحتلال.

ذلك الموقف الأخلاقي الذي نتحدث عنه هو موقف “ظاهري” كما أسلفنا، لكن واقعيا كلا من الموقفين الرسمي والشعبي لا يحتمل ذلك التبرير الأخلاقي، بل هو موقف داعم لذلك الاحتلال بشكل مفضوح مهما اصطبغ بالمبررات، ولذلك دلائل عديدة لا ينكرها إلا الجاهل بتاريخ ما حصل.

من فلم وثائقي (١٩٩٨)

رسميا، العديد من الأحزاب والحركات الفلسطينية كانت لها مصالح مباشرة مع النظام العراقي، فكان قادة تلك الحركات مستمرون بلقاءاتهم مع الرئيس العراقي وبتقديمهم لفروض الطاعة والتقدير له شخصيا ولموقفه، وكل ذلك كان موثقا ومرئيا أمام الأعين. وبالطبع فإن تلك الحركات كان لها المؤيدون من الشعوب، فهي ليست حركات صورية! ومن ذلك خرجت المظاهرات في الشوارع العربية والأجنبية تدعم شخص الرئيس العراقي وتحمل صوره وتدعوا له بالمجد والنصر. وشعبيا أيضا كانت تلك الجماهير شامتة بالكويتيين وكانت تسخر منهم وتضايق المنفيين منهم، وذلك أيضا موثق بالشهادات وأيضا لا ينكرها إلا جاهل أو متجاهل. فهل هناك ما يبرر تلك المواقف؟ هل رفض الوجود الأجنبي أو الحفاظ على الجيش العراقي يستدعي ذلك الموقف؟ تلك المواقف تحدث عنها شموط ذاته، ونقل على لسان بعض من قابلهم من الفلسطينيين بأنهم يأسفون على ما أصاب الكويت، لكنهم يرون أنه شر مبرر ولا بأس به في سبيل تحقيق “أهداف قومية ووطنية فلسطينية” كما كانوا يعتقدون (إسماعيل شموط، أيام الغزو، ص٣٣٤).

الموقف الرسمي للمنظمة رغم محاولات تغطيته بما ذكرناه من مبررات كان مفضوحا من جوانب أخرى. من المعلومات الخطيرة التي ذكرها إسماعيل شموط بكتابه هو لقاءه بشهر نوفمبر، بعد ثلاثة شهور من الغزو، بعزام الأحمد السفير الفلسطيني ببغداد الذي زاره في منزله، والذي أوضح له نيته من زيارة الكويت وهي افتتاح ملحقية للسفارة الفلسطينية في الكويت(ص٢٨٦)، أي أن السفارة الفلسطينية في بغداد ستكون “الأصل” والملحقية في الكويت هي “الفرع” لها! وذلك اعتراف رسمي من السلطة الرسمية الفلسطينية بكون الكويت منطقة تابعة للعراق! شخصيا لم أسمع بهذا الأمر سابقا، وذلك أمر مبرر لأن السلطة في ذلك الوقت كانت تنكر هذا الاعتراف، لكن مرة أخرى الحقائق التاريخية، كما فضحها شموط، لا يمكن إنكارها مهما حاول الساسة تغطيتها بأحاديثهم.

موقف الداخل

الموقف الأصعب والذي كان له الأثر الأكثر إيلاما هو موقف فلسطينيي الداخل الكويتي، والحديث فيه حساس للغاية. كانت الجالية الفلسطينيه في الكويت بفترة النصف الثاني من القرن العشرين وحتى تحرير الكويت حالة خاصة، تختلف عن حالة بقية الجاليات العربية والأجنبية فيها. نعم هناك المقولة الشهيرة بأن الفلسطينيين ساهموا ببناء الكويت الحديثة، والحديث ما يزال يدور إلى اليوم عن فضل الفلسطينيين على الكويتيين في كافة المجالات من التعليم إلى الطب إلى التجارة، وذلك أمر لا ينكر. بنفس الوقت، الفلسطينيين كذلك لا ينكرون فضل الكويت عليهم، فهي البلد الذي كان يستضيف مئات الآلاف منهم (يقدر العدد بـ٤٠٠ ألف فلسطيني كان في الكويت قبل الغزو) ممن استمروا بالتوافد إليها بعد أن سدت حتى أقرب الدول العربية لهم أبوابها، ومن خير الكويت كانت تلك العائلات تعين وتعيل مئات آلاف أخرى من الفلسطينيين في مختلف دول العالم.

هؤلاء الفلسطينيون كانوا ينقسمون إلى قسمين رئيسيين ركز عليهما إسماعيل شموط كلامه في الكثير من مواقف الكتاب: فهناك الفلسطينيون من حملة جوازات السفر الأردنية، وهؤلاء حالهم كان أيسر أثناء الغزو لتمتعهم بحرية أكبر عند مغادرتهم للكويت، وهناك الفلسطينيون من حملة وثائق السفر المصرية ممن يصعب عليهم حتى دخول مصر ذاتها التي أعطتهم تلك الوثائق بعد نزوحهم إليها بعد حرب ١٩٦٧. مثل كل من كان في الكويت أثناء الغزو عانى الفلسطينيون كثيرا بسبب توقف الحياة فيها وانقطاع دخلهم، ونتيجة لذلك خرج من الكويت من استطاع الخروج. من استطاع الخروج هنا نعني فيها حملة الجوازات الأردنية، بما في ذلك أبناء شموط. ويقدر شموط عدد من ترك الكويت من الفلسطينيين والأردنيين بحوالي ستين ألف عائلة وذلك خلال الشهرين الأولين من الغزو (٢٢١)، وهي أرقام تقديرية ولا بد أنها تزايدت لاحقا (يقدر عدد من غادر بـ٢٠٠ ألف فلسطيني). أغلب من تبقى من الفلسطينيين في الكويت كانوا من حملة وثائق السفر المصرية لصعوبة تنقلهم بتلك الوثائق، بالإضافة لمن لم يستطع الخروج لأسباب مادية أو غيرها، وهناك بالطبع البعض منهم من فضلوا البقاء في الكويت لأي أسباب أخرى، مثل شموط ذاته.

الكويتيون بالداخل كانوا على اطلاع على الموقف الفلسطيني، سواء من خلال ما يسمعونه من أخبار أو من خلال ما شهدوه بأعينهم. لمّح شموط بأكثر من موضع بكتابه بأن بعض الكويتيين كان لهم موقف عدائي تجاه فلسطينيي الداخل الكويتي، وآخرون على العكس، متعاطفون معهم، ومن المؤكد بأن لكل منهم أسبابهم. واحدة من أهم تلك الأسباب كانت التعاون مع المحتل بشكل مباشر أو غير مباشر. يذكر شموط بأن من تعاون بشكل مباشر مع المحتل أو ارتكب أعملا توصف بالخيانة لا يتجاوز “بضع مئات، أو قل ألفا أو ألفين” من أصل مئتي ألف فلسطيني كانوا لا يزالون في الكويت (ص٣٢٢)، وهي كلها أرقام تقديرية غير دقيقة، لكنها بالتأكيد أرقاما ليست بسيطة في تلك الظروف. يبرر شموط تلك الحالة بأنها أمر “طبيعي” في تلك الظروف، وأنها حالة بشرية عادية! تشمل أشكال الخيانة تلك التعاون المباشر مع المحتل عسكريا واستخباراتيا، بالإضافة للأعمال الإجرامية وأعمال استغلال الظروف للاستفادة المالية والتجارية.

فئة أخرى ثار حولها الجدل وتحدث عنها شموط هي من تجاهلوا مبدأ العصيان المدني. فأثناء الاحتلال كان هناك رفض من قبل الكويتيين للالتحاق بأعمالهم ومدارسهم، ما عدا بعض الوظائف الأساسية كمجالات الطب وخدمات الطاقة والاتصالات، والتي اشتغل الفلسطينيون فيها كذلك. لكن شموط يشير بكتابه إلى استغرابه من الفلسطينيين ممن قبلوا العمل في المدارس وألحقوا أبناءهم بها، وإن كان قد برر تصرفهم ذلك بلسانهم بأنهم كانوا بحاجة للمال، ولشغل أوقات فراغ أبناءهم!

كل ذلك والكويتيون يسمعون ويراقبون وإن كان ليس لهم حول ولا قوة للتصرف في حينها. كانت أخبار تلك الخيانات تتداول بينهم، بل وتزداد وتتضخم أثناء انتقالها، وأضف لذلك الأخبار والمواقف السياسية والشعبية المعروفة التي تحدثنا عنها مسبقا. كل ذلك أدى إلى ردة فعل كويتية غاضبة تجاه الموقف الفلسطيني (والعربي بشكل عام) من الغزو بشكل تعميمي! بعض ردود الأفعال تلك كانت متطرفة، كموقف “الصديق” الكويتي “حاد الطباع” الذي قابله بعد أربعة أشهر من الغزو، والذي -ككثير من الكويتيين برأيي- كفر بفكرة العروبة والقومية بسبب المواقف العربية من الغزو، والذي كان يؤمن بضرورة طرد كل من تعاون مع المحتل أو قام بخدمته بأي شكل من الأشكال وأن تكون الكويت للكويتيين بعيدا عن شعارات العروبة والقومية. حديث ذلك الصديق سبب خوفا من المستقبل لشموط، فراح على إثره يعدد تبريرات الفلسطينيين وأفاضلهم، تبريرات لنا أن نأخذ منها ونرد بعضها، ونتيجة لذلك الخوف نراه أيضا مهتز الشعور تجاه فكرة ربط الغزو بحل القضية الفلسطينية التي كان رافضا لها بالبداية! فأين يذهب الفلسطينيون إن طردوا من الكويت؟ فهم على خلاف الجنسيات الأخرى التي خرجت من الكويت لا وطن لهم ليعودوا إليه، وأغلبهم يصعب استقبالهم في أي مكان بسبب وثائق سفرهم، فماذا سيكون مصيرهم إن لم تحل قضيتهم؟ تلك الحالة الفلسطينية من الشتات ليست بجديدة، فبعد خروجهم من أرضهم بسبب الحروب المتتالية طردوا قبلا من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود عام ١٩٧٠، وبعضهم هجّروا من لبنان بعد اجتياح ١٩٨٢ (ومنهم شموط ذاته). لذلك خوف شموط من استمرار ذلك الشتات نجد له بعض التبرير.

الموقف الكويتي

من المؤكد بعد كل ما سبق بأن الموقف الكويتي من الفلسطينيين (والعرب عموما) لم يكن بلا مبرر، قد يكون متطرفا بالعداوة لدى بعض منهم، وقد يكون مبالغا بالتسامح وحسن النية لدى القلة من البعض الآخر. لكن بنظر الكل فإن موقف الفلسطينيين بكافة فئاتهم الرسمية والشعبية بشكل عام لم يكن كما كان مأمولا منه، كما رأيناه بالتاريخ الموثق. من ناحية يرى الكويتيون بأن استضافتهم لمئات آلاف للفلسطينيين عبر العقود الماضية وتوفيرهم لأمل بالحياة لهم ودعمهم المادي والمعنوي لقضيتهم طوال تلك السنين يجعلهم يستحقون موقفا أكثر حزما ودعما ووضوحا عندما احتاجوا له بأزمتهم، فكانت خيبة آمالهم كبيرة بعد ما شاهدوا من تخاذل وصل لحد الخيانة وتأييد المحتل، موقف لا يتناسب ولا يرقى لمستوى مواقف الكثير من الشعوب التي دعمت قضية الكويت بكل وضوح، كالشعوب الخليجية. ومن ناحية أخرى نرى حتى أكثر الفلسطينيين تعاطفا مع الكويتيين، كإسماعيل شموط، يجعلون لأنفسهم استحقاقا يتيح لهم حق الوجود في الكويت بحجة أنهم هم من عمّرها وأدارها قبل الغزو وأثنائه (ص٣٢٠) وذلك باسم العروبة والقومية، وبالتالي لا يستحقون ردة الفعل الكويتية تلك. ولا يلام هؤلاء ولا هؤلاء.

نعم، بعد التحرير مباشرة وفي ظل الفوضى حدثت أعمال انتقامية من بعض الكويتيين ضد بعض الفلسطينيين، قد لا تكون موثقة بوضوح، والعذر كان الانتقام من الخونة المعروفين ممن تعاونوا مع المحتل أو سببوا الأذى لغيرهم. لا يمكن لأحد تبرير تلك الأعمال الانتقامية الفوضوية، لكن يدعي البعض أنها لم تكن انتقاما من الفلسطينيين بشكل عام، بل من بعض من ثبت تعاونهم مع المحتل. هي أعمال متطرفة وحدثت وسط الفوضى كما قلنا، وكان يجب أن تتم وفق القانون وتحت أعين القضاء، وهي رغم أنها كانت انتقائية وليست عامة إلا أنها أثارت الرعب في الأوساط الفلسطينية وأدت إلى هجرة أغلبهم من الكويت بعد التحرير مباشرة. الموقف الكويتي الرسمي لاحقا منع عودة من غادر الكويت من الفلسطينيين بعد قطعٍ للعلاقات مع الدولة الفلسطينية استمر ما يقارب العشرين عاما.

الموقف الشعبي الكويتي من الفلسطينيين ومن ما أطلق عليه اسم “دول الضد” ظل متكهربا لسنين طويلة. في فترة ما بعد التحرير ألغى الكويتيون في المدارس صيحة “تحيا الأمة العربية” التي كانت تقال قبل تحية العلم كل صباح. هل هذا الموقف مبرر؟ هل يلام الكويتيون على ذلك بعد ما مروا به من أحداث وما شاهدوه من مواقف؟ لا يمكن لأحد أن يجيب على هذه التساؤلات، ولا يحق لأحد محاولة الإجابة ببساطة لأنها كانت ثقافة عامة جاءت كرد فعل على أحداث صعبة وبغاية التعقيد. لكن ذكرها ودراستها ومعرفة أسبابها أمر بغاية الأهمية حتى نفهم ما حصل.

عودة المياه

بالطبع مع مرور السنين تغيرت الأحوال، فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الضد عادت طبيعية. حتى الفلسطينيون أنفسهم اعترفوا لاحقا بخطأ موقفهم من الغزو رسميا وتصالحوا مع الحكومة الكويتية وأعادوا افتتاح سفارتهم في الكويت. يجدر القول كذلك أنه حتى شعبيا لم يتخل الكويتيون عن دعم القضية الفلسطينية حتى قبل عودة العلاقات الرسمية، ويتمثل ذلك بالتعاطف الإنساني وبالدعم المادي، واستمر هذا الدعم والتعاطف إلى يومنا هذا.

Palestine from Moayad Hassan on Vimeo.

والسؤال هنا، إن كانت القضية الفلسطينية هامة للكويتيين اليوم كما كانت منذ عقود من الزمن لم إذا استذكار الماضي واستحضار موقف طارئ تضررت فيه هذه العلاقة واضطربت؟ وهل تذكر الموقف الفلسطيني من الغزو العراقي للكويت يفيدنا بشيء سوى تأجيج الخلافات وزيادة الشقاق بين الشعوب؟

والجواب هو نعم، استذكار تلك المواقف أمر هام ومفيد. حفظ التاريخ وتوثيقه شيء لا غنى عنه، وإلا لكنا نعيش حياتنا بتخبط وسبهللة! أضف لذلك أنك إن لم تكتب تاريخك… سيكتبه غيرك لك! تناسي المشاكل وعودة الود أمر محمود ويتيح لنا العيش بهناء دون تعصب وشد قد يعرقل تركيزنا على ما هو أكبر وأهم بهذه الحياة، لكن التناسي لا يعني نسيان ذلك التاريخ ومحوه باسم العفو عما مضى. وحديثي عن فائدة التاريخ هنا مرتبط بفهمنا ونقدنا وتحليلنا لهذا التاريخ، لا السرد الانتقائي المباشر بغرض الاستحضار والاحتجاج. فعندما نتذكر تاريخ الموقف الفلسطيني من الغزو علينا أن نسأل أسئلة مثل لماذا حدث ما حدث؟ ما الدوافع التي حدت الفلسطينيين لاتخاذ هذا الموقف؟ وهل كل ما سمعناه وقرأناه في حينها أو فيما بعد كان صحيحا أم أن هناك روايات أخرى لم نسمعها؟ تلك بعض الأسئلة التي يجب أن تطرح، لا تذكر الماضي بغرض استحضار الأحقاد، ولا تجاهله نهائيا واعتبار أنه شيء انتهى ولا قيمة له اليوم.

نعم التعاطف مع قضية الإنسان الفلسطيني شيء محمود دائما، مثل التعاطف مع أي إنسان معرض للظلم والقهر، لكن التعاطف لا يعني تغليب العاطفة، فحتى التعاطف يجب أن يكون عقلانيا! بل إن أساس ما حدث بين الكويتيين والفلسطينيين من مشاكل وشقاق كان سببه الأساسي وغلطته الكبرى تغليب العواطف على العقل. الأمل الزائف بقدرة النظام العراقي على حل القضية الفلسطينية، مشاعر القومية العمياء وشعاراتها وإحساس الاستحقاق، الخوف من المصير المجهول لما بعد الحرب، كلها عواطف سيطرت على الفلسطينيين وبعض العرب ودفعتهم لاتخاذ موقفهم المهزوز. والعكس صحيح، مشاعر الضعف والمظلومية وقلة الحيلة والغضب الناتج عنها ولد لدى الكويتيين حقدا دفعهم للانتقام الجسدي والعاطفي تجاه من كان ضدهم في أزمتهم. لو تركنا تلك المشاعر تسيرنا لاستمرت معاناتنا للأبد، فكل تعبير عن تلك المشاعر من طرف سيصحبه ردة فعل مشابهة ومضادة من الآخر، ولن نستقر إلا بالتعقل والتفكر والنقاش… لا النسيان.

لا أحب مقولة أن العرب شعوب عاطفية، فكل البشر عاطفيين، لكن ربما ثقافتنا وأدبياتنا وتاريخنا اللغوي العربي عوامل تساعد على التعبير عن تلك العواطف بشكل أوضح من غيرنا، لذلك يبدو أن عندنا نوع من التطرف العاطفي الذي يدخلنا في طريق المشاكل والشقاق. من ناحية أخرى نضيف أن لدينا تخوف من فكرة عرض التاريخ، ناهيك عن دراسته بتعقل وموضوعية، فذلك التاريخ إن رُجع له فإنه يستخدم عادة كأداة لخدمة رأي أو سلطة أو جماعة، وبالتالي تُخشى إثارته من الأساس في وقت الرخاء لتجنب الاضطراب، وحيلة طمس التاريخ كثيرا ما تلجأ لها السلطات لذلك السبب. تلك كلها أسباب تجعلنا عرضة للانزلاق في مسار التطرف، وفي حالتنا هذه تطرف بالأحقاد أو تطرف بالنسيان. أسهل طريق نتخذه لتجنب الخلافات والمشاكل هو بتجاهلها ومحاولة طيها ونسيانها وعدم الحديث عنها، وهذا أمر لا يقل خطورة عن الحارة المقابلة من طريق التطرف، فذلك التجاهل ليس إلا قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أية لحظة.

لذلك لنتحدث، ولنتذكر، ولنناقش، ولندون ونكتب ومن ثم نقرأ، بذلك فقط سنصل إلى الثقافة العاقلة التي تتعلم من التاريخ وتستفيد منه، وبذلك سنتجنب الأخطاء ونتفادى المشاكل وتصبح لدينا القدرة على أن نبني مواقف وقررات مدروسة تنفعنا وتنفع البشر.

مزرعة الصحة

الأنباء 1 يونيو 2020

الصحة تقوم في الوقت الحالي بتتبع أعداد الإصابات في المناطق المعزولة، حيث يقطنها أعداد كبيرة من الوافدين والعزاب، ممن لا يلتزمون التعليمات الصحية والتباعد الاجتماعي. […] المرض لن ينحسر في هذه المناطق، إلا من خلال تطبيق المناعة المجتمعية.

رئيسة المشرفين الصحيين في منطقة العاصمة بالصحة الوقائية

جميع الحيوانات سواسية، لكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها.

جورج أورويل، مزرعة الحيوانات


التفاصيل في مقال حصار المهبولة.

حصار المهبولة والعزل العنصري

في مرحلة متقدمة من أزمة جائحة الكورونا أصدرت الحكومة الكويتية بالسادس من أبريل 2020 قرارا بعزل منطقة المهبولة (وجليب شيوخ) بحجة انتشار المرض بين سكانها وبالتالي الحد من انتشاره خارجها. وبعد شهور من هذا العزل لنا أن نتساءل أولا عن فاعليته وتحقيقه للهدف منه، وثانيا عن آثاره الاجتماعية والثقافية، وأخيرا عن الدروس المستفادة منه.

يسكن المهبولة ما يقارب المئتي ألف نسمة، ومن الشائع عنها أنها منطقة تسكنها العمالة الوافدة، وإن كان سكانها من جنسيات مختلفة (بما في ذلك الكويتيين) وتوفر بعض بناياتها سكنا لعمال بعض الشركات الكبيرة ومدرسي بعض المدارس والجامعات وغيرهم من الفئات السكانية المختلفة، كما تحوي العديد من المحلات التجارية والعيادات الطبية والمستشفيات والمطاعم والنوادي وغيرها.

أثناء فترة العزل عانى سكان المنطقة من الكثير من المشاكل، أبرزها صعوبة الحصول على متطلبات المعيشة الأساسية، فغالبية شركات التوصيل لا تستطيع (أو ترفض) دخول المنطقة، كما أن المنطقة ليس بها جمعيات تعاونية ولافروعها ولا مركز صحي. تمت محاولة حل بعض هذه المشكلات بإنشاء فرع مؤقت لجمعية الفنطاس داخلها وفرع للتموين ومركز صحي ميداني، وهي إجراءت ترقيعية… اسألوا سكان المهبولة عنها! مشكلة أكبر تواجه بعض سكانها كذلك هي فقدهم لوظائفهم ومصادر رزقهم بسبب عزلهم عنها.

الحديث بالفقرة السابقة هو عن بعض المشاكل المادية، ولكن هنالك مشاكل اجتماعية ونفسية وثقافية لا تقل عنها، ناهيك عن المشكلة الصحية الأساسية. ففيما عاشت بقية مناطق الكويت حظر تجوال كلي لمدة 20 يوما عانى السكان من خلالها من مختلف أنواع المشاكل والضغوطات… نجد المهبولة تستمر معاناتها من مشاكل وضغوطات مشابهة لمدة استمرت ما يقارب الشهرين حتى وقت كتابة هذا المقال.

والسؤال هنا…

ماذا استفدنا من العزل؟

عند صدور قرار العزل كان مقررا له أن يستمر أسبوعين حتى يتم السيطرة على الوضع، فكيف تحول الأسبوعان إلى شهرين؟ وماذا نستنتج من هذا التمديد؟

إذا اعتبرنا المهبولة المعزولة بسكانها المئتي ألف مجتمعا مغلقا صغيرا فذلك يجعلها ما يمكن اعتباره مجموعة قياسية، فالإجراءات التي تم تطبيقها عليها خلال شهري العزل ومقياس نجاح تلك الإجراءات هو دليل على ما يمكن تطبيقه على الدولة ككل. بمعنى آخر… إذا اعتبرنا سكان المهبولة بأنهم “فئران تجارب” الإجراءات الصحية فإن النجاح بالسيطرة على انتشار المرض فيها هو دليل على نجاح تجربة يمكن تطبيق إجراءاتها على الكويت ككل، والعكس أيضا صحيح، إن كانت الدولة قد فشلت في السيطرة على المرض بين 200 ألف شخص معزولين عن العالم في المهبولة (و300 ألف في جليب الشيوخ)… فكيف ستنجح بالسيطرة عليه بين 4 ملايين من بقية سكان الكويت ممن يسرحون ويمرحون دون عزل؟

باعتبار عزل المهبولة كتجربة علمية فإن الفشل بالسيطرة على المرض فيها يمكن اعتباره إما ضعفا بالقدرة على التخطيط والتنفيذ، وتلك كارثة إدارية تنذر بمصيبة أكبر تعم البلاد، أو أنه فشل متعمد… وتلك مصيبة أكبر!

حرس الحدود عند السور الحديدي المحيط بالمهبولة

العزل الثقافي

فكرة العزل الثقافي ليست جديدة ولا غريبة علينا ككويتيين، تحدثت عنها سابقا في مقال ثقافة السور، فذلك السور الحديدي القبيح المحيط بالمهبولة قد يحمل دلالة ثقافية أكثر قبحا من شكله بكثير.

غير الملتزمون من الكويتيين أضعاف غير الكويتيين

النظرة الشائعة التي تحدثنا عنها أعلاه عن كون المناطق المعزولة هي مناطق “وافدين” هي واحدة من المعضلات العويصة في قضية عزل أو حصار المهبولة، وذلك ليس أمرا مستغربا في ظل العقلية العنصرية التي كانت سائدة لعقود طويلة وتفاقمت بشكل ضارٍ وجلي خلال أزمة الجائحة. أدت هذه العقلية العنصرية لانتشار فكرة أن سبب تفشي المرض في هذه المناطق سببه تكدس العمالة بكثافة عالية حينا، وعدم وعي تلك العمالة واستهتارها بالقوانين حينا آخر. يتم لوم سكان تلك المناطق بشكل صريح أحيانا، وفي أحيان أخرى يكنى عن ذلك بلوم من يطلق عليهم اسم “تجار الإقامات” ممن تسببوا بهذا التكدس. لن أتناقش هنا بمن هو أكثر وعيا، الوافد أو المواطن، لأن في ذلك تعميما مرفوضا، لكن أرقام مخالفي الحظر الرسمية التي تنشرها وزارة الداخلية يوميا وفيديوهات المواطنين بالخيران تقول بعكس الرأي الشائع.

مثال على تجاهل قيود حظر التجول بالخيران وغيرها من المناطق الساحلية

أكذوبة التكدس

نقطة أخرى تضلل الرأي العام في الكويت وهي إحصاءات حالات الإصابة الرسمية، وهي أرقام من المفترض بأنها جامدة ولا يختلف عليها، لكن الطريقة التي تقدم وتقرأ بها هي ما يمكن التلاعب به. تلك الأرقام إن قُرأت بالشكل الصحيح تبين لنا أنه على عكس الاعتقاد السائد بأن المرض مستشر بين جنسيات الوافدين المتكدسين وقليل الانتشار بين الكويتيين فإنه واقعيا لا يفرق كثيرا بين المجموعتين… إحصائيا!

بداية يجب أن أسجل اعتراضي على تقسيم المرضى بين كويتيين وغير كويتيين، فالمرض لا يعرف فرقا بينهم، والفيروس يجري بالدم الكويتي كجريانه بدم غير الكويتي، وقد فصلت بذلك بمقال للكويتيين فقط، ولكني أورد هذه الإحصاءات فقط لتوضيح سوء الفهم الدارج عند الناس. ببداية الجائحة كانت أرقام الإحصاءات تذكر دون تحديد جنسية المصابين، وكان ذلك أمرا حميدا برأيي، لكن الناس حينها أخذت تطالب بذكر جنسيات المصابين… لغرض في نفسها، فما كان من السلطات الصحية إلا أن استجابت لمطالبهم مما أسعد أصحاب رأي “شوفوا شلون المرض منتشر عند الوافدين أكثر!” وهي بالطبع مغالطة لم تكلف السلطات تصحيحها للناس.

عدد سكان الكويت حسب آخر التقديرات هو ما يقارب الأربع ملايين وسبعمئة ألف نسمة، يمثل الكويتيون منهم ما يقارب الـ 30 بالمئة. الآن إن افترضنا أن المرض انتشر بالتساوي بين السكان، يفترض منطقيا إذن أن تتوزع أرقام الإصابات بنفس نسبة السكان، أي أن تكون نسبة الكويتيين المصابين بالمرض من إجمالي عدد الإصابات هي 30 %، فكم تعتقد هي النسبة الحقيقية؟

لم أجد إحصائية شاملة لنسب الإصابات حسب الجنسيات، خاصة وأن نسب إحصاءات الأيام الأولى غير متوفرة كما ذكرنا، لذلك قمت بجمع أرقام الإصابات الجديدة للخمسة أيام الماضية كعينة إحصائية، وهي من أيام الحظر الشامل، وكانت النتيجة كما يلي:

المصابين الكويتيين = 1057
المصابين من غير الكويتيين = 4234

مرة أخرى، ظاهريا عدد المصابين من غير الكويتيين أكبر بكثير من عدد الكويتيين، وتلك هي الأكذوبة التي يعتمد عليها من يلوم الوافدين على تكدسهم وعدم التزامهم، لكن إن أخذنا النسبة بين العددين نجد بأن عدد الكويتيين المصابين يصل إلى 26% من المجموع، أي أنه عدد قريب من نسبة الـ 30% التي افترضناها منطقيا. بمعنى آخر الإصابات تتوزع نوعا ما بالتساوي بين الجنسيات رغم فرضية التكدس وعدم الالتزام التي صورت لنا بأن مناطق الوافدين هي بؤرة المرض ومستنقع الجائحة.

طبعا هذه الأرقام والإحصاءات الرسميةمن الأساس لا تعكس الحقيقة بشكل دقيق، ولا أذكرها هنا بإيمان مطلق بأهميتها، ولكن ما يهمني هنا هو الجانب الثقافي المتعلق بكيفية قراءتها، وكيف يمكن أن يخدع الناس بها، وكيف يمكن أن تستغل لإيصال أفكار خاطئة للجماهير تؤثر على معتقداتهم وآرائهم وقراراتهم، وكيف يمكن للفهم الخاطئ أو المضلل للأرقام أن يبني ويعزز الفكر العنصري.

اللوم العنصري

هل عملية اللوم العنصري هذه أمر طبيعي؟ وهل أتت من فراغ؟ لا أعتقد ذلك، بل إني أجرؤ أن أقول بأنها عملية منظمة بشكل ما. تزايد وتيرة الخطاب العنصري خلال هذه الأيام هو أولا نتيجة تراكمات الثقافة العنصرية كما فصلت بثقافة السور، وأيضا نتيجة الخطاب الوطني/القومي المطروح بسذاجة بالإعلاميات التي انتشرت خلال الجائحة، والطرح الوطني/القومي وأثره في إثارة العنصرية هو أيضا موضوع تحدثت عنه بالتفصيل سابقا بمقال الصورة الكبيرة. مما بالغ بتعظيم دور الخطاب العنصري هذه المرة أيضا هي الرسائل مجهولة المصدر المتداولة أو تصريحات بعض المشاهير المنتشرة بالإعلام بالإضافة لبعض حسابات مواقع التواصل الاجتماعي التي نراها تتحرك بشكل منظم لإثارة النعرة العنصرية… وفوق ذلك تجاوب السلطات الرسمية معها. مسألة الرسائل الإعلامية الرسمية والشعبية قد تكون موضوع مقالات قادمة.

نوم شومسكي عن ترمب:
– يلوم أطراف خارجية كالصين ومنظمة الصحة، أمر سهل بيعه للجماهير
– يقنع الجماهير أن الأصوات المعارضة عبارة عن إشاعات تدمر قيادته الحكيمة
– يشبهه بالنازية، مع اختلاف أنها كانت تسيطر على التجارة، بينما ترمب يخدم التجار طالما كان ذلك يخدم نرجسيته

بالنسبة للسلطات فإن عملية اللوم الشعبي العنصري لتلك الفئات المستضعفة هي هدية من السماء! فكرة أننا كسلطات نعمل بأقصى جهدنا ونضحي بأرواحنا وبثرواتا من أجل إخراج الناس من براثن هذه الجائحة… لكن هؤلاء الناس هم من يصعبون حياتنا بسبب تكدسهم حينا… أو بسبب مشاكلهم وعدم احترامهم لتوجيهاتنا واحتجاجاتهم وفوضاهم حينا آخر، فكيف سننجز في ظل هذه المشاكل التي يسببها الوافدون ومن جلبهم لنا ورماهم؟ لوم الآخر والتعلل بالخطر الخارجي تكنيك تلجأ له الأنظمة الحاكمة بكل مكان بالعالم، تكنيك رغم أنه مفضوح إلى أنه غالبا ما ينجح باستمالة الجموع قليلة الوعي.

الدرس المستفاد

هل استفادت السلطات الصحية والحكومية من شهري حصار المهبولة؟ من الواضح جدا أن الجواب لا مدوية! بالنسبة لجليب شيوخ فما زالت تنافس بصدارة الأرقام الرسمية (سواء صدقناها أم لا) لعدد حالات الإصابة بالمرض اليومية، أما المهبولة فتصعد حينا بالتوب 4 وتختفي أحيانا أخرى، بل إن مناطق أخرى دخلت في سباق الإصابات وتجاوزتهما كالفروانية وخيطان (أيضا من ما يطلق عليها اسم “مناطق الوافدين”). فكيف تعاملت السلطات مع هذه التطورات؟ طبعا بالمزيد من العزل والحصار!

خلال الفترة القريبة من عيد الفطر أثناء مرحلة الحظر الشامل أرخت السلطات الحصار على المهبولة قليلا، فتم السماح لسكانها بالخروج من المنطقة خلال فترة السماح بالمشي من 4 ونصف إلى 6 ونصف كبقية المناطق من خلال بعض بوابات السور التي تم فتحها لهم، لكنه كان إرخاء “مفرطا” إن صح التعبير، فانتشرت فجأة تسجيلات مصورة للناس وهم يلهون ويتنفسون بحرية على شاطئ البحر بعد شهور الحبس الطويلة، الأمر الذي أعاد استثارة الناس ضدهم ممن صوروهم وكـأنهم مستهترون ومتمردون ويجب قمعهم وإجبارهم على “احترام الدولة”! فما كان من السلطات إلا الامتثال لتلك الأصوات وإعادة إغلاق البوابات بعد أن ظن سكان المهبولة لوهلة أن الفرج قريب وأن حصارهم سينتهي.

من ناحية أخرى صدر قرار بتمديد عزل المهبولة وجليب الشيوخ، بل وتوسعة نفس فكرة العزل على مناطق أخرى وهي الفروانية وخيطان وحولي والنقرة وميدان حولي (مرة أخرى “مناطق وافدين”) اعتبارا من تاريخ 30 مايو 2020. طبعا حتى هذه القرارات تستند على نفس القراءة المغلوطة للأعداد، فالفروانية مثلا من المناطق المتصدرة لأعداد الإصابات، ظاهريا هذا شيء مفزع! لكن إن وضعنا بالاعتبار أن منطقة الفروانية هي بالأساس ذات كثافة سكانية عالية (محافظة الفروانية تحوي ربع سكان الكويت تقريبا!) فإنه من الطبيعي أن يكثر عدد الحالات فيها، لذلك اعتبارها منطقة موبوءة تستحق العزل قرار متخبط ويستند على قراءة عاطفية للأرقام… وذلك يمثل حلقة بسلسلة فشل التخطيط.

نعود مرة أخرى لفكرة العزل ذاتها، إن كانت فكرة حصار المهبولة فاشلة ولم تحقق أهدافها المعلنة فلم الاستمرار بها بنفس الطريقة بعد طول هذه المدة؟ وبأي منطق علمي تعمم التجربة الفاشلة على مناطق أخرى؟ هل هناك منطق تم الاستناد عليه غير الأرقام المعلنة؟ هل هناك حقائق أخرى لا نعرفها أدت لتلك القرارات؟ ولم لم تُعرض وتفسر تلك الحقائق؟ تلك أسئلة لم تقدم لها إجابات… بل لم تطرح أساسا ولم تخطر على بال الواثقين ثقة عمياء بقرارات السلطة ممن أيديهم بالماء ولا يشعرون بأثرها على السكان المحاصرون!

“كلو نفرات من شان وقف خبز هو روح”

منظر يومي من معاناة سكان جليب الشيوخ وطوابير توزيع المواد الغذائية الطويلة.

هناك بالطبع احتمالات أخرى، وهي أن لحصار المهبولة -وغيرها – أهداف أخرى… غير معلنة، ولنا هنا أن نتساءل عن تلك الأهداف. هل هي وسيلة للضغط على تجمعات الوافدين؟ هل هي خطة للكشف عن متجاوزي قانون الإقامة؟ هل هي لأسباب سياسية؟ هل هي محاولة لإرضاء الرأي العام الغاضب من فشل السلطات في السيطرة على المرض؟ لو كانت الإجابة بنعم على أي من تلك الأسئلة فإن ذلك سيكون كارثة أخلاقية كبرى، أن يستغل الوضع الصحي لحقيق مآرب سياسية أو غيرها.

هل هي صدفة أن يسبق قرار تمديد العزل استعار الحملات العنصرية ضد الوافدين على مواقع التواصل الاجتماعي… والجالية المصرية على وجه الخصوص؟بل نجد حتى تلفزيون الدولة الرسمي قد عرض مسرحية للصبر حدود (1980) في نفس يوم إعلان التمديد، وهي مسرحية تدور قصتها حول رجل كويتي يتزوج من فتاة مصرية مما يتسبب بمشاكل وخلافات في بيته! ثم هل هي صدفة أيضا أن يعلن قبل قرار التمديد بأيام قليلة عن حزمة من المكافآت المادية للعاملين بما يطلق عليه اسم “الصفوف الأمامية” المتضمنة بالطبع أفراد السلطة الأمنية… وهم نفسهم من سيتولون عملية حصار المناطق الجديدة؟

أعلم أن تلك أسئلة كثيرة لا نملك إجابتها حاليا، ربما سنجيبها مستقبلا، لكنها أسئلة تستحق أن نطرحها ونفكر فيها. أو يمكنك أن تتجاهلها، وتعيش حياتك مصدقا كل ما يقال لك وواثقا بقرارات السلطات وبحكمتها بإدارة الجائحة، لكن فقط تذكر بأنه في الوقت الذي تجلس فيه ببيتك مرتاحا، أو ربما متضايقا قليلا بسبب تأثير الحجر على مواعيد قهوتك وملذاتك وزياراتك الاجتماعية، هناك بنفس الوقت من يعاني معاناة حقيقية تهدد أمنه وقوت يومه وحتى صحته وحياته بظل الحصار الذي يحيط بالمنطقة المكتوبة ببطاقته المدنية. تجاهل هذه الأسئلة الآن إن أردت، لكن إن تسبب هذا الحصار بمعاناة غيرك… أو حتى ثورتهم وانفجارهم… أتمنى أن يتحرك ضميرك قليلا.


تحديث 1: نسبة إصابات الكويتيين خلال الأيام التالية لنشر المقال تجاوزت الـ 30%.

تحديث 2: مؤسف أن تصدق الشكوك، فلأول مرة يخرج تصريح من مسؤول بالسلطات الصحية بخصوص المناطق المعزولة مسميا إياها مناطق “وافدين” و”عزاب“، وذاكرا أن لا خطة للوزارة بخصوصها سوى تركها لمناعة القطيع!

الأنباء، 1 يونيو 2020

اقتصاد السمبوسة

قد يختلف معي المتخصصون بالاقتصاد لما سأطرح في هذا المقال، لكن الحديث الذي سأسطر سيأخذ منحى ثقافيا وليست اقتصاديا بحتا، رغم أن المجالين بينهما ارتباط وثيق. 

أزمة الوباء وتداعياتها من حجر وحظر تجوال وتباعد اجتماعي والخوف والحذر الناتج عنها وضحت لنا أمرا قد كان خاف علينا إلى حد ما، وهو مقدار التناسب بين احتياجاتنا وبين اهتماماتنا، بكافة الجوانب… وبالجانب الاقتصادي على وجه التحديد. اكتشفنا مثلا بسبب ما فرض علينا من قيود أن الكثير مما كان يحصد اهتمامنا عبارة عن كماليات ليس لها فائدة فعلية، وهي كماليات وجدنا أنفسنا مضطرين لتركها إما خوفا أو إجبارا.

بمعنى آخر… نحن قادرون اليوم على التخلي بسهولة عن الكثير من القطاعات التجارية التي كنا نعتقد بأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا بها. تلك القطاعات أخذت منا اهتماما عاطفيا كبيرا بسبب ملاحقتها لنا وإحاطتها بنا، فأصبحت جزءا من حياتنا واقتربنا من كوننا عبيدا لها، بمعنى آخر… دخلت في نسيجنا الثقافي

ما هي تلك القطاعات التجارية؟ دون تحديد، فقط فكر بما كنت معتادا أن تنفق عليه أموالك قبل شهرين أو ثلاثة وقارنه بما تنفقه اليوم، أو ارجع لكشف حسابك البنكي لتتأكد. كم من تلك الأنشطة التي اختفت من سجل إنفاقك أنت محتاج لها في عزلتك؟ كم منها تشتاق لها عاطفيا حتى لو لم تحتجها؟ وكم منها لا يفرق معك فقدانها… أو ربما أنت سعيد ومرتاح بالتخلص منها؟ كم من تلك الأنشطة وجدت لها بديلا يغني عنها؟

الأمر لا يقتصر فقط على ما تنفقه شخصيا، حاول أن تتذكر الإعلانات التي كانت تطاردك بالشارع أو التلفزيون أو على الإنترنت، أو فكر بأشياء لم تكن تنفق عليها فعليا، بل تهفو لها نفسك من حين إلى حين عندما تراها أو تسمع بها من حولك. تذكر تأثير كل ذلك التسويق المباشر وغير المباشر عليك، تأثيره على نفسيتك وعلى تصرفاتك وحديثك وأطباعك. عملية التسويق والرسائل اللاواعية الموجهة للجمهور لها تأثير لا يقل عن تأثير عملية الشراء ذاتها، فالشراء أو الصرف يأتي غالبا نتيجة لذلك الثأثير وليس المسبب له.

مجموع المؤثرات والتصرفات والأفكار التي تحدثنا عنها هي جزء مما يطلق عليه اسم المزاج الاجتماعي (Social Mood)، وذلك المزاج الاجتماعي هو دافع له تأثير مباشر على الحركة التجارية… ومتأثر بها بنفس الوقت. بمعنى آخر توجهات السوق تتوافق مع أفكار وتوجهات وعادات المستهلك، وليس احتياجاته فقط. 

لنحاول تبسيط ما يحدث أثناء عملية التسويق. في الأحوال المثالية المجردة المنتِج أو التاجر يعرض سلعا معينة، المستهلك يشتري منها ما يحتاج ويترك الباقي، التاجر يحاول عرض المزيد من المنتجات المطلوبة ويقلل مما لا يحتاجه الناس، ومسألة الحاجة تلك متغيرة حسب الوقت أو الظروف أو الموسم. كذلك الأمر بالنسبة لعملية العرض، فحتى المستهلك يتأثر بما يعرض له بالسوق ويكيف حاجاته مع ما هو متوفر. بشكل عام عملية العرض والطلب هنا تسير بخط شبه مستقيم ومتوقع.

الكلام في الفقرة السابقة يتكلم عن أحوال مثالية مجردة شبه وهمية في زمننا هذا، فالتاجر بالغالب لن يجلس مكتوف اليدين منتظرا أن يحتاج المستهلك لبضاعته أو خدمته، بل يقوم بخلق تلك الحجة! وهنا يأتي دور التسويق. من خلال التسويق يتم الإيحاء للمستهلك بأنه محتاج لتلك الخدمة، أو أن حياته ستصبح أفضل مع ذلك المنتج. تلك العملية يمكنها أن تحدث تأثيرا اجتماعيا خارجيا بمزاج المستهلك، فيسعى نحو المنتج المسوق دون أن يلاحظ إن كان منه حاجة حقيقية أم أنه واقع تحت تأثير سحر التسويق.

والعكس يحدث كذلك، توجهات الناس وأفكارهم وعاداتهم وثقافتهم المتغيرة قد تتطلب منتجات أو خدمات جديدة، أو تتوجه نحو مجال معين عوضا عن مجال كان سائدا بالسابق. ومرة أخرى على المنتج أو التاجر أن يتكيف مع ذلك التغيير، فإما يبتكر منتجات تلبي متطلبات المستهلك، أو يركز نشاطه على تلك المجالات التي عليها الطلب الأكبر. الفرق هنا عن الحالة المثالية الوهمية التي ذكرناها سابقا هو أن تلك التوجهات والعادات والثقافة المتغيرة ليس بالضرورة أن تبرز بسبب حاجة فعلية، بل هي حاجة وهمية بسبب أنواع التسويق المختلفة الشائعة، لذلك قد يكون ما يتطلبه المجتمع عبارة عن كماليات استهلاكية يمكن الاستغناء عنها. الفرد بالغالب لا يدرك وهم حاجته بسبب المزاج الاجتماعي الذي يحيط به، ورغم ذلك نجد أن تأثير الطلب على تلك الحاجة الوهمية يمكنه أن يغير السوق. وهنا نصل لنقطتنا الأساسية.

في حالتنا، خلال العقدين الأخيرين تقريبا، مزاجنا الاجتماعي كان يميل للمنتجات الاستهلاكية بشكل جارف. قد تتذكرون قصصكرسبي كريم ومحل فيرجن التي تحدثت عنها قبل سنوات، أو قد تكونون قرأتم فصل Zoology بكتاب الصورة الكبيرة. وبالطبع نتيجة لتوجهنا الاستهلاكي ذلك تكيف السوق ليلبي تلك الحاجات الاستهلاكية، فأصبح التنافس على توفير تلك الحاجات عال جدا، بل وأهملت بشكل ما بقية الاحتياجات الحقيقية أو الأكثر أهمية لمسألة توازن السوق.

 ذلك التنافس التجاري والتركيز على الاحتياجات الاستهلاكية أوهمنا بأننا بخير، بأن السوق منتعش والمشاريع الجديدة تعيش حالة ازدهار. بل صرنا نفخر باستهلاكيتنا ونعتقد بأننا من روادها… وبالتالي زاد استثمارنا فيها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وبالطبع، ذلك الوهم بدأ بالتلاشي بسرعة كبيرة مع بدأ غزو الفكر الفيروسي لمجتمعنا. لم نستوعب التغيير الذي حصل بالبداية، بل حاولنا أن نعيش حياتنا المعتادة، لكن مع مرور الوقت فرض علينا أن نتنازل عن تلك الحياة ونستبدلها بحياة كنا نعتقد بأنها وهم، ولكنها حقيقة جديدة.

بوقت كتابة هذا المقال نحن في مرحلة الاعتياد التدريجي على هذه الحياة الجديدة. أصبحت الحياة الاستهلاكية السابقة إما ذكرى نسترجعها بين حين وآخر، أو أحلام وطموحات نرجوا عودتنا لها بعد أن تنجلي الغمة. لكن بين تلك الأحلام والذكريات نعيش… فقط نعيش.

حالة العيش هذه يجب أن لا تمر دون استفادة منها، لا بد من دراستها وتحليلها والتفكر فيها، وعلينا أن نعي أن حياتنا السابقة لن تعود كما كانت! لا أود الحديث عن مستقبل ما بعد الوباء فذلك موضوع طويل، لكن يكفي القول بأن تأثير صدمة الوباء نتج وسينتج عنه تغييرات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة، وعلينا أن نتحدث عنها ونتكيف معها منذ الآن.

الحياة الاستهلاكية كما أراها حمل وانزاح عنا! التفكير والتخطيط بالعودة لها سيكون غباء ثقافيا… بكل صراحة. لا أقول بأنه علينا التخلي تماما عن تلك الأنشطة الاستهلاكية لنعيش حياة التقشف! لا يمكن استمرار ذلك التقشف، بل المهم بداية هو أن نعي مقدار تفشي الفكر الاستهلاكي الذي كان المسيطر علينا، وندرك بأننا نستطيع أن نعيش حياة طبيعية دون المبالغة فيه، والدليل أننا اليوم… نعيش.

آسف على القسوة التي لن تعجب البعض، لكن من الناحية الاقتصادية لو أفلست وأغلقت أغلب تلك الأنشطة التجارية الاستهلاكية الثانوية فنحن كمستهلكين لن نخسر شيئا، بل إن خسارة أصحاب تلك المشاريع هي خسارة شخصية لهم. فمشاريعهم لا جدوى ولا نفع اجتماعي عام حقيقي منها، فهي عبارة عن مكائن للاستنفاع من احتياجات الناس الزائفة!

لا فرق بالكلام السابق بين مشاريع صغيرة وكبيرة. نعم قد نتعاطف مع خسائر بعض أصحاب تلك المشاريع لأسباب شخصية أو إنسانية، لأن منهم أقرباؤنا وأصدقاؤنا، وكذلك نتعاطف مع موظفيهم البسطاء محدودي الدخل ممن سيتأثرون كثيرا بفقدان وظائفهم، لكن علينا أن ندرك كذلك أن ما يحدث اليوم هو نتيجة سوء اختيار وسوء تقدير لجدوى تلك المشاريع وأهميتها، ونتيجة اعتماد على مزاج اجتماعي معين مع جهل أو تجاهل أن المزاج قابل للتغير.

الذي يحدث اليوم لا أعتقد بأنه يمكن أن يطلق عليه اسم “كارثة طبيعية”، بل هو تغير إنساني طبيعي. فلله الحمد لم يحدث (حتى الآن) زلزال أو حريق أو غزو أو أي ظرف خرب الممتلكات أو أباد البشر. فالمستهلكون موجودون والمنتج موجود، لكن المستهلك لا يريد أو يخاف أو ليس من مصلحته استهلاك بعض المنتجات المعروضة حاليا، سواء كان ذلك بإرادته أو كان أمرا مفروضا عليه، بل يُقبل (أو حتى يجازف بالإقبال)على ما يحتاجه فعلا لتيسير حياته، هذا هو الشيء الذي تغير.

لعقود طويلة تناقشنا حتى الملل عن أهمية تنويع مصادر الدخل عوضا عن الإنتاج النفطي، وعن خطور الاعتماد على مصدر واحد للدخل، خاصة مع علمنا بأنه معرض للنضوب. بنفس الوقت عندما “أتيحت الفرصة” للشعب لدخول المجال التجاري كرروا نفس الغلطة… بمباركة من الحكومة طبعا، حتى أصبحنا ملوك الاستهلاك وسلاطين تكرار الأفكار! نتيجة لذلك أصبح الوضع حاليا كما يقال: خبزٍ خبزتيه… اكليه!

هذه الأزمة ستكون درسا اقتصاديا قاسيا لنا (وللعالم أجمع) ستظهر نتائجه لاحقا بشكل مؤلم للكل… من تجار وحكومة وشعب! وكي أكون صريحا، كالعادة لن نتعلم منه للأسف ما لم نعي وندرك ما يجري ونتكيف معه ونحدث تغييرا حقيقيا بحياتنا، فالعيش بالجهل والأوهام والأحلام لن ينفع!

تشاؤمي مما سيحل بنا يكاد يبلغ أشده، لذلك أقترح على الحكومة والتجار الاستثمار بمجال العلاج النفسي… سنحتاجه كثيرا بالمستقبل القريب على ما يبدو.

منشار الناشرين: عن مافيا دور النشر والتوزيع

 

هناك حقيقة قد تخفى على كثير من الناس، وهي أن تجار الكتاب لا يختلفون كثيرا عن تجار العقار… أو تجار المواشي، فالأمر بالنهاية “بزنس” فيه الربح وفيه الخسارة. لتربح أكثر وتتجنب الخسارة قد تضطر أحيانا لبعض التنازلات الأخلاقية، وقد يقع منك ظلم للغير، حتى لو كان ذلك “الغير” شخص ودود اسمه… الكاتب.

قبل ما يقرب من الثلاث سنوات (عام ٢٠١٤) كتبت مقالا تحدثت فيه عن كيف غير الأدب الشبابي فكرة النشر والتوزيع الكويتي أو العربي بشكل عام، وكيف غير بعض من الناشرين ودور النشر من سياساتهم لمجاراة التغيرات الحاصلة، وتناولت فيه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على أولويات الناشرين، كتركيزهم على المسألة الإنتاجية أكثر من مسألة نوعية الإصدارات التي تنتجها. دافعت في حينها عن ذلك الأدب الجديد المغضوب عليه (شعبيا)، وما زلت صامدا على رأيي القديم، ولكن رغم ذلك أعترف بأني في حينها… كنت طفلاً! رغم تجربتي القصيرة نسبيا بعالم النشر، فلم تصدر لي سوى ثلاث كتب خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى أني اكتشفت الكثير من خبايا هذا العالم غير المثالي! فبينما يحاول العاملون في هذا المجال تصوير أنفسهم بأنهم رعاة للفن والأدب والثقافة، وبينما ينظر لهم عامة الناس كذلك ويصدقون قصة نضالهم وتضحياتهم لمحاربة مغريات عصرنا الإلكتروني… فإن الحقيقة ليست كذلك دائما.

لعن الله الظروف

لا أتهم بمقالي هذا ناشري الكتب بتعمد الإضرار بالكاتب أو غيره… لكن قد تكون ظروف وحالة الكتاب في العالم العربي، بل وفي العالم أجمع، هي التي اضطرتهم للجوء للتشاطر من أجل البقاء. وضع الكتاب (والثقافة بشكل عام) صعب في وقتنا هذا، فالكتاب يكاد يسير وحيدا في طريق وعر دون قافلة ولا دليل يرشده ويدعمه ويحميه. عالم الكتاب (والثقافة والفن) عالم عالي التكلفة وضئيل المردود المادي بأغلب الأحيان ولا يتحمله إلا القليلون، وغالبا ما يكون الكاتب (أو الفنان) هم الحلقة الأضعف التي سيقع على عاتقها تحمل تلك الأعباء والتكاليف، وهم من يتوقع منهم الناس أن يحترقون ويتفحمون ليضيئو الطريق للآخرين! دور النشر (أو الجاليريهات الفنية كذلك) بالأحوال الطبيعية بالكاد يمكنها أن تستمر وتحقق ربحا معقولا في هذا العصر، لكن المقربين من هذا العالم سيدركون أن الاستمرارية والربح المعقول ليس طموحا كافيا لبعضها! فنجدها تركت دورها التنويري وأخذت تلعب دور المنشار… طالع واكل نازل واكل!

الورقة الأضعف

في عالم الكتب اليوم أصبح حصول الكاتب على عقد عادل شيء شبه مستحيل! خاصة إن كان كاتبا صغيرا. فدور النشر باختصار شديد تسعى لأن تحقق من وراء ذلك الكاتب على أعلى عائد بأقل المصاريف… أو دون مصاريف إن أمكن! فكرة الكاتب الذي يتقاضى مبلغا محترما وربما معاشا وعوائد مادية تمكنه من أن يعيش معتمدا على كتاباته (كما نشاهد في الأفلام والمسلسلات الأجنبية) هي خدعة ووهم كبير!

كيف تعمل تلك العقود؟ عقود أغلب دور النشر مع الكُتاب الصغار تتطلب أن يتكفل الكاتب بتكاليف طباعة كتبه بنفسه، أي عليه أن يدبر ويدفع مقدما مئات الدنانير للمطبعة. الكاتب كذلك يتحمل تكاليف صف الكتاب وإخراجه، وتكاليف مراجعة نصه اللغوية والإملائية، وطباعة “البروفات” الأولية منه، إهمال الكاتب أو استرخاصه لتلك الأمور هو واحد من أهم أسباب ما يطلق عليه اسم الأدب الركيك المليء بالأخطاء والمشاكل اللغوية والفنية. الكاتب غالبا ما يكون هو من يسعى لتسجيل حقوق الكتاب، ويقاتل للحصول على فسح الإعلام له إن تطلب الأمر، دار النشر لن تحرك ساكنا للدفاع عن الكاتب، وتبذل أدنى أشكال النصح والتوجيه له في مسألة الشؤون القانونية والإدارية، ذلك ليس من مصلحتها أساسا، فعلاقتها بمسؤولي الحكومة فوق كل اعتبار… كما سيتبين لنا سبب ذلك لاحقا! بعد الطبع فإن الكاتب هو من يتحمل مسؤولية تخزين صناديق الكتب، وإعادة توزيع الفائض منها.

بعد ذلك كله، وعند نهاية مشوار الكتاب من الكتابة إلى الطبع، على الكاتب أن يتنازل عن كمية محترمة من النسخ المجانية كهدية للناشر لن يتقاضى الكاتب من بيعها فلسا واحداً! فقط بعد أن تنفد تلك النسخ المجانية يحصل  الكاتب على نسبة من بيع أي نسخ إضافية، قد تكون ٥٠٪ أو حسب الاتفاق. حتى لو كان الكتاب مطبوعا وجاهزا وأراد الكاتب عرضه في مكتبات غير مكتبات الناشر فإن بعضها يطلب منه خلواً أو إيجار رف قبل أن يعرضها له (وكأنه يبيع صندوق طماط!)… بالإضافة لنسبة المبيعات طبعا! فمتى سيعوض الكاتب خسارته على الأقل؟ احتمال بعد عمر طويل… أو على الكاتب أن ينسى المادة ويكتفي بالمجد ويحترق لينير الدرب وغيرها من الكلام الأفيوني!

أضف لجميع تلك المتاعب معضلات أخرى محيرة قد يواجهها الكاتب، كمعضلة جهله بأرقام المبيعات الفعلية… أو حتى عدد النسخ المطبوعة فعليا من كتابه، وغيرها من مشاكل انعدام الشفافية والثقة، كما يذكر الروائي والصحفي جورج يرق بمقاله “لماذا لا يعيش الكتاب العرب من عائدات كتبهم؟“. فالكاتب بأغلب الأحيان يدفع مبلغا من المال للناشر كرسوم للطباعة، ودار النشر هي من يتعامل مع المطبعة مباشرة ولا أحد يدري ما هي طبيعة المعاملة تلك ولا ما يجري فيها، وحديث المطابع ذلك حديث ذو شجون!

 

حديث المطابع

لكي يستمر منشار الناشر بالأكل نازلا نجده أحيانا متعاقدا مع مطابع معينة يرشد الكاتب إليها (أو يجبره عليها!)، ليست بالضرورة أن تكون أفضل المطابع أو أوفرها تكلفة، فالهدف هو أن يأخذ الناشر منها عمولة معينة أو خصما خاصا لا يدري الكاتب عنه شيئا، وبالتالي سيدفع الكاتب أحيانا مبلغا أكبر من التكلفة الحقيقية للطباعة… والفرق بجيب الناشر طبعا! وقد يكون هذا التحالف بين الناشرين والمطابع أحد أسباب تراجع أو تقاعس النشر الإلكتروني العربي الرسمي، لأن فيه قطع لباب من أبواب الرزق الوفير.

ليس من مصلحة دور النشر ولا حلفائها من المطابع التقليدية أن ينتشر الكتاب الإلكتروني، فأولا أرباح المطابع وأحبارها وأوراقها سيخسف بها تحت تأثير انشار الكتب الإلكترونية، وثانيا عمولات دور النشر (وهي إحدى روافد دخلها الهامة) أيضا ستتضاءل، وثالثا أرقام المبيعات الإلكترونية يصعب جدا التلاعب بها، وخامسا النسب من مبيعات الكتب الإلكترونية بالغالب ستميل ناحية مصلحة الكاتب لا الناشر (في حالة كتب الكيندل الإلكترونية أمازون تمنح الكاتب ما يصل إلى ٧٠٪ من المبيعات)… وذلك أمر لا يمكن للناشر أن يقبله!

الوجبة الرئيسية

دع عنك الآن كل ما تحدثنا عنه من مصادر الأكل السابقة، هل تعلم ما هو مصدر الدخل الحقيقي لبعض الناشرين من أصحاب المكتبات الضخمة الفاخرة ذات الأفرع الأخطبوطية؟ هل هو بيع الكتب؟… القرطاسية؟… السجائر؟… لا طبعا، الجواب هو… المناقصات! طباعة مئات الآلاف من نسخ الكتب الدراسية مثلا، أو النشرات والدوريات والقرطاسية والبوسترات والإعلانات الحكومية والرسمية وشبه الرسمية، واستلام أجر سنوي ثابت مضمون منها قد تغني الناشر عن التعاقد مع الكُتاب من الأساس! لكن منشار الناشر لا يشبع منها بالطبع.

بسبب مصادر الدخل المتنوعة التي ذكرناها أعلاه وشبه انعدام التكلفة نرى الناشر غير مهتم أصلا بدوره الأساسي كبائع وناشر لكتب الكتاب الذين تعاقدوا معه وسلموه أمرهم، حتى لو كانت تلك الكتب تحمل شعاره، فتلك الكتب ليست مصدر دخله الأساسي… بل هي برستيج له لكي يظهر بمظهر الراعي للثقافة والأدب! قد يبدي الناشر اهتماما بنوع معين من الكتب ذات الشعبية الجماهيرية، كأدب المشاهير والحسنوات و”المزايين”، أو الأدب الموجه للمراهقين والمراهقات، ذلك الذي يجذب شريحة من القراء لديها الاستعداد للوقوف بطوابير التواقيع وأخذ “السِلفيات” مع الكُتاب! ذلك النوع من الكتب مفيد للناشر، ماديا بالطبع، ومعنويا كذلك لأنه يجذب المزيد من الكُتاب الطامحين لمعاملة تشبه معاملة أولائك الكتاب النجوم، لتستمر عملية النشر فيهم!

 

ماذا عن الكتب العلمية والثقافية الجادة؟ تلك الكتب هي غالبا بذيل اهتمامات ذلك الناشر بالطبع (ما لم تكن كتبا دراسية مضمونة العائد)، والمنّة على كتاب تلك النوعية من الكتب أصلا… لأن الناشر تفضل عليهم ووضع كتبهم في بقّالاتـ… مكتباته! فبعد أن ينتظر الكاتب الشهور الطويلة ليخرج كتابه للناس يصدم بالنهاية بأن كتب المراهقين والحسناوات هي ما يتصدر بهو المكتبة، بينما كتابه الجاد موضوع بالأرفف الخلفية منها، وعندما يشتكي يُمن عليه بأن كتابه موجود بالمكتبة أساسا… ومن يريده من الزبائن المعقدين المهتمين به سيطلبه بالاسم. وأسلوب المنة هذا هو أشد ما يؤلم الكاتب، ربما أكثر حتى من الخسارة المادية.

إرهاب ثقافي

المصيبة الكبرى بكل ما سبق هي أن الكاتب بالنهاية هو العامل الأضعف في معادلة النشر، وحتى لو أحس ذلك الكاتب بالظلم وحاول أن يعترض فإنه مهدد بقطع علاقة الناشر به وفقده لحق النشر، فمن السهولة أن يُسحب كتابه من مكتبات الناشر، وتعاد أي نسخ إضافية من الكتاب للكاتب ليدبر أمر بيعها بنفسه. وقد تمتد يد المافيا التي ينتمي لها الناشر لمنع بيع الكتاب حتى بالمكتبات الأخرى الحليفة لها (نعم هناك تحالفات بين المكتبات)… أو يمنع الكتاب حتى من المشاركة بالمعارض!

كل ما قلته ليس مبالغة ولا وهما ولا خيالا علميا، بل هو واقع عايشت بعض فصوله بنفسي للأسف الشديد. قليل من الكتاب يتحدثون في هذا الأمر لخشيتهم من بطش مافيا دور النشر، لأنها قادرة على إلحاق ضرر حقيقي بهم… كما ألحقته بالأدب والثقافة العربية كافة. ربما بعد هذا المقال سيُغضب علي أكثر مما هو مغضوب علي حاليا، ربما لن أجد ناشرا يرغب بالتعامل معي، ذلك ليس أمرا هاما. لم أكتب هذا المقال بقصد الانتقام أو التشفي من دور النشر، لو كنت أرغب بذلك لذكرت الأسماء والأرقام وعرضت الأوراق والسمعيات والبصريات! لكن ليس ذلك هو الهدف، بل الهدف هو أن يفهم الناشرون، كبيرهم وصغيرهم، أن هناك وضع خاطئ قائم وأن هناك من هم ليسو سعداء به وليسو على استعداد لقبوله. وهي أيضا رسالة موجهة للكتاب، قديمهم وجديدهم ومن يفكر بالانضمام لهم مستقبلا، لأن يعرفوا مالذي يحصل في عالمهم وينتبهو له وليعلمون بأنهم ليسو وحدهم فيما يعانونه من إحباطات، مع حث لهم لعدم الاستسلام لهيمنة مافيا الناشرين. وجميعنا بالنهاية نريد حلولا ترضي الجميع، من ناشرين وكتاب، حتى نرتقي بثقفاتنا وتتطور مجتمعاتنا.