أرشيف الوسم: اقتصاد

اقتصاد السمبوسة

قد يختلف معي المتخصصون بالاقتصاد لما سأطرح في هذا المقال، لكن الحديث الذي سأسطر سيأخذ منحى ثقافيا وليست اقتصاديا بحتا، رغم أن المجالين بينهما ارتباط وثيق. 

أزمة الوباء وتداعياتها من حجر وحظر تجوال وتباعد اجتماعي والخوف والحذر الناتج عنها وضحت لنا أمرا قد كان خاف علينا إلى حد ما، وهو مقدار التناسب بين احتياجاتنا وبين اهتماماتنا، بكافة الجوانب… وبالجانب الاقتصادي على وجه التحديد. اكتشفنا مثلا بسبب ما فرض علينا من قيود أن الكثير مما كان يحصد اهتمامنا عبارة عن كماليات ليس لها فائدة فعلية، وهي كماليات وجدنا أنفسنا مضطرين لتركها إما خوفا أو إجبارا.

بمعنى آخر… نحن قادرون اليوم على التخلي بسهولة عن الكثير من القطاعات التجارية التي كنا نعتقد بأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا بها. تلك القطاعات أخذت منا اهتماما عاطفيا كبيرا بسبب ملاحقتها لنا وإحاطتها بنا، فأصبحت جزءا من حياتنا واقتربنا من كوننا عبيدا لها، بمعنى آخر… دخلت في نسيجنا الثقافي

ما هي تلك القطاعات التجارية؟ دون تحديد، فقط فكر بما كنت معتادا أن تنفق عليه أموالك قبل شهرين أو ثلاثة وقارنه بما تنفقه اليوم، أو ارجع لكشف حسابك البنكي لتتأكد. كم من تلك الأنشطة التي اختفت من سجل إنفاقك أنت محتاج لها في عزلتك؟ كم منها تشتاق لها عاطفيا حتى لو لم تحتجها؟ وكم منها لا يفرق معك فقدانها… أو ربما أنت سعيد ومرتاح بالتخلص منها؟ كم من تلك الأنشطة وجدت لها بديلا يغني عنها؟

الأمر لا يقتصر فقط على ما تنفقه شخصيا، حاول أن تتذكر الإعلانات التي كانت تطاردك بالشارع أو التلفزيون أو على الإنترنت، أو فكر بأشياء لم تكن تنفق عليها فعليا، بل تهفو لها نفسك من حين إلى حين عندما تراها أو تسمع بها من حولك. تذكر تأثير كل ذلك التسويق المباشر وغير المباشر عليك، تأثيره على نفسيتك وعلى تصرفاتك وحديثك وأطباعك. عملية التسويق والرسائل اللاواعية الموجهة للجمهور لها تأثير لا يقل عن تأثير عملية الشراء ذاتها، فالشراء أو الصرف يأتي غالبا نتيجة لذلك الثأثير وليس المسبب له.

مجموع المؤثرات والتصرفات والأفكار التي تحدثنا عنها هي جزء مما يطلق عليه اسم المزاج الاجتماعي (Social Mood)، وذلك المزاج الاجتماعي هو دافع له تأثير مباشر على الحركة التجارية… ومتأثر بها بنفس الوقت. بمعنى آخر توجهات السوق تتوافق مع أفكار وتوجهات وعادات المستهلك، وليس احتياجاته فقط. 

لنحاول تبسيط ما يحدث أثناء عملية التسويق. في الأحوال المثالية المجردة المنتِج أو التاجر يعرض سلعا معينة، المستهلك يشتري منها ما يحتاج ويترك الباقي، التاجر يحاول عرض المزيد من المنتجات المطلوبة ويقلل مما لا يحتاجه الناس، ومسألة الحاجة تلك متغيرة حسب الوقت أو الظروف أو الموسم. كذلك الأمر بالنسبة لعملية العرض، فحتى المستهلك يتأثر بما يعرض له بالسوق ويكيف حاجاته مع ما هو متوفر. بشكل عام عملية العرض والطلب هنا تسير بخط شبه مستقيم ومتوقع.

الكلام في الفقرة السابقة يتكلم عن أحوال مثالية مجردة شبه وهمية في زمننا هذا، فالتاجر بالغالب لن يجلس مكتوف اليدين منتظرا أن يحتاج المستهلك لبضاعته أو خدمته، بل يقوم بخلق تلك الحجة! وهنا يأتي دور التسويق. من خلال التسويق يتم الإيحاء للمستهلك بأنه محتاج لتلك الخدمة، أو أن حياته ستصبح أفضل مع ذلك المنتج. تلك العملية يمكنها أن تحدث تأثيرا اجتماعيا خارجيا بمزاج المستهلك، فيسعى نحو المنتج المسوق دون أن يلاحظ إن كان منه حاجة حقيقية أم أنه واقع تحت تأثير سحر التسويق.

والعكس يحدث كذلك، توجهات الناس وأفكارهم وعاداتهم وثقافتهم المتغيرة قد تتطلب منتجات أو خدمات جديدة، أو تتوجه نحو مجال معين عوضا عن مجال كان سائدا بالسابق. ومرة أخرى على المنتج أو التاجر أن يتكيف مع ذلك التغيير، فإما يبتكر منتجات تلبي متطلبات المستهلك، أو يركز نشاطه على تلك المجالات التي عليها الطلب الأكبر. الفرق هنا عن الحالة المثالية الوهمية التي ذكرناها سابقا هو أن تلك التوجهات والعادات والثقافة المتغيرة ليس بالضرورة أن تبرز بسبب حاجة فعلية، بل هي حاجة وهمية بسبب أنواع التسويق المختلفة الشائعة، لذلك قد يكون ما يتطلبه المجتمع عبارة عن كماليات استهلاكية يمكن الاستغناء عنها. الفرد بالغالب لا يدرك وهم حاجته بسبب المزاج الاجتماعي الذي يحيط به، ورغم ذلك نجد أن تأثير الطلب على تلك الحاجة الوهمية يمكنه أن يغير السوق. وهنا نصل لنقطتنا الأساسية.

في حالتنا، خلال العقدين الأخيرين تقريبا، مزاجنا الاجتماعي كان يميل للمنتجات الاستهلاكية بشكل جارف. قد تتذكرون قصصكرسبي كريم ومحل فيرجن التي تحدثت عنها قبل سنوات، أو قد تكونون قرأتم فصل Zoology بكتاب الصورة الكبيرة. وبالطبع نتيجة لتوجهنا الاستهلاكي ذلك تكيف السوق ليلبي تلك الحاجات الاستهلاكية، فأصبح التنافس على توفير تلك الحاجات عال جدا، بل وأهملت بشكل ما بقية الاحتياجات الحقيقية أو الأكثر أهمية لمسألة توازن السوق.

 ذلك التنافس التجاري والتركيز على الاحتياجات الاستهلاكية أوهمنا بأننا بخير، بأن السوق منتعش والمشاريع الجديدة تعيش حالة ازدهار. بل صرنا نفخر باستهلاكيتنا ونعتقد بأننا من روادها… وبالتالي زاد استثمارنا فيها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وبالطبع، ذلك الوهم بدأ بالتلاشي بسرعة كبيرة مع بدأ غزو الفكر الفيروسي لمجتمعنا. لم نستوعب التغيير الذي حصل بالبداية، بل حاولنا أن نعيش حياتنا المعتادة، لكن مع مرور الوقت فرض علينا أن نتنازل عن تلك الحياة ونستبدلها بحياة كنا نعتقد بأنها وهم، ولكنها حقيقة جديدة.

بوقت كتابة هذا المقال نحن في مرحلة الاعتياد التدريجي على هذه الحياة الجديدة. أصبحت الحياة الاستهلاكية السابقة إما ذكرى نسترجعها بين حين وآخر، أو أحلام وطموحات نرجوا عودتنا لها بعد أن تنجلي الغمة. لكن بين تلك الأحلام والذكريات نعيش… فقط نعيش.

حالة العيش هذه يجب أن لا تمر دون استفادة منها، لا بد من دراستها وتحليلها والتفكر فيها، وعلينا أن نعي أن حياتنا السابقة لن تعود كما كانت! لا أود الحديث عن مستقبل ما بعد الوباء فذلك موضوع طويل، لكن يكفي القول بأن تأثير صدمة الوباء نتج وسينتج عنه تغييرات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة، وعلينا أن نتحدث عنها ونتكيف معها منذ الآن.

الحياة الاستهلاكية كما أراها حمل وانزاح عنا! التفكير والتخطيط بالعودة لها سيكون غباء ثقافيا… بكل صراحة. لا أقول بأنه علينا التخلي تماما عن تلك الأنشطة الاستهلاكية لنعيش حياة التقشف! لا يمكن استمرار ذلك التقشف، بل المهم بداية هو أن نعي مقدار تفشي الفكر الاستهلاكي الذي كان المسيطر علينا، وندرك بأننا نستطيع أن نعيش حياة طبيعية دون المبالغة فيه، والدليل أننا اليوم… نعيش.

آسف على القسوة التي لن تعجب البعض، لكن من الناحية الاقتصادية لو أفلست وأغلقت أغلب تلك الأنشطة التجارية الاستهلاكية الثانوية فنحن كمستهلكين لن نخسر شيئا، بل إن خسارة أصحاب تلك المشاريع هي خسارة شخصية لهم. فمشاريعهم لا جدوى ولا نفع اجتماعي عام حقيقي منها، فهي عبارة عن مكائن للاستنفاع من احتياجات الناس الزائفة!

لا فرق بالكلام السابق بين مشاريع صغيرة وكبيرة. نعم قد نتعاطف مع خسائر بعض أصحاب تلك المشاريع لأسباب شخصية أو إنسانية، لأن منهم أقرباؤنا وأصدقاؤنا، وكذلك نتعاطف مع موظفيهم البسطاء محدودي الدخل ممن سيتأثرون كثيرا بفقدان وظائفهم، لكن علينا أن ندرك كذلك أن ما يحدث اليوم هو نتيجة سوء اختيار وسوء تقدير لجدوى تلك المشاريع وأهميتها، ونتيجة اعتماد على مزاج اجتماعي معين مع جهل أو تجاهل أن المزاج قابل للتغير.

الذي يحدث اليوم لا أعتقد بأنه يمكن أن يطلق عليه اسم “كارثة طبيعية”، بل هو تغير إنساني طبيعي. فلله الحمد لم يحدث (حتى الآن) زلزال أو حريق أو غزو أو أي ظرف خرب الممتلكات أو أباد البشر. فالمستهلكون موجودون والمنتج موجود، لكن المستهلك لا يريد أو يخاف أو ليس من مصلحته استهلاك بعض المنتجات المعروضة حاليا، سواء كان ذلك بإرادته أو كان أمرا مفروضا عليه، بل يُقبل (أو حتى يجازف بالإقبال)على ما يحتاجه فعلا لتيسير حياته، هذا هو الشيء الذي تغير.

لعقود طويلة تناقشنا حتى الملل عن أهمية تنويع مصادر الدخل عوضا عن الإنتاج النفطي، وعن خطور الاعتماد على مصدر واحد للدخل، خاصة مع علمنا بأنه معرض للنضوب. بنفس الوقت عندما “أتيحت الفرصة” للشعب لدخول المجال التجاري كرروا نفس الغلطة… بمباركة من الحكومة طبعا، حتى أصبحنا ملوك الاستهلاك وسلاطين تكرار الأفكار! نتيجة لذلك أصبح الوضع حاليا كما يقال: خبزٍ خبزتيه… اكليه!

هذه الأزمة ستكون درسا اقتصاديا قاسيا لنا (وللعالم أجمع) ستظهر نتائجه لاحقا بشكل مؤلم للكل… من تجار وحكومة وشعب! وكي أكون صريحا، كالعادة لن نتعلم منه للأسف ما لم نعي وندرك ما يجري ونتكيف معه ونحدث تغييرا حقيقيا بحياتنا، فالعيش بالجهل والأوهام والأحلام لن ينفع!

تشاؤمي مما سيحل بنا يكاد يبلغ أشده، لذلك أقترح على الحكومة والتجار الاستثمار بمجال العلاج النفسي… سنحتاجه كثيرا بالمستقبل القريب على ما يبدو.

منشار الناشرين: عن مافيا دور النشر والتوزيع

 

هناك حقيقة قد تخفى على كثير من الناس، وهي أن تجار الكتاب لا يختلفون كثيرا عن تجار العقار… أو تجار المواشي، فالأمر بالنهاية “بزنس” فيه الربح وفيه الخسارة. لتربح أكثر وتتجنب الخسارة قد تضطر أحيانا لبعض التنازلات الأخلاقية، وقد يقع منك ظلم للغير، حتى لو كان ذلك “الغير” شخص ودود اسمه… الكاتب.

قبل ما يقرب من الثلاث سنوات (عام ٢٠١٤) كتبت مقالا تحدثت فيه عن كيف غير الأدب الشبابي فكرة النشر والتوزيع الكويتي أو العربي بشكل عام، وكيف غير بعض من الناشرين ودور النشر من سياساتهم لمجاراة التغيرات الحاصلة، وتناولت فيه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على أولويات الناشرين، كتركيزهم على المسألة الإنتاجية أكثر من مسألة نوعية الإصدارات التي تنتجها. دافعت في حينها عن ذلك الأدب الجديد المغضوب عليه (شعبيا)، وما زلت صامدا على رأيي القديم، ولكن رغم ذلك أعترف بأني في حينها… كنت طفلاً! رغم تجربتي القصيرة نسبيا بعالم النشر، فلم تصدر لي سوى ثلاث كتب خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى أني اكتشفت الكثير من خبايا هذا العالم غير المثالي! فبينما يحاول العاملون في هذا المجال تصوير أنفسهم بأنهم رعاة للفن والأدب والثقافة، وبينما ينظر لهم عامة الناس كذلك ويصدقون قصة نضالهم وتضحياتهم لمحاربة مغريات عصرنا الإلكتروني… فإن الحقيقة ليست كذلك دائما.

لعن الله الظروف

لا أتهم بمقالي هذا ناشري الكتب بتعمد الإضرار بالكاتب أو غيره… لكن قد تكون ظروف وحالة الكتاب في العالم العربي، بل وفي العالم أجمع، هي التي اضطرتهم للجوء للتشاطر من أجل البقاء. وضع الكتاب (والثقافة بشكل عام) صعب في وقتنا هذا، فالكتاب يكاد يسير وحيدا في طريق وعر دون قافلة ولا دليل يرشده ويدعمه ويحميه. عالم الكتاب (والثقافة والفن) عالم عالي التكلفة وضئيل المردود المادي بأغلب الأحيان ولا يتحمله إلا القليلون، وغالبا ما يكون الكاتب (أو الفنان) هم الحلقة الأضعف التي سيقع على عاتقها تحمل تلك الأعباء والتكاليف، وهم من يتوقع منهم الناس أن يحترقون ويتفحمون ليضيئو الطريق للآخرين! دور النشر (أو الجاليريهات الفنية كذلك) بالأحوال الطبيعية بالكاد يمكنها أن تستمر وتحقق ربحا معقولا في هذا العصر، لكن المقربين من هذا العالم سيدركون أن الاستمرارية والربح المعقول ليس طموحا كافيا لبعضها! فنجدها تركت دورها التنويري وأخذت تلعب دور المنشار… طالع واكل نازل واكل!

الورقة الأضعف

في عالم الكتب اليوم أصبح حصول الكاتب على عقد عادل شيء شبه مستحيل! خاصة إن كان كاتبا صغيرا. فدور النشر باختصار شديد تسعى لأن تحقق من وراء ذلك الكاتب على أعلى عائد بأقل المصاريف… أو دون مصاريف إن أمكن! فكرة الكاتب الذي يتقاضى مبلغا محترما وربما معاشا وعوائد مادية تمكنه من أن يعيش معتمدا على كتاباته (كما نشاهد في الأفلام والمسلسلات الأجنبية) هي خدعة ووهم كبير!

كيف تعمل تلك العقود؟ عقود أغلب دور النشر مع الكُتاب الصغار تتطلب أن يتكفل الكاتب بتكاليف طباعة كتبه بنفسه، أي عليه أن يدبر ويدفع مقدما مئات الدنانير للمطبعة. الكاتب كذلك يتحمل تكاليف صف الكتاب وإخراجه، وتكاليف مراجعة نصه اللغوية والإملائية، وطباعة “البروفات” الأولية منه، إهمال الكاتب أو استرخاصه لتلك الأمور هو واحد من أهم أسباب ما يطلق عليه اسم الأدب الركيك المليء بالأخطاء والمشاكل اللغوية والفنية. الكاتب غالبا ما يكون هو من يسعى لتسجيل حقوق الكتاب، ويقاتل للحصول على فسح الإعلام له إن تطلب الأمر، دار النشر لن تحرك ساكنا للدفاع عن الكاتب، وتبذل أدنى أشكال النصح والتوجيه له في مسألة الشؤون القانونية والإدارية، ذلك ليس من مصلحتها أساسا، فعلاقتها بمسؤولي الحكومة فوق كل اعتبار… كما سيتبين لنا سبب ذلك لاحقا! بعد الطبع فإن الكاتب هو من يتحمل مسؤولية تخزين صناديق الكتب، وإعادة توزيع الفائض منها.

بعد ذلك كله، وعند نهاية مشوار الكتاب من الكتابة إلى الطبع، على الكاتب أن يتنازل عن كمية محترمة من النسخ المجانية كهدية للناشر لن يتقاضى الكاتب من بيعها فلسا واحداً! فقط بعد أن تنفد تلك النسخ المجانية يحصل  الكاتب على نسبة من بيع أي نسخ إضافية، قد تكون ٥٠٪ أو حسب الاتفاق. حتى لو كان الكتاب مطبوعا وجاهزا وأراد الكاتب عرضه في مكتبات غير مكتبات الناشر فإن بعضها يطلب منه خلواً أو إيجار رف قبل أن يعرضها له (وكأنه يبيع صندوق طماط!)… بالإضافة لنسبة المبيعات طبعا! فمتى سيعوض الكاتب خسارته على الأقل؟ احتمال بعد عمر طويل… أو على الكاتب أن ينسى المادة ويكتفي بالمجد ويحترق لينير الدرب وغيرها من الكلام الأفيوني!

أضف لجميع تلك المتاعب معضلات أخرى محيرة قد يواجهها الكاتب، كمعضلة جهله بأرقام المبيعات الفعلية… أو حتى عدد النسخ المطبوعة فعليا من كتابه، وغيرها من مشاكل انعدام الشفافية والثقة، كما يذكر الروائي والصحفي جورج يرق بمقاله “لماذا لا يعيش الكتاب العرب من عائدات كتبهم؟“. فالكاتب بأغلب الأحيان يدفع مبلغا من المال للناشر كرسوم للطباعة، ودار النشر هي من يتعامل مع المطبعة مباشرة ولا أحد يدري ما هي طبيعة المعاملة تلك ولا ما يجري فيها، وحديث المطابع ذلك حديث ذو شجون!

 

حديث المطابع

لكي يستمر منشار الناشر بالأكل نازلا نجده أحيانا متعاقدا مع مطابع معينة يرشد الكاتب إليها (أو يجبره عليها!)، ليست بالضرورة أن تكون أفضل المطابع أو أوفرها تكلفة، فالهدف هو أن يأخذ الناشر منها عمولة معينة أو خصما خاصا لا يدري الكاتب عنه شيئا، وبالتالي سيدفع الكاتب أحيانا مبلغا أكبر من التكلفة الحقيقية للطباعة… والفرق بجيب الناشر طبعا! وقد يكون هذا التحالف بين الناشرين والمطابع أحد أسباب تراجع أو تقاعس النشر الإلكتروني العربي الرسمي، لأن فيه قطع لباب من أبواب الرزق الوفير.

ليس من مصلحة دور النشر ولا حلفائها من المطابع التقليدية أن ينتشر الكتاب الإلكتروني، فأولا أرباح المطابع وأحبارها وأوراقها سيخسف بها تحت تأثير انشار الكتب الإلكترونية، وثانيا عمولات دور النشر (وهي إحدى روافد دخلها الهامة) أيضا ستتضاءل، وثالثا أرقام المبيعات الإلكترونية يصعب جدا التلاعب بها، وخامسا النسب من مبيعات الكتب الإلكترونية بالغالب ستميل ناحية مصلحة الكاتب لا الناشر (في حالة كتب الكيندل الإلكترونية أمازون تمنح الكاتب ما يصل إلى ٧٠٪ من المبيعات)… وذلك أمر لا يمكن للناشر أن يقبله!

الوجبة الرئيسية

دع عنك الآن كل ما تحدثنا عنه من مصادر الأكل السابقة، هل تعلم ما هو مصدر الدخل الحقيقي لبعض الناشرين من أصحاب المكتبات الضخمة الفاخرة ذات الأفرع الأخطبوطية؟ هل هو بيع الكتب؟… القرطاسية؟… السجائر؟… لا طبعا، الجواب هو… المناقصات! طباعة مئات الآلاف من نسخ الكتب الدراسية مثلا، أو النشرات والدوريات والقرطاسية والبوسترات والإعلانات الحكومية والرسمية وشبه الرسمية، واستلام أجر سنوي ثابت مضمون منها قد تغني الناشر عن التعاقد مع الكُتاب من الأساس! لكن منشار الناشر لا يشبع منها بالطبع.

بسبب مصادر الدخل المتنوعة التي ذكرناها أعلاه وشبه انعدام التكلفة نرى الناشر غير مهتم أصلا بدوره الأساسي كبائع وناشر لكتب الكتاب الذين تعاقدوا معه وسلموه أمرهم، حتى لو كانت تلك الكتب تحمل شعاره، فتلك الكتب ليست مصدر دخله الأساسي… بل هي برستيج له لكي يظهر بمظهر الراعي للثقافة والأدب! قد يبدي الناشر اهتماما بنوع معين من الكتب ذات الشعبية الجماهيرية، كأدب المشاهير والحسنوات و”المزايين”، أو الأدب الموجه للمراهقين والمراهقات، ذلك الذي يجذب شريحة من القراء لديها الاستعداد للوقوف بطوابير التواقيع وأخذ “السِلفيات” مع الكُتاب! ذلك النوع من الكتب مفيد للناشر، ماديا بالطبع، ومعنويا كذلك لأنه يجذب المزيد من الكُتاب الطامحين لمعاملة تشبه معاملة أولائك الكتاب النجوم، لتستمر عملية النشر فيهم!

 

ماذا عن الكتب العلمية والثقافية الجادة؟ تلك الكتب هي غالبا بذيل اهتمامات ذلك الناشر بالطبع (ما لم تكن كتبا دراسية مضمونة العائد)، والمنّة على كتاب تلك النوعية من الكتب أصلا… لأن الناشر تفضل عليهم ووضع كتبهم في بقّالاتـ… مكتباته! فبعد أن ينتظر الكاتب الشهور الطويلة ليخرج كتابه للناس يصدم بالنهاية بأن كتب المراهقين والحسناوات هي ما يتصدر بهو المكتبة، بينما كتابه الجاد موضوع بالأرفف الخلفية منها، وعندما يشتكي يُمن عليه بأن كتابه موجود بالمكتبة أساسا… ومن يريده من الزبائن المعقدين المهتمين به سيطلبه بالاسم. وأسلوب المنة هذا هو أشد ما يؤلم الكاتب، ربما أكثر حتى من الخسارة المادية.

إرهاب ثقافي

المصيبة الكبرى بكل ما سبق هي أن الكاتب بالنهاية هو العامل الأضعف في معادلة النشر، وحتى لو أحس ذلك الكاتب بالظلم وحاول أن يعترض فإنه مهدد بقطع علاقة الناشر به وفقده لحق النشر، فمن السهولة أن يُسحب كتابه من مكتبات الناشر، وتعاد أي نسخ إضافية من الكتاب للكاتب ليدبر أمر بيعها بنفسه. وقد تمتد يد المافيا التي ينتمي لها الناشر لمنع بيع الكتاب حتى بالمكتبات الأخرى الحليفة لها (نعم هناك تحالفات بين المكتبات)… أو يمنع الكتاب حتى من المشاركة بالمعارض!

كل ما قلته ليس مبالغة ولا وهما ولا خيالا علميا، بل هو واقع عايشت بعض فصوله بنفسي للأسف الشديد. قليل من الكتاب يتحدثون في هذا الأمر لخشيتهم من بطش مافيا دور النشر، لأنها قادرة على إلحاق ضرر حقيقي بهم… كما ألحقته بالأدب والثقافة العربية كافة. ربما بعد هذا المقال سيُغضب علي أكثر مما هو مغضوب علي حاليا، ربما لن أجد ناشرا يرغب بالتعامل معي، ذلك ليس أمرا هاما. لم أكتب هذا المقال بقصد الانتقام أو التشفي من دور النشر، لو كنت أرغب بذلك لذكرت الأسماء والأرقام وعرضت الأوراق والسمعيات والبصريات! لكن ليس ذلك هو الهدف، بل الهدف هو أن يفهم الناشرون، كبيرهم وصغيرهم، أن هناك وضع خاطئ قائم وأن هناك من هم ليسو سعداء به وليسو على استعداد لقبوله. وهي أيضا رسالة موجهة للكتاب، قديمهم وجديدهم ومن يفكر بالانضمام لهم مستقبلا، لأن يعرفوا مالذي يحصل في عالمهم وينتبهو له وليعلمون بأنهم ليسو وحدهم فيما يعانونه من إحباطات، مع حث لهم لعدم الاستسلام لهيمنة مافيا الناشرين. وجميعنا بالنهاية نريد حلولا ترضي الجميع، من ناشرين وكتاب، حتى نرتقي بثقفاتنا وتتطور مجتمعاتنا.

الفنان المتفحم

الإنتاج الفني والثقافي يحتاج للمال! تلك حقيقة مؤلمة… لكنه واقع حالنا اليوم.

رومانسية فكرة أن الفنان هو ذلك العبقري المعقد المنزوي في مرسمه أو مكتبه مشعلا روحه من أجل أن يضيء ظلام الجماهير قد تروق للبعض… لكنها للأسف الشديد نوع من الوهم. فأن يخرج للناس فن جاد ومؤثر ويصل لجمهور كبير ويعرض بمعارض محترمة ويكتب عنه بالصحف والمجلات والمواقع المتخصصة وتتحدث عنه وسائل الإعلام التقليدية والحديثة هو أمر بغاية الصعوبة، ولا يعتمد على موهبة أو قدرات الفنان… بل يعتمد على مقدار الدعم الذي يحصل عليه.

والدعم يعني المال بشكل خاص، فكل شيء بعملية الإنتاج الفني يحتاج للمال. تكاليف الإنتاج الفني بكافة صوره كثيرة، تبدأ بعملية التعلم والتثقف عن طريق الدراسة الأكاديمية، الدورات والورش، الكتب والأفلام، زيارة المعارض والمتاحف والمهرجانات. بعد ذلك تكاليف عملية الإنتاج ذاته كالخامات، الأدوات، الأجهزة، البرامج… كبداية، ثم هناك مساحات العمل، التراخيص، أجور العاملين والمساعدين والفنيين، ناهيك عن الوقت المهدر الذي لا يقدر بمال! كل ذلك قبل أن يظهر العمل الفني للوجود. وطبعا حتى أبسط تلك التكاليف المتعلقة بأبسط أنواع الإنتاج الفني ليست سوى البداية، بعد انتهاء العمل هناك ميزانية ضخمة تنتظر التصريف من أجل أن يقدم ذلك العمل للجمهور بشكل “لائق” ويرضي الفنان الذي بذل جهده ووقته وماله وأعصابه وفكره من أجل الخروج بذلك العمل. فبعد ذلك تأتي تكاليف إخراج العمل كالطباعة، البراويز، التغليف، النقل، ومن ثم التكاليف الحاسمة المتعلقة بالتسويق، بأجرة صالات العرض، رسوم الاشتراك بالمسابقات، تكاليف السفر والنقل والبريد للمشاركات العالمية، تكلفة المطبوعات المساندة كالكاتالوجات والبوسترات، الهدايا والنسخ المجانية الواجب تقديمها من أجل التسويق… وغيرها الكثير من التكاليف المادية والمعنوية التي يتكبدها الفنان حتى يتفحم… وليس يحترق لينير الظلام!

كأني أسمعك تقول بأنه لا داع لكل تلك المصاريف، نحن اليوم في عالم الكمبيوتر والإنترنت، ضع عملك الفني على الإنستاجرام أو اليوتيوب أو المدونة وسيصل لملايين البشر! طيب وماذا بعد ذلك؟ العمل الذي أخذ مني وقتي وجهدي ومالي هل سيعوضني عنه حصوله على بضع آلاف من المشاهدات أو “اللايكات” ليغرق بعد ذلك بأيام في بحر النت العميق؟ لا أظن بأن هدف أي فنان جاد هو الحصول على لايكات المعجبين، لو كان كذلك فإن تحوله “لفاشينيستا” سيكون طريقا أسهل بكثير له.

صناعة الفنان أمر بغاية الأهمية للأمم الساعية للنهضة، وليست ترفا، وهي صناعة لا يخلو دستور من دساتير البلدان من ذكرها. هناك كلمة شائعة لدى كثير من الناس وهي أن الفنان يجب أن يعمل بصمت ولا ينتظر دعما من أحد… وذلك كلام فارغ بصراحة! الفنان من دون دعم هو فنان محبط… أهذا ما نريد؟ المزيد من المحبطين في البلد؟ ثم أن هناك ميزانيات ضخمة ترصدها الدول من أجل عملية الدعم هذه، فهل سألت نفسك أين تصرف هذه الميزانيات؟ وكيف؟ وعلى من وماذا؟

كثير من الدول لديها مؤسسات رسمية تحاول دعم الفنانين والمبدعين بل وحتى الرياضيين والعلماء، لكن واقعيا، وفي كل مكان بالعالم، تلك المؤسسات تعاني بكثير من الأحوال من أمراض انتقلت لها عدواها من المجتمع الذي تتواجد في وسطه. فتعاني من التمصلح والمحسوبية والتأثر بالعلاقات الاجتماعية الشخصية والتأثر بالتوجهات السياسية أو العقائدية أو الطائفية أو العنصرية، وذلك أمر طبيعي… ليس سليما… لكن طبيعي بسبب التركيبة الثقافية للمجتمع. علينا كذلك أن نتكلم بصراحة ونقول بأن المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية ستسعى بطبيعة الحال لتشجيع نوع معين من الفنون قريب في غالب الأمر من التوجهات الفكرية والسياسية… “الرسمية”، وبالتالي وضع بعض القيود على المبدع أو الفنان تجعله في حالة من عدم الراحة!

ماذا عن المؤسسات الخاصة؟ الجاليريهات والأستوديوهات ودور النشر والمطابع ومساحات العمل والمعاهد الفنية الخاصة؟ ألا تقدم المساعدة للفنانين والمبدعين؟ نعم، تقدم المساعدة… لكن ليس ببلاش! فتلك المؤسسات الخاصة، في كل مكان في العالم، تبقى مشاريع تجارية، أي أنها حتى إن لم تسعى للربح فهي ستحاول تجنب الخسارة، فوراءها إيجارات ورواتب وفواتير يجب أن تدفع آخر الشهر، بالتالي لن تقدم “المساعدة” للفنانين راجية الأجر من الله! فرغم أن تلك المؤسسات تستفيد ماديا ومعنويا من تعاونها مع الفنانين والمبدعين إلى أنها في أغلب الأحيان تحملهم كذلك مصاريف تعاونها معهم. أضف لذلك أن تلك المؤسسات الخاصة مطلوب منها أن تنظر للأمر نظرة تجارية، فمن غير المعقول أن تعامل فنان ببداية طريقه الفني كمعاملتها لفنان “كبير” له جمهوره وسوقه الذي يرجى من ورائه منفعة. طبعا هذا ناهيك عن المصالح والشخصانية والمحاباة والتحيز وغيرها من الأمراض التي قد تشترك فيها بعض هذه المؤسسات الخاصة مع المؤسسات الرسمية، لكن ذلك ليس موضوعنا في هذا المقال. يجب أن أضيف كذلك بأن تلك المؤسسات الخاصة “زين منها” استمرارها بهذا المجال ضئيل الربح في أغلب الأحيان، يعني بإمكانها بسهولة أن تتحول إلى كافيهات أو معارض لبيع الدراعات أو الأثاث وتحقق أضعاف ربحها الحالي!

في الدول “المحترمة” اعتماد الفنانين والمبدعين ليس على “الحكومة” بشكل مباشر، لأن “المركزية” في تلك الأمور فكرة سيئة! بل الاعتماد يكون على المؤسسات الأهلية. المؤسسات الأهلية هي مؤسسات غير ربحية وجدت لتخدم فكرة أو فئة معينة بشكل واضح ومنظم وشفاف. نجد مؤسسات تركز على دعم فنون وتراث الأقليات مثلا، أو دعم فن الشباب الجامعي، أو دعم الفنون في الأحياء الفقيرة، أو مؤسسات تدعم الفن المعاصر، أو تدعم أدب الطفل أو تدعم السينما التجريبية… وهكذا. طبعا يشرف على تلك المؤسسات الخبراء والمتخصصون والناس الفاهمة… وليس موظفي الحكومة! تمويل تلك المؤسسات قد يعتمد جزئيا على الدعم الحكومي، أو على دعم مؤسسات أكبر منها، لكن جزء مهم من الدعم يأتي من أفراد المجتمع ذاتهم، وذلك أمر هام جدا.

اشتراك المجتمع بدعم الفن والأدب والثقافة أمر بغاية الأهمية، فذلك الدعم يجعل الفن جزءا من ثقافة ذلك المجتمع، يشعره بأهميته، يزيد من تقديره له. والعكس كذلك صحيح، الفنان المدعوم من قبل “الناس” سيتقرب منهم، سيعبر عنهم، سيتحمل مسؤولية أفكارهم وقضاياهم واهتماماتهم… بطريقته وفكره وأسلوبه وإبداعه الخاص طبعا! وذلك، برأيي، أفضل بكثير من الفنان الأناني أو المنعزل أو المنسلخ تماما عن المجتمع، أو الفنان التابع أو المدافع عن… الحكومة!

السؤال الآن… هل نحن كشعوب مستعدون لدعم الفنانين والمبدعين والمثقفين؟

ذلك سؤال كبير جدا ولا أملك له جوابا شافيا، لكني حاولت القيام بعملية استشفاف سريع لتوجهات الناس بهذا الخصوص. عندما أقول “الناس” فأنا أعني من يتابعوني على موقع تويتر 🙂

وضعت قبل أيام قليلة استبيانا بسيطا سألت فيه الناس مدى تقبلهم لفكرة تقديم تبرعات مادية لدعم عمل فني أو ثقافي، فكانت النتائج كما يلي:

تبرع لعمل فني

بداية من الواضح أن هذا الاستبيان ليس دراسة أكاديمية معتمدة، يجب أن أذكر ذلك بوضوح لكوني أستاذ جامعي وباحث أكاديمي، لكنه قياس بسيط لتوجه من يتابعوني أو يتابعون متابعيني على تويتر، وهم فئة بسيطة جدا من فئات المجتمع.

الآن، كيف نقرأ تلك النتائج؟

نلاحظ أولا أن ١٨٪ فقط من المشاركين لديهم استعداد تام وغير مشروط لتقديم الدعم لأي عمل فني أو ثقافي، يمكن القول أن هؤلاء هم المؤمنون بأهمية الفن والثقافة كفكرة مجردة بغض النظر عن أهداف ذلك الفن أو شكله.

١٦٪ لا يفكرون بدعم المشاريع الثقافية لاعتقادهم بوجود أشياء أهم تستحق الدعم، أي أنهم غير مؤمنين بأن الفن أو الثقافة ذوات أهمية كبرى مقارنة بمساعدة المحتاجين أو المساكين أو اللاجئين وغيرهم. ١٠٪ لديهم نوع من الاهتمام بالدعم، لكنهم لا يستطيعون المساعدة بسبب ظروفهم الخاصة. من ذلك يمكننا القول أن ٢٦٪ من الشاركين لن يقدموا دعما لعمل فني أو ثقافي لو طلب منهم ذلك.

الآن، النسبة الأكبر والأهم، ٥٦٪، أكثر من نصف المشاركين، يربطون بين دعمهم للعمل الفني أو الثقافي وبين كون ذلك العمل “هادفا”. أثار هذا الخيار تسؤلات عدة، فكيف نعرّف ما هو العمل الهادف؟ طبعا كون العمل “هادفا” غير مهم بالنسبة لنا، لأن كل منا له تعريف مختلف لما هو هادف، لكن الغرض من هذا الخيار هو استشفاف وجود ارتباط مشروط بين تقديم الدعم وبين الإيمان “بفكرة” العمل المقدم. بمعنى آخر “لن أقدم الدعم لأي سائل، لابد من أن “يعجبني” ما سيقدم حتى أعطيكم من مالي!” أي أن هؤلاء الأغلبية لن يسارعوا بمد أيديهم لجيوبهم بمجرد أن يطلب منهم أحد ما تبرعا لدعم عمله الفني، وتلك نقطة هامة.

جماعة العمل “الهادف”، على خلاف جماعة “أفا عليك”، إيمانهم ليس بالفن كفن أو الثقافة كثقافة، بل إيمانهم هو برسالة ذلك الفن وتلك الثقافة، أي الفن والثقافة بالنسبة لهم هي أدوات وليست غايات. لن أناقش أي الفريقين أفضل أو أيهم على حق… فذلك موضوع كبير ومختلف، لكن يجب أن نفهم كيف نتعامل مع كلا الفريقين.

الغالبية الساحقة من المشاركين لن يقدموا الدعم لعمل إلا بعد اقتناعهم بفكرته، وذلك يعني أن على الفنان أن يكون قادرا على إقناع الناس بما يقدم، أي يجب أن يأسرهم بعمله أو يقنعهم بأهميته، وتلك مهارة من المفترض أن يكون الفنان قد تدرب عليها. ليس جميع الفنانين لديهم تلك القدرة أو المهارة.

وهنا يأتي دور المؤسسات الأهلية التي ذكرتها أعلاه، فمن الأسهل أن يقتنع الناس بفكر مؤسسة يشرف عليها خبراء مختصون، وتحمل أجندة واضحة وشفافة، فيقدمون لها أموالهم بثقة أكبر لعلمهم بإنها ستدير تلك الأموال ناحية ما يوافق تعريفهم لما هو “هادف”. 

بشكل عام، رأيي أن الوضع الحالي ليس جيدا للفن والثقافة، بل هو وضع محبط للكثير من المبدعين، وهو وضع لن يتحسن ولن يتطور إن بقيت الأمور على ما هي عليه. تكاليف الفن عالية جدا… وستستمر بالارتفاع، مؤسسات دعمه الرسمية وشبه الرسمية تعاني من مشاكل عدة، المؤسسات الفنية الخاصة تركز على الجانب التجاري وغير مهتمة بفكرة دعم غيرها… لأن “اللي فيها مكفيها”، والمؤسسات الشعبية هي العامل الناقص لدينا، وعلينا أن ننتظر ظهورها حتى نعيد تقييم الوضع، فهل سنحبس الأنفاس حتى ذلك الوقت؟

أدب الخرفان

sheeps أدب الخرفان

 

خلال السنوات القليلة الماضية بدأت تظهر حركة أدبية معاصرة على الساحة المحلية على يد عدد من الكتاب الشباب، وتبرز آثار هذه الحركة الأدبية الشبابية بشكل خاص كل عام في معرض الكتاب الدولي في الكويت، إنتاج هذه الحركة الأدبية ذو مستوى متفاوت، بالطبع هناك الجيد وهناك ما هو أقل من ذلك، وهذا هو حال الأدب في كل مكان وزمان. في هذا المقال سأتحدث عن أسباب نشوء هذه الحركة الأدبية، أهميتها، هل هي حركة طبيعية أم حالة شاذة؟ وكيف يمكن أن نبني مواقفنا تجاهها؟ في مقالات أخرى قد أتناول كذلك فائدة هذه الحركة الأدبية الشبابية من الناحية الثقافية وكيف يمكن أن نستفيد منها بعد ننتهي من حركة السخرية السائدة تجاهها هذه الأيام.نشأة الحركة

ساعد على ظهور هذه الحركة الأدبية الجديدة العديد من العوامل، منها نشوء بعض دور النشر الجديدة المختصة بالإنتاج “الشبابي” كما تطلق على نفسها، ودور النشر تلك وعت لأهمية الإنتاج الشبابي ودعمته مشكورة، قد يكون الغرض من هذا الدعم ماديا قبل أن يكون ثقافيا… ولكن بالنسبة لنا هذا الأمر لا يهم، المهم الآن هو إدراك أن دعم الشباب من قبل دور النشر الجديدة هو أمر لم يكن معتادا بالسابق، وهو أمر أثر حتى على بعض دور النشر “القديمة” التي أخذت تتنازل عن مواصفاتها القياسية تدريجيا، فلم يعد اسم الكاتب ومستواه الأدبي مهما كما كان بالسابق وصار الغرض هو “عملية” الإنتاج قبل أن يكون قيمته، وهم معذورون بذلك بسبب ما يعانيه الكتاب عالميا من خطر بسبب التطور التكنولوجي.

من أسباب نشأة الحركة كذلك تعاظم دور الإعلام الاجتماعي الذي ساهم في نشر صورة هؤلاء الكتاب الشباب وجعل من بعضهم شخصيات “نجمة”، مما شجع الشباب على خوض هذا المجال بأي شكل ممكن من أجل البروز وتحقيق ذلك البرستيج الثقافي/الاجتماعي. حبر التوقيع المسكوب على الصفحة الأولى من الكتاب يعتبره البعض – من الكتاب أو القراء – أثمن من الكلمات التي تحتويها دفتيه، حفلات التوقيع وما يصاحبها من صور و”سلفيات” تعتبر واحدة من أفضل أشكال الدعاية الاجتماعية والتي قد تستثمر لاحقا في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية أو ربما السياسية.

ساهم الإعلام الاجتماعي كذلك في تبسيط عملية الكتابة ذاتها وتقريبها من الناس، حيث تغيرت صورة الكاتب من كونه شخصية غامضة ومنعزلة ومعقدة إلى كونه أي شخص يستطيع أن يطبع كلماته وأفكاره وخواطره على الكيبورد وينشرها للناس، فمن يستطيع كتابة خاطرة تحت صورة على الإنستاجرام يمكنه أن يكتب كتابا. كذلك لا ننسى السهولة النسبية في عملية إنتاج الكتاب اليوم بسبب التطور التكنولوجي والانخفاض النسبي للمجهود والتكلفة المصاحبة لها. كل ذلك أدى إلى بروز هذه الحركة الأدبية الشبابية المعاصرة والتي أتوقع أن تصبح واقعا مفروضا علينا شئنا ذلك أم أبينا.

فوائد

مردود الكتابة والنشر كبير ويستفيد منه الكثيرون، فتكلفة الكتاب بسيطة والمردود المادي منه لا بأس به… إن سوق الكتاب جيدا وبيع بشكل جيد، ويستفيد ماديا من إنتاجه الكثيرون، فالكاتب يستفيد والناشر يستفيد والمصمم والمطبعة والبائع يستفيدون. لذلك طالما استمر الإنتاج الأدبي ستستمر مكائن المطبعة بالدوران مساهمة في إبقاء الكتاب على قيد الحياة، وذلك أمر هام جدا.

وفائدة الكتاب، أي كتاب، ليست مادية وحسب، فالكتاب إنتاج فكري يعكس حالة المجتمع ويوثقها وفي بعض الأحيان يوجهها كذلك. هل كلامي هذا عن الفوائد الفكرية للإنتاج الأدبي كلام مثالي شاعري لا ينطبق على الأدب الركيك والمنحط – كما يراه البعض – الموجود على الساحة اليوم؟

نعم ينطبق!

لكي نستوعب ذلك علينا أن ننظر للإنتاج الأدبي ككتلة كاملة وليس لإنتاج أشخاص منفردين أو جماعات محددة، هذه النظرة الشاملة ستجعلنا ندرك بأنه عوضا عن التركيز على “مستوى” الأدب علينا بالفعل أن ننظر “لوجوده”. برأيي نعم، الإنتاج الأدبي هام من الناحية الكمية وليس فقط من حيث النوعية، ووجود كتّاب وقراء كثر بمختلف المجالات والمستويات أفضل من وجود نخبة ضئيلة تكتب وتقرأ بينما الأكثرية لا تدري عن هوى دار الكتاب!

الإنتاج الأدبي الوافر، وتهافت القراء على استقباله، مؤشر إيجابي برأيي. كونك تقرأ، مهما كانت قراءاتك سخيفة بنظر بعض الناس، أفضل من هجرك للقراءة. ووجود الكتّاب، بغض النظر عن مستواهم، أفضل من انعدامهم. تداول الكتاب يعزز عادة القراءة لدى الناس، ويشجعهم على نقاش ما يقرؤون ونقده وتقييمه. فإن استمر الناس على هذا الحال سنجد أن المستوى تدريجيا قد تطور وارتفع، فالزبد سيذهب هباء وما ينفع الناس سيبقى في الأرض، وذلك ما سأحاول توضيحه في القسم القادم.

حقيقة الشذوذ الأدبي

سأبدأ دفاعي عن ذلك الأدب المغضوب عليه بسؤال، هل تستطيع أن توجه انتباهي لدولة معينة أو فترة زمنية محددة الإنتاج الأدبي فيها كامل ومثالي وبقمة الرقي؟

هل نتحدث عن “الغرب”؟ ادخل أي مكتبة كبيرة في أمريكا أو أوربا وستجد على أرففها الكثير من الكتب الثمينة وبجانبها كتب بغاية السخف وبقمة الانحطاطا (وذلك يعتمد على تعريفك لمعنى الانحطاط)، ستجد كتبا سخيفة المحتوى ولا تقدم للقارئ أي فائدة، كما ستجد أيضا كتبا تحاول أن تكون محترمة لكنها مقدمة بأسلوب ركيك يجعل منها وقودا جيدا للمدافئ! لا داع لتزور المكتبات ابحث في قسم الكتب في موقع أمازون عن أي موضوع ولاحظ كمية الكتب التي ستظهر لك ولتقييم الناس – أو تجاهلهم – لها وستستوعب ما أقصد.

هل نتحدث عن كتب أيام “زمان”؟ عن أيام طه حسين ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وزكي جمعة؟! عن أيام المتنبي والفرزدق والحطيئة والجاحظ؟ المتبحرون في الكتب الكلاسيكية للأولين يمكنهم أن يدلوك على عناوين بعض الكتب التي تتحدث في أمور تجعل وجنتا أجرأ كاتب من كتابنا الشباب تحمرّ خجلا! ناهيك عن كتب السحر والشعوذة والدجل وقصائد المجون ونفخ الجوخ والاستعراضات اللغوية الفارغة، بل حتى بعض كتابنا “الكبار” لديهم أعمالا تفشّل! هل مرت عليك قصيدة “ما أنصف القوم ضبة” للمتنبي (+١٨

إن لم تقرأ “ما أنصف القوم ضبة” فذلك لحسن حظك أولا، ولأنها ليست من القصائد المقررة في المدارس ثانيا، ولأنها في بعض الأحيان لا ترد كاملة – للأسف – حتى بدواوين المتنبي المطبوعة حديثا. اسأل نفسك ثانية، لماذا هذه القصيدة – وغيرها من الأعمال الهابطة – لا تدرس بالمدارس ولا تطبع في بعض طبعات الكتب الحديثة؟ الجواب على ذلك ببساطة لأن الثقافة المتوارثة اختارت تجاهل ذلك العمل، لأنه عمل لم يفرض نفسه، وذلك على خلاف أعمال المتنبي الأخرى العظيمة وأعمال الكتاب الكبار الآخرين من الأولين ومن التاليين. هي بالنهاية عملية انتخاب طبيعي، يفرض القوي فيها نفسه والضعيف يندثر.

وذلك الأمر ينطبق كذلك على أعمال الأجانب، ملايين الكتب تطبع كل عام، كم كتاب منها عليه القيمة وله تأثير إيجابي في المجتمعات ويساهم في تقدم الإنسانية ونشر الثقافة الهادفة؟ (أنظر لهذه الإحصائية… المخجلة) من ملايين الكتب هذه سنجد مئات الآلاف من الكتب السخيفة والمملة والعنصرية والخلاعية والمضرة للإنسانية، تلك الكتب في أغلب الأحيان يتحول جزء منها إلى أرشيف المكتبات والبقية إما تتم إعادة تصنيع أوراقها أو تتحول إلى وقود.

الحد الفاصل بين الكتاب المخلّد وكتاب الوقود هو مقدار ما نولي ذلك الكتاب من اهتمام، لو كتب المتنبي قصيدة “ما أنصف القوم ضبة” في أيامنا هذه لصار مصيرها إلى واحد من اثنين، إما أن يقرأها مجموعة بسيطة من أصدقائه فيضحكون عليها قليلا وثم ينسونها، أو أنها ستنتشر في جروبات الوتسآب وفيديوات اليوتيوب وتتحول في تويتر إلى هاشتاق #ضبة فيضحك الناس عليها أو يغضبون على المتنبي بسببها وربما يناقشها مجلس الأمة في أقصى الأحوال، قد تصبح القصيدة قضية الناس لمدة أسبوع أو اثنين… لكنّها بالنهاية بكل تأكيد لن تدرج في مناهج اللغة العربية في مدارسنا… لأن انتشارها شعبيا لن يقلل من مقدار الانحطاط الموجود في كلماتها. نعم اهتمام الناس بها – ولو مؤقتا – سيعطيها أهمية وربما يطيل من عمرها قليلا، لكنها لن تكون القصيدة الخالدة التي نتذكر المتنبي بها.

بنفس الوقت، لو أننا قررنا محاربة المتنبي ولعنّا سيرته ومنعنا كتبه ومؤلفاته بسبب تلك القصيدة الهابطة لخسرنا الكم الكبير من أعماله العظيمة، قِس على ذلك أعمال الكثير من المؤلفين والكتاب والفنانين، لو أننا حطمنا نزار قباني بسبب تأليفه لديوان “طفولة نهد” لحرمنا أنفسنا من “حبيبتي” و”قاموس العاشقين” و”قصيدة بلقيس” و”هوامش على دفتر النكبة”.

لذلك مهما شاهدنا وقرأنا من كتب لا تعجبنا لنتذكر بأن تلك الأعمال لا تمثل نهاية العالم. كل كاتب، كبيرا كان أم صغيرا، لابد له من شطحة هنا أو هناك، لا يوجد كاتب كامل. نعم واجبنا أن ننقد ونبين رأينا فيما نقرأ، لكن لا داع لإعطاء الأمر أكبر من أهميته ونطالب بمنع هذا ومحاسبة ذاك، ولا نقسوا على كتابنا كثيرا… خاصة الشباب منهم، فغدا سيكبرون… وقد يعقلون وينتجون أعمالا تخلد بدل إنتاج الوقود مما لا يعجبنا.

IMG_1069.JPG

============

ملاحظة:

– الصورة الواردة أعلاه من الصور المتداولة في تويتر لإحدى الأعمال الأدبية الصادرة مؤخرا، لا أعرف إلى الآن اسم العمل ولا صاحب الصورة.

لا ينظلونك: ثقافة الحسد والعين

img185

 

إن كنت تبحث عن نقاش ديني ثيولوجي حول حكم العين والحسد وحقيقتها في ظل الكتاب والسنة والخلاف الديني/العلمي بالمسألة فاسمح لي أن أقول لك بأنك في المكان الخطأ! حديثي في موضوع الحسد والعين سيكون ثقافيا بحتا حول تأثير هوس الناس بهذا الموضوع على طريقة تفكيرهم وعلى تصرفاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وحتى توجهاتهم الاقتصادية، إن كنت ترى هذا الجانب «المحسوس» أكثر أهمية لديك من الجانب «الغيبي» فاستمر معي، مع تأكيدي لك بأنك ستقرأ جانبا من الموضوع ربما لم يخطر على بالك من قبل.

الفرق بين الحسد والعين

بالبداية يجب أذكر سبب اختياري لعنوان ثقافة الحسد والعين، مالفرق بين الحسد والعين؟ الحسد(Envy)يقصد به الإحساس بالنقص عند ملاحظة وجود شيء قّيم لدى الغير (مال، أولاد، مكانة اجتماعية… الخ)، فهو إذن شعور نفسي موجود لدى جميع البشر بدرجات متفاوتة، قد يصحب هذا الشعور نزعة حقد تتمنى زوال ذلك الخير من الآخرين، أثر الحسد النفسي والاجتماعي بكثير من الأحيان يكون سلبيا، في حالات معينة قد يكون الحسد إيجابيا إن أدى بالحاسد إلى أن «يشد حيله» ليحصل على خير مشابه للآخرين.

أما العين (Evil Eye) فهي الاعتقاد بقدرة الشخص على إلحاق الضرر بالآخرين عن بعد (عن طريق النظر كما هو شائع)، عادة ما ترتبط العين بالحسد، فالاعتقاد السائد هو أن الحاسد عندما يشاهد ما يشتهيه لدى الغير فإن بإمكانه أن يصيبه بالعين ويسبب له الضرر… بقصد أو دون قصد.

منشأ ثقافة الحسد والعين

من خلال عملية بحث بسيطة يتبين لنا أن مبدأي الحسد والعين موجودان في العديد من الثقافات والديانات والمعتقدات، بالنسبة للحسد فقد حذر منه القرآن كما دعت لاجتنابه الديانات اليهودية والمسيحية والهندوسية والبوذية بالإضافة لحديث الفلاسفة وعلماء النفس عنه، ذلك الاهتمام بأمر الحسد شيء طبيعي لأن أثره النفسي والاجتماعي واضح ومحسوس.

بالنسبة للعين فالأمر مختلف، العين ترتبط بالغالب بالجانب الثقافي من المجتمعات أكثر من الجانب الديني، وجدير بالذكر أن أهم الشعوب المتأثرة بالاعتقاد بالعين هي شعوب الشرق الأوسط ومنطقة حوض البحر المتوسط بالإضافة لبعض مناطق جنوب شرق آسيا وأمريكا الوسطى، قد تكون هناك شعوب أخرى لها اعتقادات مشابهة لم تطلها الدراسات ولكن الملاحظ بأن التركيز هنا على منطقة ما يطلق عليه اسم حضارات العالم القديم، هذا الأمر هام بالنسبة لنا لأنه من خلال دراستنا لتاريخ هذه المنطقة سنجد ارتباطا وثيقا بين تلك المناطق بسبب الاتصال الحضاري بينها مما أدى لتناقل التجارب الثقافية مثل الفنون والحرف والصناعات وحتى بعض مظاهر المعتقدات والأديان على مر القرون، لن أخوض بهذه المسألة أكثر حتى لا نخرج عن مسار حديثنا.

النظرية القائلة بقدرة العين على إصابة الآخرين بالضرر يرجع تاريخها إلى الإغريق (أو الفراعنة كما يذكر البعض) وتستند على فرضية أن أشعة الإبصار التي تخرج من العين قد يكون لديها قوة التأثير المادي بالمنظور، هذه النظرية بالطبع تعتمد على فكرة أن العين تبصر عن طريق الأشعة المنطلقة منها… لكن علماء مثل الحسن بن الهيثم أثبتوا خطأ هذه النظرية منذ قرون طويلة لأن العين لا تطلق أي أشعة بل تبصر عن طريق استقبال الأشعة المنعكسة عن الأجسام… لكن دعنا من الإثباتات العلمية حاليا، ما يهمنا هنا هو أن جزءا من الإرث الحضاري الثقافي القديم (بما فيه ما يتعلق بالعين) نشأ في اليونان أو انتقل منها إلى الحضارة الرومانية… ومنها إلى بقية أرجاء المنطقة، ذلك الإرث الثقافي نجد آثاره بالفن والعمارة واللغة والديانة، الثقافة بالطبع شيء مرن ومتغير ومرتبط بالقوة والسيطرة الحضارية، لذلك من الطبيعي أن تنتقل فكرة مثل فكرة العين إلى مختلف المناطق والحضارات التي وقعت تحت تأثير الحضارة الرومانية أو اتصلت بها ثقافيا، ومن هذه المناطق طبعا منطقتنا العربية، لا أدعي هنا بأن ذلك هو المصدر الوحيد لفكرة العين ولكني أحاول أن أقدم تحليلا تاريخيا منطقيا لذلك، ما يهمنا هو أن فكرة العين قديمة ومنتشرة في مناطق معينة من العالم وأن لها أصل ثقافي وتفسير شبه علمي تناقله البشر على مر القرون وأن مناطق أخرى قد لا تكون تأثرت بنفس الفكرة.

هل العين حقيقة؟

ذكرت بالبداية بأني لن أدخل بهذا النقاش وإن كان هنا هو المكان المنطقي له، لذلك سأترك لكم هذه المساحة الفارغة:

[ أدخل الجدال هنا ]

آثار الحسد الحقيقية

المقصود بالآثار الحقيقية هو الأثر النفسي والاجتماعي للحسد وليس الأثر الإشعاعي للعين، وهنا لا بأس من استذكار أن القرآن الكريم حذرنا من خطورة الحسد ودفعنا للاستعاذة من شره، كما أن الحسد يعتبر أحد الخطايا السبع المذكورة بالتوراة، وتحذر منه كذلك مختلف المعتقدات والفلسفات الإنسانية.

دون الإطالة بالطرح فقط نستذكر أن الشعور بالحسد تجاه الآخرين له ضرر على نفس الحسود، وذلك بالتالي قد ينعكس على تصرفاته التي قد تسبب الضرر للآخرين، فالحاسد تتكون لديه عقدة النقص عندما يقارن نفسه بالآخرين، وذلك قد يدفعه إما إلى الشعور بالإحباط والاكتئاب أو يدفعه إلى تعويض النقص الذي يشعر به بطريقة أو بأخرى، وتعويض النقص نجد آثاره الاجتماعية حولنا بكثرة خاصة في ظل المجتمع الاستهلاكي المعاصر، فيظهر على شكل تهافت على الماديات والكماليات أو على شكل تصنّع بالمظهر والتصرفات، في بعض الأحيان نجد الحسد الناجم عن مقارنة النفس بما يشاهَد بالإعلام من مظاهر الرفاهية المادية يدفع البعض إلى السعي وراء تحصيل المال بأسرع السبل وبأي طريقة ممكنة… بالاقتراض مثلا… أو حتى باللجوء للحصول عليه بالطرق غير القانونية، ومن ذلك تنشأ لدينا مشاكل اجتماعية جمة مثل الاتكالية على الغير وعدم الإنتاجية وحتى الفساد، ولا أزعم بأن الحسد لوحده هو المسبب لتلك المشاكل… بل هو واحد من العديد من العوامل التي يكمل بعضها البعض.

الحسد كذلك قد يصل ضرره المباشر إلى الغير، فالحاسد قد تكون لديه القدرة على إلحاق الضرر المادي على المحسود… حسيا وليس عن طريق الإشعاعات! فقد يلجأ الحاسد إلى تعطيل مصالح المحسود أو تخريبها أو تشويه صورة المحسود أو الحط من قيمة منجزاته أو السخرية منها، هذه العقلية التخريبية تولد لدى الحاسد شعورا بالتفوق والقوة، القضاء على منجزات الناجحين أو الساعين للنجاح أو تعطيلها أو السخرية منها أو الحط من قدرها (حتى ولو بحجة تطبيق اللوائح أو القوانين أو الروتين أو درء الفساد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… من وجهة نظر ما) يعطي الحاسد شعورا بالأهمية ويمثل له تعويضا لعقدة النقص التي يعاني منها. قد أكون تطرقت لأمر مشابه لذلك عندما تحدثت عن “التنمر” في مقال سابق.

علينا هنا أيضاً أن ننظر لموضوع الحاسد والمحسود من الزاوية المقابلة والتي لا تقل أهمية آثارها عن ما ذكرنا في القسم السابق، بعض الناس لديه شعور مبالغ فيه بأنه… محسود، وآثار ذلك كارثية كما سأفصل!

المنظول

كما أن البعض يبالغ في النظر إلى الآخرين على أن حظوظهم بالحياة أفضل منه نجد فئة أخرى من الناس ترى أنهم دائما معرضون للحسد (والعين) من قبل الآخرين! يمكن تقسيم سبب هذا الخوف من الحساد إلى سببين: فقد يكون ذلك أحد آثار الشخصية النرجسية أو المغرورة التي ترى نفسها بمكانة أعلى من الآخرين… وبالتالي ستكون معرضة أكثر من غيرها لحسد الحاسدين الذين لا يستطيعون الوصول لما وصلت إليه أو الحصول على ما حصلت عليه، والسبب الآخر هو مجرد الهوس بآثار العين الإشعاعية! أو قد يكون الخوف من الحساد يرجع لاجتماع السببين معا.

الفئة الأولى من الشخصيات المقيدة بفكرة أنها محسودة تميل حالتها إلى التأزم النفسي، لست بطبيب ولا عالم نفسي حتى أحلل الشخصية النرجسية وأسباب تكونها وطريقة علاجها، لذلك لن أتعرض لها بالتفصيل في هذا المقال.

أما الفئة الثانية وهي الشخصية المهووسة بأفكار العين والحسد فمشكلتها ثقافية أكثر منها نفسية، الشخصية النرجسية التي تظن بأن الجميع يحسدها ويحاربها ويحقد عليها موجودة في جميع المجتمعات حول العالم، لكن الثانية وجودها مرتبط بتأثرها بفكرة متداولة في المجتمع الذي تعيش فيه، والهوس بفكرة العين أو الحسد قد يكون له تأثير مقيد للفرد وللمجتمع ككل كما سأفصل تاليا.

قيد الحسد والعين

وجود قوة خارجية سلبية باستطاعتها التأثير على مجرى حياة الإنسان هي فكرة لها تأثير خطير على القرارات التي يتخذها وعلى تبريره لهذه القرارات… حتى لو كانت هذه القوة الخارجية وهمية أو مفتعلة، شعورنا بأن هناك من يراقبها وينتظر زلتنا ويريد الشر لنا يجعلنا نعيد التفكير مرارا قبل أن نقدم على أي خطوة بحياتنا، لا أتحدث هنا عن إعادة التفكير بالقرار بغرض التأني وتخطيط الخطوات فذلك أمر طبيعي لمواجهة عقبات الطريق المحتملة، لكن أتحدث هنا عن التردد خوفا من تأثير قوة خارقة غير متوقعة وغير منطقية يمكنها أن تغير مجرى القدر بأي لحظة دون أدنى سيطرة منا عليها!

كم من موهبة كتمت خوفا من الحسد؟ كم من قوة قمعت خوفا من العين؟ كم من جمال أخفي خوفا من أن «ينظل»؟! لا يمكن للمجتمع أن ينهض دون طموح ودون تنافس بالإنجازات، فإن كان هذا الطموح وهذا الإنجاز يوؤد بالمهد ولا ُيتحدث عنه بسبب الخشية من أن يتعرض صاحبه للعين أو للحسد فكيف السبيل؟

أوضح مثال على ما أقول هو تعاملنا مع الأطفال، أطفالنا رغم براءتهم وانطلاقهم الطبيعي في الحياة – حالهم حال الأطفال في كل مكان في الأرض – نجدهم يتعرضون لكبت وضغط اجتماعي خطير يقتل تلك البراءة ويكبل ذلك الانطلاق، لاحظ تصرفات الأطفال في المرة القادمة التي تدخل فيها مجمعا تجاريا أو حتى بتجمعكم العائلي الأسبوعي، شخصيا لا أرى أطفالا بقدر ما أرى بالغين بأجسام صغيرة، «لا تركض!».. «لا تغنين!».. «لا تلعب!».. «خليج يمي!».. «لا تضحكونه وايد!»… «لا تصورينه!»… «لا يكون تحط الصورة بالانستاجرام!».

مثال آخر على الضرر الاجتماعي لهوس الإصابة بالعين أو التعرض للحسد هو فكرة أن كل من ينتقد أو يتحدث عن شخص أو مؤسسة أو مشروع ناجح يعتبر حاسدا ويريد الشر! نعم ذكرت في فقرة سابقة بأن الحاسد قد يسعى للإضرار بالناجحين بالقول أو بالعمل، لكن الانتقادات هنا يختلف بعضها عن الآخر، الانتقادات الجارحة أو المضرة بالتأكيد يجب أن تكون مرفوضة لأنها قد تدخل في سياق التنمر، لكن النقد العلمي الهادف بقصد الدراسة أو التطوير أو الاستفادة من تجارب الغير هو أمر مختلف تماما. لا أود هنا التركيز على أصول النقد العلمي ولكني مضطر لتقديم أمثلة عن الفرق بينه وبين الانتقاد الشخصاني حتى يتبين لنا الفرق:

عندما أنتقد شكل ممثلة وطريقة كلامها أو لبسها لأن ذلك أمر “لا يعجبني” أو أراه “ينافي قيمي التي تربيت عليها” فنقدي هنا شخصاني ولا فائدة منه، لأن “ذوقي” و“قيمي” الشخصية التي تربيت عليها وآمنت بها ليست مقياسا يعمم على كافة البشر، فالذوق والقيم تعتبر رموزا متغيرة المعنى والدلالة حسب السياق الثقافي كما أوردت في مقالات سابقة. ونعم، قد يكون انتقادي لهذه الفنانة أو تلك الشخصية المعروفة ناتج عن “حسد” مني لمكانتهم! لأن تلك الشخصيات المنتـَقدة لو كانت شخصيات عادية أو مغمورة أو فاشلة لما اثارت اهتمامي ولما أتعبت نفسي في انتقادها، أركز على كلمة “قد” يكون حسدا… لأنه قد يكون راجعا لأي عقدة نفسية أخرى، وحديثي هنا هو لتقديم مثال على النقد الشخصاني غير العلمي على كل حال.

من ناحية أخرى، عندما أنتقد شخصية رجل أعمال ناجح مثلا متحدثا عن ضرر حقيقي (اجتماعي أو اقتصادي) تتسبب به هذه الشخصية مبديا أسبابا مادية يمكن قياسها دعتني للتصريح عن انتقادي هذا فالأمر مختلف، عندما أتحدث عن البيئة الاجتماعية والثقافية التي أنتجت هذا الشخص وعاونته على أن يفلت من قبضة الرقابة المالية (مثلا) فإني بعيد كل البعد عن الحسد «الشخصاني» لهذه الشخصية… أو تلك المؤسسة أو ذلك المشروع. كذلك الأمر بالنسبة للممثلة المشهورة، لو انتقدت تصرفات مضرة ضررا ماديا حقيقيا أو غير قانونية تقوم بها، أو انتقدت فكرة تقوم بترويجها، أو حتى انتقدت أسلوبها في التمثيل أو الغناء لعدم مطابقته للأصول الفنية أو الأكاديمية (وليس ذوقي الشخصي)، فإني هنا لا أحسدها… ولكني أنقدها نقدا علميا غير شخصاني.

نرجع لمسألة قيد الحسد والعين ونذّكر بأن الحديث هنا ليس على مستوى ا لأفراد وحسب، بل تقع المجتمعات كاملة أحيانا فريسة للرهبة من الحسد، فنجدها تبني أسوارا حولها تنظر لكل ما هو داخلها على أنه جميل وكامل وأن كل ما يأتيها من خارج هذه الأسوار يجب التعامل معه بحذر لأن “الآخرين” يحسدوننا على كمالنا ورزانتنا وحسننا وجمالنا واستقامتنا، ارجع لمقال ثقافة السور للمزيد عن هذا الأمر. وهكذا فإن أي مجتمع ينظر لكل نقد يقدم له على أنه ناجم عن حسد وحقد ويرفض تقبل كلام الآخرين نتيجة تكبر ونرجسية أو إعلاء لشأن «المقدسات» التي يتمتع بظلها ولا يقبل المس بها سيكون مجتمعا جامدا يرفض التقدم والتجديد، فكيف يسعى للتقدم وللتجديد من يظن بأنه كامل أو يظن بأن هذه المؤسسة مقدسة وأرقى من أن تمس؟

 

 

خطوط الدفاع

ونأتي هنا لخطوط الدفاع الموجهة ضد الحسد والعين، فبعد العمليات الوقائية المتمثلة في إخفاء وتمويه وكبت المرشح للعين وتسويره بالأسوار الثقافية نأتي للمرحلة الثانية وهي تسويره بمضادات العين، ومضادات العين تأتي بعدة أشكال وأنواع حسب المعتقدات السائدة لدى المجتمع.

هناك فئات من المجتمعات تؤمن بقدرة بعض المواد أو الأشكال أو الألوان على امتصاص أشعة العين الحاسدة، فيقومون برسمها أو تعليقها بالقرب من ما يخشى أن يحسد، أشهر هذه المواد هي الشذر بلونه الأزرق الشذري، والبخور أحيانا يستخدم لطرد العين، وكذلك اللعاب… عن طريق النفخ أو «التفل»!

كذلك من الأشكال المعروفة والشائعة هي ما يعرف بـ “كف فاطمة” لدى بعض المسلمين (أو الـ “خمسة” في بعض الأحيان)، وهي كذلك معروفة لدى المسيحيين باسم “كف ماري” نسبة لمريم العذراء، ولدى اليهود أيضا باسم “كف مريم” نسبة لمريم أخت موسى وهارون، ولا غرابة هنا في تشابه هذه الكفوف وأثرها نتيجة للتقارب والتبادل الثقافي الذي تحدثت عنه أعلاه، ونعم، هناك آثار لهذه الرموز ترجع لأيام حضارة بلاد الرافدين والحضارة الإغريقية وغيرها من حضارت المنطقة.

بعض المسلمين يرفضون الإيمان بقدرة تلك المواد أو الأوان أو الأشكال أو الرموز على إبعاد العين والحسد وضررهما، لكنهم قد يؤمنون بقدرة بعض الآيات أو السور القرآنية أو الأحاديث أو الأدعية على إبعاد تلك الشرور، ومرة أخرى نجدهم يتجنبون استخدام الرموز الكلاسيكية ويستبدلونها بتلك الرموز اللغوية البديلة على شكل كتابات أو لافتات أو منحوتات أو حروز (جيوب تخبأ الكتابات بداخلها) توضع حول المرشح للإصابة بالعين.

في بعض الأحيان يكون الإيمان ليس بقدرة تلك الكتابات بحد ذاتها على الحماية من الحسد والعين، ولكن الإيمان يكون بأن “التلفظ” بتلك الكلمات هو ما يوفر الحماية، بالتالي تعلق أو تكتب في مكان استراتيجي حتى يضطر كل “راء” على قراءتها والتلفظ بها وبالتالي يتم لها أن توفر منظومة حماية آلية من أي نظرة قد تخفي شيئا من الشر.

هناك أساليب أخرى لا تتضمن استخدام كتابات أو رموز مرئية، من هذه الأساليب هي ذبح الذبائح أو إقامة الموائد أو توزيع الصدقات أو الهبات للآخرين، فمن المتعارف عليه لدى بعض المجتمعات بأنه إن قام شخص بشراء بيت جديد أو سيارة جديدة فإنه يتعين عليه أن يذبح ذبيحة بهذه المناسبة درءا للعين، أو أن يقيم مأدبة عشاء إن حصل على وظيفة أو تزوج أو تخرج أحد أبناءه لنفس الغرض، وأحيانا  يُـلحق بهذ الغرض أغراض أخرى كإظهار الفرح أو حمد الإله وشكره على النعمة… يعني ليس فقط لأجل الحسد والعين. وبصراحة فإن قدراتي البحثية عجزت عن إيجاد تاريخ هذا التقليد أو أصله الثقافي أو جذوره الثيولوجية أو الأنثروبولوجية.

وهناك أيضا خط حماية ثالث يتعلق بطرق وأساليب إزالة وعلاج العين، لا أود التطرق لذلك لكي لا أدخل بالدين (إحلف!) لأني أود الاكتفاء بالحديث الثقافي.

 

والله يكافينا وياكم شر الحسد والعين… قولوا آمين 🙂