أرشيف الوسم: فلسطين

فلسطيني تحت الاحتلال العراقي: تاريخ العلاقات الكويتية الفلسطينية أثناء الغزو وبعده

الحديث عن العلاقة الكويتية-الفلسطينية بفترة الغزو العراقي وما بعدها من المواضيع الحساسة جدا والتي تتباين فيها الآراء وتتدخل فيها العواطف بشكل كبير. وحتى التناول الموضوعي لهذه القضية معرض لردود الفعل العاطفية ذاتها من كلا الطرفين، وذلك يدخل الموضوع بمجال قريب من التابوهات المحرمة التي يتجنبها من يسعى لتقديم وجهة النظر الموضوعية المنشودة، لكن لا بد من تسميك الجلد وتحمل ما سيأتي.

ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو قراءتي لكتاب أيام الغزو: يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت. قدمت مراجعة موضوعية للكتاب على موقع جود ريدز لمن أراد أن يأخذ فكرة عن الكتاب ومحتواه، لكنه باختصار (كما يوحي اسم الكتاب) هو مذكرات كتبها الكاتب والفنان الفلسطيني إسماعيل شموط خلال أيام الاحتلال الاحتلال العراقي للكويت والتي كان يعيش على أرضها خلال تلك الفترة. بالإضافة للجانب التوثيقي للكتاب فإن القارئ يمكنه أن يستشف بوحا عاطفيا من الكاتب يتعلق بهويته كفلسطيني على أرض الكويت المحتلة، ومن هذا البوح نستطيع أن نستخرج مجموعة من الأفكار هي أساس هذا المقال.

السؤال الكبير

بالبداية نتحدث عن المشكلة المختلف عليها، وهي باختصار سؤال: هل خان الفلسطينيون الكويت ووقفوا بصف المحتل العراقي ضدها؟ وهو سؤال تصعب الإجابة عليه بنعم أو لا، واستسهال الجواب مسألة أخلاقية يجب معالجتها بعمق.

من هم الفلسطينيون الذين نتحدث عنهم هنا؟ هل هي القيادات الفلسطينية؟ هل هم من كانوا خارج الكويت أم داخلها؟ هل هم من بقوا داخل الكويت أثناء الاحتلال أم من خرجوا منها؟ التعميم على مجمل ملايين الفلسطينيين بالطبع أمر لا يجوز، فعن من نتحدث هنا؟

موقف الخارج

الموقف الأشهر هو بالطبع موقف قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، فهي من المفترض أن تكون الممثل الرسمي للفلسطينيين والمتحدث باسمهم في ذلك الوقت. المنظمة، مثل الكثير من العرب، كانت في موقف حائر، فموقفها المعلن كان رافضا لغزو دولة عربية لدولة أخرى، لكن هذا الرفض كان يصحبه رفضا للتدخل الأجنبي الساعي لتحرير الكويت… وهذا ليس كل شيء!

من الحيل التي استند عليها المحتل العراقي كانت ربط احتلاله للكويت بالقضية الفلسطينية. إحدى الشروط التي تباناها وأصر عليها النظام العراقي لانسحابه من الكويت في فترات مختلفة من الغزو كانت ضرورة عقد مؤتمر لحل القضايا العربية، وأبرزها القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. ونعم، هي حيلة للمماطلة ولتعقيد وتبرير جرم الاحتلال وجذب استعطاف الشعوب العربية، وإلا ما العلاقة بين الأمرين؟ هل من الأخلاق أخذ الكويت كرهينة من أجل الضغط على العالم لحل قضية فلسطين؟ خاصة أن التبرير الأساسي لهذا الغزو كان ضم الكويت للعراق لكونها جزءا تاريخيا منه، فمنطقيا هل بالنهاية سيتخلى العراق عن جزء منه (حسب كلامه) من أجل فلسطين؟ أليس ذلك تناقض مع مبدأ الأمة العربية الواحدة التي كان النظام يدعي الإيمان فيها؟

ما يهمنا هنا هو الموقف الفلسطيني المتردد، فالحجة هنا هي أن عدم مساندة العراق تعني التخلي عن فرصة لحل القضية الفلسطينية، كما أن مساندة جهود تحرير الكويت تعني مساندة الوجود الأجنبي بالمنطقة، وتعني الوقوف بصف الولايات المتحدة… وهي الداعم الأكبر لإسرائيل. ذلك الوضع -ظاهريا- سبب للفلسطينيين ولكثير من العرب أزمة أخلاقية أضعفت من موقفهم تجاه دعم الكويت في أزمتها، من ذلك أتى الموقف المتردد ما بين الوقوف مع الكويت وما تعانيه من آثار الاحتلال وبين الحزم في السعي لتحريرها. ذلك يعني أنه لا بأس لدى أصحاب هذا الموقف من معاناة الكويت تحت الاحتلال مقابل الأمل بأن يخضع العالم للموقف العراقي ويتحرك لحل قضية الفلسطينيين. نضيف لذلك تحسر غالبية العرب، بما فيهم الكويتيين ذاتهم، على خسارة العرب للقوة العسكرية العراقية في حالة نشوب حرب لتحرير الكويت، ذلك الجيش “العظيم” الذي كان يؤول عليه أن يكون سندا للعرب وأداة لتحرير فلسطين إن نشبت حرب لتحريرها، جيش كان يقدر بما بين رابع إلى سادس أكبر جيش بالعالم معرض للدمار إن نشبت الحرب… وليست أي حرب، حرب بقيادة أمريكا! فأين نقف؟ مع العراق أم مع الكويت والتحالف المساند لها؟ أم بين البين إن كان ذلك ممكنا؟ بالنسبة للكويتيين، ولغالبية العالم الممثلة في موقف الجامعة العربية والأمم المتحدة، ليس هناك بين بين، وليس هناك مبرر أخلاقي ولا حتى منطقي للوقوف مع المحتل الذي بادر بمحض إرادته باحتلال دولة مجاورة وعاث فيها تخريبا وتنكيلا ثم جاء ليخلط الأمور ويقدم المبررات لاستمرار هذا الاحتلال.

ذلك الموقف الأخلاقي الذي نتحدث عنه هو موقف “ظاهري” كما أسلفنا، لكن واقعيا كلا من الموقفين الرسمي والشعبي لا يحتمل ذلك التبرير الأخلاقي، بل هو موقف داعم لذلك الاحتلال بشكل مفضوح مهما اصطبغ بالمبررات، ولذلك دلائل عديدة لا ينكرها إلا الجاهل بتاريخ ما حصل.

من فلم وثائقي (١٩٩٨)

رسميا، العديد من الأحزاب والحركات الفلسطينية كانت لها مصالح مباشرة مع النظام العراقي، فكان قادة تلك الحركات مستمرون بلقاءاتهم مع الرئيس العراقي وبتقديمهم لفروض الطاعة والتقدير له شخصيا ولموقفه، وكل ذلك كان موثقا ومرئيا أمام الأعين. وبالطبع فإن تلك الحركات كان لها المؤيدون من الشعوب، فهي ليست حركات صورية! ومن ذلك خرجت المظاهرات في الشوارع العربية والأجنبية تدعم شخص الرئيس العراقي وتحمل صوره وتدعوا له بالمجد والنصر. وشعبيا أيضا كانت تلك الجماهير شامتة بالكويتيين وكانت تسخر منهم وتضايق المنفيين منهم، وذلك أيضا موثق بالشهادات وأيضا لا ينكرها إلا جاهل أو متجاهل. فهل هناك ما يبرر تلك المواقف؟ هل رفض الوجود الأجنبي أو الحفاظ على الجيش العراقي يستدعي ذلك الموقف؟ تلك المواقف تحدث عنها شموط ذاته، ونقل على لسان بعض من قابلهم من الفلسطينيين بأنهم يأسفون على ما أصاب الكويت، لكنهم يرون أنه شر مبرر ولا بأس به في سبيل تحقيق “أهداف قومية ووطنية فلسطينية” كما كانوا يعتقدون (إسماعيل شموط، أيام الغزو، ص٣٣٤).

الموقف الرسمي للمنظمة رغم محاولات تغطيته بما ذكرناه من مبررات كان مفضوحا من جوانب أخرى. من المعلومات الخطيرة التي ذكرها إسماعيل شموط بكتابه هو لقاءه بشهر نوفمبر، بعد ثلاثة شهور من الغزو، بعزام الأحمد السفير الفلسطيني ببغداد الذي زاره في منزله، والذي أوضح له نيته من زيارة الكويت وهي افتتاح ملحقية للسفارة الفلسطينية في الكويت(ص٢٨٦)، أي أن السفارة الفلسطينية في بغداد ستكون “الأصل” والملحقية في الكويت هي “الفرع” لها! وذلك اعتراف رسمي من السلطة الرسمية الفلسطينية بكون الكويت منطقة تابعة للعراق! شخصيا لم أسمع بهذا الأمر سابقا، وذلك أمر مبرر لأن السلطة في ذلك الوقت كانت تنكر هذا الاعتراف، لكن مرة أخرى الحقائق التاريخية، كما فضحها شموط، لا يمكن إنكارها مهما حاول الساسة تغطيتها بأحاديثهم.

موقف الداخل

الموقف الأصعب والذي كان له الأثر الأكثر إيلاما هو موقف فلسطينيي الداخل الكويتي، والحديث فيه حساس للغاية. كانت الجالية الفلسطينيه في الكويت بفترة النصف الثاني من القرن العشرين وحتى تحرير الكويت حالة خاصة، تختلف عن حالة بقية الجاليات العربية والأجنبية فيها. نعم هناك المقولة الشهيرة بأن الفلسطينيين ساهموا ببناء الكويت الحديثة، والحديث ما يزال يدور إلى اليوم عن فضل الفلسطينيين على الكويتيين في كافة المجالات من التعليم إلى الطب إلى التجارة، وذلك أمر لا ينكر. بنفس الوقت، الفلسطينيين كذلك لا ينكرون فضل الكويت عليهم، فهي البلد الذي كان يستضيف مئات الآلاف منهم (يقدر العدد بـ٤٠٠ ألف فلسطيني كان في الكويت قبل الغزو) ممن استمروا بالتوافد إليها بعد أن سدت حتى أقرب الدول العربية لهم أبوابها، ومن خير الكويت كانت تلك العائلات تعين وتعيل مئات آلاف أخرى من الفلسطينيين في مختلف دول العالم.

هؤلاء الفلسطينيون كانوا ينقسمون إلى قسمين رئيسيين ركز عليهما إسماعيل شموط كلامه في الكثير من مواقف الكتاب: فهناك الفلسطينيون من حملة جوازات السفر الأردنية، وهؤلاء حالهم كان أيسر أثناء الغزو لتمتعهم بحرية أكبر عند مغادرتهم للكويت، وهناك الفلسطينيون من حملة وثائق السفر المصرية ممن يصعب عليهم حتى دخول مصر ذاتها التي أعطتهم تلك الوثائق بعد نزوحهم إليها بعد حرب ١٩٦٧. مثل كل من كان في الكويت أثناء الغزو عانى الفلسطينيون كثيرا بسبب توقف الحياة فيها وانقطاع دخلهم، ونتيجة لذلك خرج من الكويت من استطاع الخروج. من استطاع الخروج هنا نعني فيها حملة الجوازات الأردنية، بما في ذلك أبناء شموط. ويقدر شموط عدد من ترك الكويت من الفلسطينيين والأردنيين بحوالي ستين ألف عائلة وذلك خلال الشهرين الأولين من الغزو (٢٢١)، وهي أرقام تقديرية ولا بد أنها تزايدت لاحقا (يقدر عدد من غادر بـ٢٠٠ ألف فلسطيني). أغلب من تبقى من الفلسطينيين في الكويت كانوا من حملة وثائق السفر المصرية لصعوبة تنقلهم بتلك الوثائق، بالإضافة لمن لم يستطع الخروج لأسباب مادية أو غيرها، وهناك بالطبع البعض منهم من فضلوا البقاء في الكويت لأي أسباب أخرى، مثل شموط ذاته.

الكويتيون بالداخل كانوا على اطلاع على الموقف الفلسطيني، سواء من خلال ما يسمعونه من أخبار أو من خلال ما شهدوه بأعينهم. لمّح شموط بأكثر من موضع بكتابه بأن بعض الكويتيين كان لهم موقف عدائي تجاه فلسطينيي الداخل الكويتي، وآخرون على العكس، متعاطفون معهم، ومن المؤكد بأن لكل منهم أسبابهم. واحدة من أهم تلك الأسباب كانت التعاون مع المحتل بشكل مباشر أو غير مباشر. يذكر شموط بأن من تعاون بشكل مباشر مع المحتل أو ارتكب أعملا توصف بالخيانة لا يتجاوز “بضع مئات، أو قل ألفا أو ألفين” من أصل مئتي ألف فلسطيني كانوا لا يزالون في الكويت (ص٣٢٢)، وهي كلها أرقام تقديرية غير دقيقة، لكنها بالتأكيد أرقاما ليست بسيطة في تلك الظروف. يبرر شموط تلك الحالة بأنها أمر “طبيعي” في تلك الظروف، وأنها حالة بشرية عادية! تشمل أشكال الخيانة تلك التعاون المباشر مع المحتل عسكريا واستخباراتيا، بالإضافة للأعمال الإجرامية وأعمال استغلال الظروف للاستفادة المالية والتجارية.

فئة أخرى ثار حولها الجدل وتحدث عنها شموط هي من تجاهلوا مبدأ العصيان المدني. فأثناء الاحتلال كان هناك رفض من قبل الكويتيين للالتحاق بأعمالهم ومدارسهم، ما عدا بعض الوظائف الأساسية كمجالات الطب وخدمات الطاقة والاتصالات، والتي اشتغل الفلسطينيون فيها كذلك. لكن شموط يشير بكتابه إلى استغرابه من الفلسطينيين ممن قبلوا العمل في المدارس وألحقوا أبناءهم بها، وإن كان قد برر تصرفهم ذلك بلسانهم بأنهم كانوا بحاجة للمال، ولشغل أوقات فراغ أبناءهم!

كل ذلك والكويتيون يسمعون ويراقبون وإن كان ليس لهم حول ولا قوة للتصرف في حينها. كانت أخبار تلك الخيانات تتداول بينهم، بل وتزداد وتتضخم أثناء انتقالها، وأضف لذلك الأخبار والمواقف السياسية والشعبية المعروفة التي تحدثنا عنها مسبقا. كل ذلك أدى إلى ردة فعل كويتية غاضبة تجاه الموقف الفلسطيني (والعربي بشكل عام) من الغزو بشكل تعميمي! بعض ردود الأفعال تلك كانت متطرفة، كموقف “الصديق” الكويتي “حاد الطباع” الذي قابله بعد أربعة أشهر من الغزو، والذي -ككثير من الكويتيين برأيي- كفر بفكرة العروبة والقومية بسبب المواقف العربية من الغزو، والذي كان يؤمن بضرورة طرد كل من تعاون مع المحتل أو قام بخدمته بأي شكل من الأشكال وأن تكون الكويت للكويتيين بعيدا عن شعارات العروبة والقومية. حديث ذلك الصديق سبب خوفا من المستقبل لشموط، فراح على إثره يعدد تبريرات الفلسطينيين وأفاضلهم، تبريرات لنا أن نأخذ منها ونرد بعضها، ونتيجة لذلك الخوف نراه أيضا مهتز الشعور تجاه فكرة ربط الغزو بحل القضية الفلسطينية التي كان رافضا لها بالبداية! فأين يذهب الفلسطينيون إن طردوا من الكويت؟ فهم على خلاف الجنسيات الأخرى التي خرجت من الكويت لا وطن لهم ليعودوا إليه، وأغلبهم يصعب استقبالهم في أي مكان بسبب وثائق سفرهم، فماذا سيكون مصيرهم إن لم تحل قضيتهم؟ تلك الحالة الفلسطينية من الشتات ليست بجديدة، فبعد خروجهم من أرضهم بسبب الحروب المتتالية طردوا قبلا من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود عام ١٩٧٠، وبعضهم هجّروا من لبنان بعد اجتياح ١٩٨٢ (ومنهم شموط ذاته). لذلك خوف شموط من استمرار ذلك الشتات نجد له بعض التبرير.

الموقف الكويتي

من المؤكد بعد كل ما سبق بأن الموقف الكويتي من الفلسطينيين (والعرب عموما) لم يكن بلا مبرر، قد يكون متطرفا بالعداوة لدى بعض منهم، وقد يكون مبالغا بالتسامح وحسن النية لدى القلة من البعض الآخر. لكن بنظر الكل فإن موقف الفلسطينيين بكافة فئاتهم الرسمية والشعبية بشكل عام لم يكن كما كان مأمولا منه، كما رأيناه بالتاريخ الموثق. من ناحية يرى الكويتيون بأن استضافتهم لمئات آلاف للفلسطينيين عبر العقود الماضية وتوفيرهم لأمل بالحياة لهم ودعمهم المادي والمعنوي لقضيتهم طوال تلك السنين يجعلهم يستحقون موقفا أكثر حزما ودعما ووضوحا عندما احتاجوا له بأزمتهم، فكانت خيبة آمالهم كبيرة بعد ما شاهدوا من تخاذل وصل لحد الخيانة وتأييد المحتل، موقف لا يتناسب ولا يرقى لمستوى مواقف الكثير من الشعوب التي دعمت قضية الكويت بكل وضوح، كالشعوب الخليجية. ومن ناحية أخرى نرى حتى أكثر الفلسطينيين تعاطفا مع الكويتيين، كإسماعيل شموط، يجعلون لأنفسهم استحقاقا يتيح لهم حق الوجود في الكويت بحجة أنهم هم من عمّرها وأدارها قبل الغزو وأثنائه (ص٣٢٠) وذلك باسم العروبة والقومية، وبالتالي لا يستحقون ردة الفعل الكويتية تلك. ولا يلام هؤلاء ولا هؤلاء.

نعم، بعد التحرير مباشرة وفي ظل الفوضى حدثت أعمال انتقامية من بعض الكويتيين ضد بعض الفلسطينيين، قد لا تكون موثقة بوضوح، والعذر كان الانتقام من الخونة المعروفين ممن تعاونوا مع المحتل أو سببوا الأذى لغيرهم. لا يمكن لأحد تبرير تلك الأعمال الانتقامية الفوضوية، لكن يدعي البعض أنها لم تكن انتقاما من الفلسطينيين بشكل عام، بل من بعض من ثبت تعاونهم مع المحتل. هي أعمال متطرفة وحدثت وسط الفوضى كما قلنا، وكان يجب أن تتم وفق القانون وتحت أعين القضاء، وهي رغم أنها كانت انتقائية وليست عامة إلا أنها أثارت الرعب في الأوساط الفلسطينية وأدت إلى هجرة أغلبهم من الكويت بعد التحرير مباشرة. الموقف الكويتي الرسمي لاحقا منع عودة من غادر الكويت من الفلسطينيين بعد قطعٍ للعلاقات مع الدولة الفلسطينية استمر ما يقارب العشرين عاما.

الموقف الشعبي الكويتي من الفلسطينيين ومن ما أطلق عليه اسم “دول الضد” ظل متكهربا لسنين طويلة. في فترة ما بعد التحرير ألغى الكويتيون في المدارس صيحة “تحيا الأمة العربية” التي كانت تقال قبل تحية العلم كل صباح. هل هذا الموقف مبرر؟ هل يلام الكويتيون على ذلك بعد ما مروا به من أحداث وما شاهدوه من مواقف؟ لا يمكن لأحد أن يجيب على هذه التساؤلات، ولا يحق لأحد محاولة الإجابة ببساطة لأنها كانت ثقافة عامة جاءت كرد فعل على أحداث صعبة وبغاية التعقيد. لكن ذكرها ودراستها ومعرفة أسبابها أمر بغاية الأهمية حتى نفهم ما حصل.

عودة المياه

بالطبع مع مرور السنين تغيرت الأحوال، فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الضد عادت طبيعية. حتى الفلسطينيون أنفسهم اعترفوا لاحقا بخطأ موقفهم من الغزو رسميا وتصالحوا مع الحكومة الكويتية وأعادوا افتتاح سفارتهم في الكويت. يجدر القول كذلك أنه حتى شعبيا لم يتخل الكويتيون عن دعم القضية الفلسطينية حتى قبل عودة العلاقات الرسمية، ويتمثل ذلك بالتعاطف الإنساني وبالدعم المادي، واستمر هذا الدعم والتعاطف إلى يومنا هذا.

Palestine from Moayad Hassan on Vimeo.

والسؤال هنا، إن كانت القضية الفلسطينية هامة للكويتيين اليوم كما كانت منذ عقود من الزمن لم إذا استذكار الماضي واستحضار موقف طارئ تضررت فيه هذه العلاقة واضطربت؟ وهل تذكر الموقف الفلسطيني من الغزو العراقي للكويت يفيدنا بشيء سوى تأجيج الخلافات وزيادة الشقاق بين الشعوب؟

والجواب هو نعم، استذكار تلك المواقف أمر هام ومفيد. حفظ التاريخ وتوثيقه شيء لا غنى عنه، وإلا لكنا نعيش حياتنا بتخبط وسبهللة! أضف لذلك أنك إن لم تكتب تاريخك… سيكتبه غيرك لك! تناسي المشاكل وعودة الود أمر محمود ويتيح لنا العيش بهناء دون تعصب وشد قد يعرقل تركيزنا على ما هو أكبر وأهم بهذه الحياة، لكن التناسي لا يعني نسيان ذلك التاريخ ومحوه باسم العفو عما مضى. وحديثي عن فائدة التاريخ هنا مرتبط بفهمنا ونقدنا وتحليلنا لهذا التاريخ، لا السرد الانتقائي المباشر بغرض الاستحضار والاحتجاج. فعندما نتذكر تاريخ الموقف الفلسطيني من الغزو علينا أن نسأل أسئلة مثل لماذا حدث ما حدث؟ ما الدوافع التي حدت الفلسطينيين لاتخاذ هذا الموقف؟ وهل كل ما سمعناه وقرأناه في حينها أو فيما بعد كان صحيحا أم أن هناك روايات أخرى لم نسمعها؟ تلك بعض الأسئلة التي يجب أن تطرح، لا تذكر الماضي بغرض استحضار الأحقاد، ولا تجاهله نهائيا واعتبار أنه شيء انتهى ولا قيمة له اليوم.

نعم التعاطف مع قضية الإنسان الفلسطيني شيء محمود دائما، مثل التعاطف مع أي إنسان معرض للظلم والقهر، لكن التعاطف لا يعني تغليب العاطفة، فحتى التعاطف يجب أن يكون عقلانيا! بل إن أساس ما حدث بين الكويتيين والفلسطينيين من مشاكل وشقاق كان سببه الأساسي وغلطته الكبرى تغليب العواطف على العقل. الأمل الزائف بقدرة النظام العراقي على حل القضية الفلسطينية، مشاعر القومية العمياء وشعاراتها وإحساس الاستحقاق، الخوف من المصير المجهول لما بعد الحرب، كلها عواطف سيطرت على الفلسطينيين وبعض العرب ودفعتهم لاتخاذ موقفهم المهزوز. والعكس صحيح، مشاعر الضعف والمظلومية وقلة الحيلة والغضب الناتج عنها ولد لدى الكويتيين حقدا دفعهم للانتقام الجسدي والعاطفي تجاه من كان ضدهم في أزمتهم. لو تركنا تلك المشاعر تسيرنا لاستمرت معاناتنا للأبد، فكل تعبير عن تلك المشاعر من طرف سيصحبه ردة فعل مشابهة ومضادة من الآخر، ولن نستقر إلا بالتعقل والتفكر والنقاش… لا النسيان.

لا أحب مقولة أن العرب شعوب عاطفية، فكل البشر عاطفيين، لكن ربما ثقافتنا وأدبياتنا وتاريخنا اللغوي العربي عوامل تساعد على التعبير عن تلك العواطف بشكل أوضح من غيرنا، لذلك يبدو أن عندنا نوع من التطرف العاطفي الذي يدخلنا في طريق المشاكل والشقاق. من ناحية أخرى نضيف أن لدينا تخوف من فكرة عرض التاريخ، ناهيك عن دراسته بتعقل وموضوعية، فذلك التاريخ إن رُجع له فإنه يستخدم عادة كأداة لخدمة رأي أو سلطة أو جماعة، وبالتالي تُخشى إثارته من الأساس في وقت الرخاء لتجنب الاضطراب، وحيلة طمس التاريخ كثيرا ما تلجأ لها السلطات لذلك السبب. تلك كلها أسباب تجعلنا عرضة للانزلاق في مسار التطرف، وفي حالتنا هذه تطرف بالأحقاد أو تطرف بالنسيان. أسهل طريق نتخذه لتجنب الخلافات والمشاكل هو بتجاهلها ومحاولة طيها ونسيانها وعدم الحديث عنها، وهذا أمر لا يقل خطورة عن الحارة المقابلة من طريق التطرف، فذلك التجاهل ليس إلا قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أية لحظة.

لذلك لنتحدث، ولنتذكر، ولنناقش، ولندون ونكتب ومن ثم نقرأ، بذلك فقط سنصل إلى الثقافة العاقلة التي تتعلم من التاريخ وتستفيد منه، وبذلك سنتجنب الأخطاء ونتفادى المشاكل وتصبح لدينا القدرة على أن نبني مواقف وقررات مدروسة تنفعنا وتنفع البشر.

حياة شفيق الغبرا غير الآمنة: قراءة نقدية

حياة غير آمنة - شفيق الغبرا

 

يحكي لنا شفيق الغبرا في كتابه حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات قصة محاولة فئة محددة من جيل محدد إحداث تغيير في تاريخ هذه الأمة… وفشلهم في تلك المحاولة!

 

إن كنت قد تأكدت من شيء بعد قراءتي لهذا الكتاب فهو رسوخ اعتقادي المسبق بأن الخلل متأصل في عمق ثقافتنا العربية، وتأثير هذا الخلل – كما تبين لي – لا علاقة له بالمستوى التعليمي أو الأكاديمي للأفراد، السرية الطلابية، تلك المجموعة المثقفة المتعلمة اليسارية المؤمنة بالعدل والمساواة واحترام الرأي واختيارات الإنسان وحقوقه، سرية محاربة منظمة تكونت من خيرة الشباب الجامعي في بيروت في فترة ما بعد النكسة (حرب ١٩٦٧) وسعت لمقاومة الإحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية… ومقاومة قوى التخلف والرجعية العربية في نفس الوقت، يحكي لنا شفيق الغبرا كيف تكونت هذه السرية وكيف انضم لها وكيف تفاعلت هذه السرية مع ما أحاط بها من أحداث وكيف اضطرت لتغيير مسارها مرة تلو الأخرى مجاراة لتلك الأحداث.

يخبرنا الغبرا عن أهمية بيروت كواحدة من أهم المراكز ثقافية في الوطن العربي، وعن دور لبنان كحاضن لشتات اللاجئين والمشردين من أبناء الوطن العربي، وعن الجنوب اللبناني على وجه التحديد كخط المواجهة الأخير مع العدو الأهم و”القاعدة الآمنة” الأخيرة لحركة المقاومة، وكما نعلم فإن البوتقة اللبنانية التي جمعت مختلف أطياف الثقافات العربية انشرخت منذ ضلت أولى الرصاصات طريقها لتتوجه ناحية الأخ العربي بدلا عن المحتل الإسرائيلي، لكن هذا الانشراخ لا يهمني هنا… فأسبابه السياسية والاجتماعية كثيرة ومعقدة ومتداخلة وما كان لأحد أن يسيطر عليه، فبيروت بثقافتها وانفتاحها وحريتها لم تستطع مواجهة مد المصالح والأطماع وطوفان الطائفية والقومية الذين أغرقوها وجرفوا كل ما كانت تتباهى به من جمال… أو غالبيته على الأقل.

ما كان يهمني أثناء قراءتي لهذا الكتاب هو معرفة كيف انحرف مسار تلك الفئة النخبوية من الشباب العربي وكيف ترتبت الأقدار مكونة سدا بينها وبين أهدافها التي قامت عليها، وإصبع الإتهام هنا لا يمكن توجيهه بسذاجة نحو جماعة معينة أو فكرة واحدة أو حدث تاريخي محدد، بل هي سلاسل طويلة من الأحداث يتداخل معها ويشبكها ببعضها البعض إرث عميق من الأفكار والمعتقدات والقيم التي تربت عليها الأجيال، فنجد الغبرا من خلال أحاديثه مع من عاصرهم في ذلك الوقت يجد من يوجهه لهذه الحقيقة… حقيقة أن مشكلتنا الكبرى ليست بالاحتلال ولا المقاومة وحسب، بل مشكلتنا هي بطريقة تفكيرنا القائمة على الفردية وضعف الفكر القيادي والتخطيط بالإضافة لما يسود بيننا من طائفية وطمع وغرور وعدم تقدير لاختلاف الرأي ولا لحقوق الإنسان ولا للمرأة والأقليات، تلك هي القضايا الأهم والتي دون علاجها لن ينفعنا الرصاص ولا المتفجرات… وهذا بالضبط ما أثر على حركة الشباب وحرف مسارها.

قضى شفيق الغبرا ٦ سنوات كمناضل “رسمي” في لبنان، بدأت منذ استقر في بيروت في أوائل مارس ١٩٧٥ منظما للسرية الطلابية، وانتهت (عمليا) بمغادرته لها عام ١٩٨١ عائدا للكويت ومنها إلى الولايات المتحدة، خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره النضالي لم يطلق الغبرا رصاصة واحدة تجاه أي هدف إسرائيلي!

لقد انجرت حتى أكثر التنظيمات العسكرية مثالية (السرية الطلابية كمثال) لعملية تشويش للأهداف التي قامت من أجلها، فصحيح بأن التبريرات التي ساقها الغبرا لانحراف مسعاها في محاربة الإسرائيليين وتحرير الأراضي المحتلة قد تكون منطقية نوعا ما… كمحاربة المتواطئين مع إسرائيل تارة وحماية “القاعدة الآمنة” للمقاومة من خطر الأنظمة والتنظيمات التي قد تهدد استقرارها أو تقيد تحركاتها أو تمنع نموها، لكن بالنهاية هؤلاء المتواطئون وتلكم الأنظمة والتنظيمات ومن انضم تحتهم من أفراد يبقون عربا وأشقاء وليسو هم المحتل أو العدو الأساسي الذي تآلف من أجل قتاله هؤلاء الشباب، والغبرا يعبر بأكثر من موضع بالكتاب عن مدى أسفه لاضطراره للقيام بهذه المواجهات التي كان من الأولى تجنبها.

إن أكثر ما آسفني أثناء قراءتي لهذا الكتاب هو الحديث عن أسماء من سقطوا في تلك المعارك العبثية التي لم تحقق لنا هدفا يذكر… ربما أكثر إيلاما من فكرة الفشل ذاتها! فكل بضعة صفحات من الكتاب نقرأ عن المفكر الشاب فلان الذي سقط في المعركة الفلانية، والمهندس الشاب فلان الذي قتل بانفجار لغم أرضي، والأديب الشاب فلان الذي قضى نحبه أثناء قصف المنطقة العلانية، وهكذا نستمر بقراءة أسماء هؤلاء الشباب الجامعي المثقف والطموح والذي بكل تأكيد كنا سنستفيد من حياته أكثر بألاف المرات من أخبار موتهم.

عندما نقرأ قصص هؤلاء الشباب برواية من عاشرهم وتعرف عليهم عن قرب وعاش نفس عيشتهم فإن ذلك يجعلنا أكثر إدراكا بأن ما نسمعه ونقرأه يوميا في نشرات الأخبار عن سقوط الضحايا في الحروب والمعارك المستمرة حولنا ليس مجرد أخبار تروى ولا أرقام تحصى، كل فرد يموت من حولنا في هذه الحروب له أهل وأصدقاء وله قصة وحياة وطموح وأهداف كان من الممكن أن يحققها في حياته فينفع بها نفسه وينفع أمته، فإن أدركنا ذلك أليس علينا إذن أن نكتفي بما خسرنا ونوجه طاقاتنا نحو الحياة بدل توجيهها إلى الموت؟

لو لم يقرر شفيق الغبرا الإنسحاب من حياة النضال في الوقت المناسب فلربما كنا قد خسرناه كبقية من خسرنا من شباب ولما استطعنا أن نقرأ كتابه هذا… وغيره من مؤلفاته، لكنه عاد إلى وطنه واستمر في حياته وحصل على أعلى الشهادات ورجع ليربي أجيالا من الشباب (وأنا أحدهم!) ويثقفهم بالقضية التي آمن بها، بالتالي بدلا من أن يكون رقما آخرا خسرناه بالحرب أصبح إنسانا منتجا أفاد أمته وقضيته أكثر من فائدة جميع الرصاصات والمتفجرات التي كان سيوجهها لو كان بقي مرابطا في الجنوب اللبناني.

عندما تحدثت في مقالي السابق عن ثقافة الرماد وكيف أن الأفكار السائدة لدينا والداعية للعنف والمتباهية فيه هي واحدة من أخطر ما نواجهه اليوم من مشاكل تؤدي لحالة التخلف التي نعيش بها فإني أرى من خلال هذا الكتاب تجسيدا تاريخيا موثقا على كلامي، كما أرى بفكرة انسحاب شفيق الغبرا من دوامة العنف واختياره لطريق العلم والثقافة كبديل هي قمة النضج التي يجب أن نسعى إليه ونحاول زرعه في أجيالنا القادمة، لا أدري إن كان الغبرا ذاته اليوم سعيدا بقراره هذا ومقتنعا فيه أم نادما عليه، ولكني أنا سعيد به، وسأسعد بأي قرار مشابه له من أي شاب اليوم، سأسعد بأي قرار يسعى لزراعة الحب بدلا عن #زراعة_الكراهية.

ثقافة الرماد

ثقافة الرماد

 

عندما أتعرض يوميا في تويتر ووسائل الإعلام العربية لسيل من الأفكار الداعية للعنف تحت مسميات مثل الكرامة والتضحية أو حتى الدفاع عن النفس فلا أستغرب، فبثقافتنا العربية نجد العنف مرتبطا بالشجاعة، وذلك يبدوا لنا جليا في الأدب والتاريخ وحتى الفن كما أوضحت في مقال نحن أبطال الجهاد، وقس على ذلك نوستالجيا البطولة العربية المتمثلة بأشعار عنترة بن شداد وقصص الزير سالم وملاحم أبو زيد الهلالي وأفلام فريد شوقي!لكي نكون واقعيين فإن كل أمة لها أبطالها “العنيفين”… لا خلاف على ذلك، لكن الفرق هو أن بقية الأمم تحاول حصر هذا العنف بزاوية الخيال الأدبي… إلا نحن! نعم تعتز كل أمة بأبطالها التاريخيين رغم دمويتهم… لكن عند دراستهم اليوم فإنهم يقدَّمون على شكل قصص وروايات وأفلام أقرب للخيال حينا… أو كدراسات أكاديمية تحلل وتفسر أسباب نجاحهم (إن كانوا قد حققو نجاحا) وتنقدها نقدا موضوعيا يظهرهم كشخصيات إنسانية تحمل الخطأ والصواب في أفعالها، فلا يقدَّمون أو تقدم بطولاتهم كمثال تربوي يحتذى بمدى العنف والدموية الذي يحتويه.

واقعيا… نحن ما زلنا نروج للعنف على أنه “حق مشروع” ولا ضير منه! مع أنه لو تبصرنا بهذه الجملة لاستوجب علينا أن نخجل من أنفسنا صراحة! بالطبع للهروب من قباحة كلمة “العنف” فإننا نجمّلها ونستبدلها باسم “المقاومة” حينا وباسم “إعلاء الحق” حينا آخر… وإلى آخره من الكلمات الداعية إلى إقصاء “الآخر” الذي لا يعجبنا لأي سبب كان، أي كأنك تقول بأنه من حقك أن تقتل وتدمر وتشعل الفتن وتثير المشاكل فقط لشعورك بأنك “مظلوم” مثلا أو تجابه الشر أو حتى تحاول إثبات موقف، بل ومن حقك مقاتلة كل من ينكر عليك “حقك” هذا!

بمحض الصدفة تاريخ كتابة هذا المقال (٣٠ يوليو ٢٠١٤) يتزامن مع الذكرى الرابعة والتسعون لميلاد فريد شوقي، نجم القوة والفتوة والعنف في الأفلام العربية القديمة!
بمحض الصدفة تاريخ كتابة هذا المقال (٣٠ يوليو ٢٠١٤) يتزامن مع الذكرى الرابعة والتسعون لميلاد فريد شوقي، نجم القوة والفتوة والعنف في الأفلام العربية الكلاسيكية!

قبل أن أبدأ بإيضاح وجهة نظري – التي قد لاتعجب الكثير من القراء – بهذه المسألة علي أولا أن أعرف المقصود بكلمة “العنف”، يعرف العنف بأنه: “سلوك يتضمن استخدام القوة المحسوسة بغرض إلحاق الأذى أو الإضرار أو قتل شخص أو شيء ما”، ويطلق العنف كذلك على القوة العاطفية أو القوة الطبيعية المدمرة (التعريفات من قاموس أوكسفورد)، من ذلك نستنتج بأن المقصود بالعنف هو فعل التدمير بحد ذاته بغض النظر عن أهدافه إن كانت شريرة أو “سامية”.

فهل نحن كأمة عربية نهتم بهذا المعنى للعنف؟ يكفي القول بأن صفحة تعريف “العنف” بالويكيبيديا العربية وقت كتابة هذا المقال هي فقرة واحدة (٤-٥ أسطر)، بينما الصفحة الإنجليزية مجرد المرور السريع عليها يصيبك بالملل لطولها! الصفحة الإنجليزية تحتوي على ١٣٢ مصدرا، بينما العربية تحوي ٤ مصادر… مكتوبة باللغة الإنجليزية!! وهذا دليل مادي بسيط على مدى اهتمام ثقافتنا العربية بمفهوم العنف.

لكي تصل فكرة العنف لمستوى القبول كما هو موجود في ثقافتنا فإنه لا بد من أنه قد تمت عملية تأسيس ثقافي متين لها، فهي فكرة ليست هينة إطلاقا، التأسيس الثقافي لديه الإمكانية بأن يربط أي معنى بأي رمز إن مورس بشكل مركز ومخطط له، حتى لو كان ذلك المعنى غير منطقي، مثال على التأسيس الثقافي – كما أقوم بشرحه لطلابي – هو معنى الألوان، الألوان بشكل عام عبارة عن رموز، حالها حال الأشكال والكلمات والمفاهيم، والرموز يمكن أن تحمل عدة معان حسب المؤثرات الثقافية (مثل اللغة، التربية، التعليم، الديانه، الظروف الاجتماعية والاقتصادية… الخ)، فلو تم تدريسك وتأكيد فكرة أن اللون الأبيض مثلا هو لون حزين منذ طفولتك فستكبر وأنت مؤمن بهذا الأمر، فإن كبرت وشاهدت عروسا ترتدي فستانا أبيض بيوم زفافها ستستغرب وتستنكر الأمر!

قس الكلام المذكور أعلاه على مفهوم العنف وربطه بالشجاعة والكرامة والنخوة ودفع الظلم كما تم تعليمنا، إن كنت مؤمنا بهذا الإرتباط فإنك لا تلام بصراحة! نحن أمة نشأنا على تلك الأفكار العنيفة وتم تأسيسنا عليها ثقافيا عن طريق التربية الأسرية والمناهج الدراسية والسرد التاريخي والإعلام وحتى الدين، شاهد معي هذا المثال الصارخ حول الكيفية التي تتم بها زراعة العنف والكراهية بنفوس أطفالنا والذي أسردت لها مقالا كاملا يحمل عنوان زراعة الكراهية كنت قد كتبته عام ٢٠٠٨:

 

 

تحدثت في المقال عن امتعاضي من الإصرار على إذاعة هذه الأغنية الكارثية تربويا على إحدى قنوات الأطفال المشهورة (قناة سبيس تونز)، وكيف أن الخطورة ليست فقط في محتواها العنيف والإقصائي… بل بمحاولة بث هذه الأفكار وتعميمها على عقول كافة المشاهدين من الأطفال، يعني كل أب أو حتى مؤسسة تربوية قد يكون لهم الحق في تنشئة أبنائهم بأي فكر يريدون مهما كان غير مقبول بالنسبة لنا، لكن المصيبة هنا هي محاولة فرض هذه التنشئة على عامة أطفال الأمة، وقد يكون ما نشاهده ونقرأه اليوم من أفكار عنيفة يطرحها شباب التويتر هي – جزئيا – ناتج لما شاهدوه وسمعوه على سبيس تونز قبل ٦ سنوات، طبعا أنا هنا لا ألوم هذه الأغنية أو هذه القناة لوحدها كسبب لفكر العنف الموجود لدينا… فتلك سذاجة! ولكن كما بينت أعلاه فإنها منظومة ثقافية متأصلة ومتجذرة لدينا تبث هذه الأفكار والمفاهيم وتجعلها جزءا منسوجا ضمن خيوط نسيجنا الثقافي.

هل معنى ذلك أننا أمة كتب عليها أن تعيش العنف والكراهية ولا أمل لها بالتغير؟

طبعا لا!

الثقافة عملية مستمرة، تغييرها يحتاج لإيمان بأهمية التغيير وإصرار على المبدأ ومجابهة شجاعة للأفكار السائدة، وحديثي في هذا المقال ليس موجها لدعاة العنف بل هو لرافضيه، أدعوهم ليرتفع صوتهم وينجلي خوفهم من الأصوات العالية المحيطة بهم… وهي أصوات مرعبة بالفعل! دعاة العنف في مجتمعاتنا لا يستسهلون ممارسة ذلك العنف على مخالفيهم وحسب… بل يستسهلونه حتى ضد مع يطرح أفكارا نابذة للعنف الذي يدعون إليه حتى لو كانوا من أبناء جلدتهم، فالداعي للسلم ولنبذ العنف بالنسبة لهم تطلق عليه صفة الذلة والخنوع والاستسلام حينا والخيانة والعمالة حينا آخر، من الأمور التي طالما أصابتني بالحيرة هي أننا كلما اشتعلت أزمة من حولنا نسعد عندما نشاهد أو نسمع أحدا من “الطرف الآخر” يعارض العنف، لكن عندما تكون المعارضة من طرفنا فتصبح محرمة! تجدنا نسارع للمشاركة بنشر صورة للمظاهرات الداعية لوقف العنف ضدنا، لكن عندما نسمع رأيا يطالب بوقف العنف من قبلنا فإننا أوتوماتيكيا نسميه صوتا انبطاحيا صهيونيا… فيالها من موازين مختلة لدينا!

من خلال ملاحظاتي على تويتر مثلا وجدت أن من يشاركونني رأيي الداعي للسلم كثر… لكنهم صامتون! على عكس الرأي السائد الآخر، أنا نفسي كنت أؤثر الصمت كلما اشتعلت الأزمات وعصفت بالأمة من حولي، فبالصمت السلامة، لكني وصلت لمرحلة لم أستطع معها الاستمرار بذات الصمت! وأنا اليوم أدعوا المسالمين الصامتين أمثالي أن يكفوا عن ذلك…

قولوا لا للعنف! لا لزراعة الكراهية!

نعم للسلام… نعم لزراعة الحُب!

قولوا نعم للعلم، للفن، للأدب، للثقافة، للتنمية، للبناء، للعلاقات الطيبة، للمعيشة الرغدة، للإنسان وحياته وحقوقه البشرية!

اقرأوا التاريخ ثانية ليس بغرض المتعة أو التغني بالأمجاد أو التحسر على الماضي، بل اقرؤوه قراءة نقدية محايدة غير متأثرة بأكاسيد الأفكار السائدة المترسبة في عقولكم، ليس كل سائد صحيح، وليس هناك معنى عالميا لكل رمز، إن أدركنا هذه الحقيقة فسنكون قد خطونا الخطوة الأولى في طريق إصلاح المفاهيم، فإن فعلنا ذلك سنجد بأن ما من أمة حققت مجدا بعنف، لم يحدث نماء وسعادة لأي شعب أثناء حرب، بجميع حروب العالم… الفائز والخاسر فيها لم يتقدم ويتحضر ويقوى ويحقق الرخاء والسعادة إلا بعد أن يتم السلام والاستقرار.

الأمر بغاية البساطة ولا يحتاج لشهادة في الفيزياء أو الفلسفة حتى ندرك بأنه إن كان معي ألف دولار فيمكنني أن أشتري بها صاروخ غراد… أو أوفر بها علاجا أو وجبات طعام أو خياما تكفي لمساعدة ألف شخص، الخيار الأول خيار العنف والثاني خيار السلام، فماذا سنختار؟

——————

شارك برأيك على تويتر من خلال الهاشتاغ:

#زراعة_الكراهية

منطقة مغلقة | שטח סגור | Closed Zone

عندما تريد أن تقدم عملا فنيا يتحدث عن قضية إنسانية مثل قضية حصار غزة فيمكنك أن تقدم عملا مثل هذا:


ارفعو الحصار (youtube)


سبع دقائق من الصياح والمناحة و”الطرارة” وصور المآسي والدمار والقتل والتدمير مما لا تعرضه أغلب المحطات المحترمة إلا ما بعد الساعة الثامنة حفاظا على مشاعر أطفالها!

أو يمكنك إنتاج دقيقة ونصف مثل هذه:




فما الفرق بين الإنتاجين؟

الفرق بسيط، العمل الأول منتج بـ”عاطفة” فياضة لا نشك بصدقها، ولكن هل يا ترى درس منتج هذا العمل تأثير الرسائل والرموز التي حواها؟ هل فكر بجمهوره المستهدف؟ هل فكر بتأثير هذه الرموز على الجمهور غير المستهدف؟ هل أخذ بالحسبان مسألة اللغة المستخدمة؟ أقصد هنا كلا اللغتين المنطوقة والمرئية، هل العمل موجه للعالم أم للعرب؟ هل المعنى هو -كما فهمته – هو إشعاري “بالخجل” من نفسي لأني -كما يفترض المنتج- خذلت غزة وتخليت عنها؟ ما هو “الأكشن” المتوقع مني كمشاهد أن أقوم به؟ أحزن؟ أبكي؟ ألطم؟! أو “أتعاطف”.

العمل الثاني، كما فهمته، هو عمل تبصيري، أي أنه وخلال ثوان قليلة يشرح للمشاهد بشكل مبسط رؤية المنتج للوضع القائم في غزة، عرض لنا مبدأ واحدا فقط وبشكل مركز… وهو مبدأ الحرية… حرية الحركة بالتحديد، عناصر العمل ورموزه وحتى عنوانه جميعها مترابطة ومركزة، أهم عنصرين بالعمل هما الطائر والشاب، وكلاهما يعبران عن نفس المبدأ المرموز له بوضوح لأي مشاهد، ولا أظن بأني بحاجة لشرح أكثر لأن أهم ما يميز العمل هو بساطته.

العمل الأول كما هو ظاهر من إنتاج شركة خاصة… فجزاهم الله خيرا، العمل الثاني من إنتاج جمعية غير ربحية تحمل اسم “مسلك: مركز للدفاع عن حريّة الحركة “، مدير الرسوم المتحركة العمل هو يوني جودمان… وهو نفس مدير الرسوم المتحركة لفيلم والتز مع بشير Waltz with Bashir الفلم الإسرائيلي الذي رشح للأوسكار عام 2009، إن كان الاسم يبدو مألوفا فربما لأنني تحدث عن الفلم في موضوع سابق.

زراعة الكراهية

أسكن هذه الأيام وخلال زيارتي القصيرة للكويت بأحد الفنادق الجديدة بالقرب من مدينة الكويت، مثل جميع الغرف الفندقية فإن التلفزيون فيها يحتوي على باقة مختارة من القنوات التلفزيونية… طبعا مختارة من قبل إدارة الفندق وليس مني، ومثل جميع زياراتي للفنادق فإن أول القنوات التي يتوجه لها الريموت كنترول هي قنوات الأطفال… حكم القوي على الضعيف 😛

قنوات الأطفال التي فرضت علي وعلى ابنتاي هذه المرة كانت قناتي كارتون نتورك وسبيس توونز، وهما -بشكل عام- -وبالنسبة لي- قد تكونان من أسوأ قنوات الأطفال تربويا! لن أدخل بتفاصيل بعض ما تعرضه هاتين القناتين من سموم فكرية فذلك يستدعي بوستات أخرى طويلة، ولكني سأركز على فقرة واحدة لم أستطع تمالك قريحتي عندما شاهدتها وسمعتها !

الفقرة كانت على قناة سبيس تونز والتي نصيبها أكبر من المشاهدة لأنها تعتبر أخف القناتين ضررا، لا داعي لوصف تفاصيل الفقرة.. فقد وجدتها على اليوتيوب وتشاهدونها هنا:

 

 

أولا ، إن كان هناك من الناس من لا يجد بأسا في ما تحمله كلمات هذه النشيدة من أفكار وقيم فلا ضير في ذلك، كل منا يحمل أفكارا خاصة به وهو حر بالاعتقاد بها وتوصيلها لأبنائه ، و”كل واحد حر بموزه” على قولة سمير غانم 🙂 ، لكن غير المقبول هو أن يكون هناك من يحاول أن يزرع تلك الأفكار بعقول الأطفال وكأنها من المسلمات المفروضة على الجميع!

قد تتساءل، ما هي تلك الأفكار؟ وما هي خطورتها؟

أولا ، لا أقبل أن تنتهك براءة أطفالي بمجرد كلمة “طلقة! تلو الطلقة!” فوجود تلك الكلمة بأغنية للأطفال هي بحد ذاتها جريمة!! فكيف إذا كانت كلمات الأغنية تصف كيف أن تلك “الطلقة” اخترقت “جسد” ذلك الطفل! وكيف إن كانت تتحدث عن “رحيل” جسد ذلك الطفل وبقاء “روحه” و”بكاء” أبيه عليه؟! هل تدرك عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة أن هذه النشيدة الموجهة للطفل تحدثه عن فكرة “الموت” و”التمزق” بالرصاص؟

ماذا بقي للطفل من براءة إن زرعنا مكانها صور الرصاص والجروح والدماء والدموع بهذا الشكل؟ كل الدراسات التربوية والإعلامية تؤكد بأن العنف ومشاهده وأفكاره هي من أخطر ما يمكن أن يتعرض له عقل الطفل، جميع القنوات التلفزيونية المحترمة تمتنع عن عرض أي مشاهد للعنف حتى فترة متأخرة من الليل حتى لا يشاهدها الأطفال، جميع الأعمال الكارتونية والدرامية والترفيهية الحديثة الموجة للطفل تبتعد قدر الإمكان عن أي مشاهد للعنف أو الموت أو الدماء أو الرصاص…. وحتى الأسلحة والمسدسات والبنادق فيها إن كان لا بد من استخدامها فإنها تستبدل بأسلحة خيالية كالليزر أو البلازما أو الطاقة أو غيرها، ونحن نصف لطفلنا بدقة متناهية كيف يمكن أن تخترق الطلقات جسده مثل الورقة!

العنف ما هو الا جزء من كوارث هذه النشيدة… الجزء الآخر -والأخطر- هو الجملة الختامية والتي تلعلع بها منشدتنا قائلة :

“كذب المحتل ولو صدق!”

يا سلام!!

لا أدري من أي عرف أو عقيدة أو دين تم استسقاء هذه الفكرة “الجهنمية”! إن كنت عدوي فكلامك كذب… مهما قلت… حتى لو قدمت لي الحجج والبراهين، حتى لو أريتني ما تحدثني عنه أمام عيني بآيات واضحة للعيان… فأنت كاذب! أولست عدوي؟ أولست أنت من تتحدى عقيدتي؟ أولست أنت من اعتديت علي وعلى إرث أجدادي؟

هممم.. ذكروني… أين سمعت بهذا المبدأ من قبل؟!!!!

ثم نقول “لماذا يكرهنا و يحاربنا العالم؟”

أرجع وأقول، إن كنت أنت مقتنعا بأن “لا بأس” بأفكار تلك النشيدة فلا مشكلة عندي… أنت حر ولن أعتبرك “كذابا” لأنك لا تتفق معي، ولكن ما أرفضه هو محاولة أن “تفرض” تلك الأفكار على أبنائي!

يعني الأخ في الفيديو التالي حر في ما يفعله بهذه الطفلة البريئة لأنها بالنهاية ابنته… كما يبدو:

 

 

لكن هذا لا يعني أنه يجب فرض نفس “البرمجة” على جميع أطفالنا، فنحن نسعى لجيل يفكر ويدرس ويحلل… لا لآلات نبرمجها على أفكار العنف والتقوقع والكراهية أو غيرها من الأفكار.. دون أخذ رأيها ودون أن حتى تدرك مالذي تتعلمه، لنتذكر أننا إن نحن زرعنا تلك الأفكار في رؤوسهم الصغيرة فلن نجني غير ما زرعنا، و الله يستر.