فلسطيني تحت الاحتلال العراقي: تاريخ العلاقات الكويتية الفلسطينية أثناء الغزو وبعده

الحديث عن العلاقة الكويتية-الفلسطينية بفترة الغزو العراقي وما بعدها من المواضيع الحساسة جدا والتي تتباين فيها الآراء وتتدخل فيها العواطف بشكل كبير. وحتى التناول الموضوعي لهذه القضية معرض لردود الفعل العاطفية ذاتها من كلا الطرفين، وذلك يدخل الموضوع بمجال قريب من التابوهات المحرمة التي يتجنبها من يسعى لتقديم وجهة النظر الموضوعية المنشودة، لكن لا بد من تسميك الجلد وتحمل ما سيأتي.

ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو قراءتي لكتاب أيام الغزو: يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت. قدمت مراجعة موضوعية للكتاب على موقع جود ريدز لمن أراد أن يأخذ فكرة عن الكتاب ومحتواه، لكنه باختصار (كما يوحي اسم الكتاب) هو مذكرات كتبها الكاتب والفنان الفلسطيني إسماعيل شموط خلال أيام الاحتلال الاحتلال العراقي للكويت والتي كان يعيش على أرضها خلال تلك الفترة. بالإضافة للجانب التوثيقي للكتاب فإن القارئ يمكنه أن يستشف بوحا عاطفيا من الكاتب يتعلق بهويته كفلسطيني على أرض الكويت المحتلة، ومن هذا البوح نستطيع أن نستخرج مجموعة من الأفكار هي أساس هذا المقال.

السؤال الكبير

بالبداية نتحدث عن المشكلة المختلف عليها، وهي باختصار سؤال: هل خان الفلسطينيون الكويت ووقفوا بصف المحتل العراقي ضدها؟ وهو سؤال تصعب الإجابة عليه بنعم أو لا، واستسهال الجواب مسألة أخلاقية يجب معالجتها بعمق.

من هم الفلسطينيون الذين نتحدث عنهم هنا؟ هل هي القيادات الفلسطينية؟ هل هم من كانوا خارج الكويت أم داخلها؟ هل هم من بقوا داخل الكويت أثناء الاحتلال أم من خرجوا منها؟ التعميم على مجمل ملايين الفلسطينيين بالطبع أمر لا يجوز، فعن من نتحدث هنا؟

موقف الخارج

الموقف الأشهر هو بالطبع موقف قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، فهي من المفترض أن تكون الممثل الرسمي للفلسطينيين والمتحدث باسمهم في ذلك الوقت. المنظمة، مثل الكثير من العرب، كانت في موقف حائر، فموقفها المعلن كان رافضا لغزو دولة عربية لدولة أخرى، لكن هذا الرفض كان يصحبه رفضا للتدخل الأجنبي الساعي لتحرير الكويت… وهذا ليس كل شيء!

من الحيل التي استند عليها المحتل العراقي كانت ربط احتلاله للكويت بالقضية الفلسطينية. إحدى الشروط التي تباناها وأصر عليها النظام العراقي لانسحابه من الكويت في فترات مختلفة من الغزو كانت ضرورة عقد مؤتمر لحل القضايا العربية، وأبرزها القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. ونعم، هي حيلة للمماطلة ولتعقيد وتبرير جرم الاحتلال وجذب استعطاف الشعوب العربية، وإلا ما العلاقة بين الأمرين؟ هل من الأخلاق أخذ الكويت كرهينة من أجل الضغط على العالم لحل قضية فلسطين؟ خاصة أن التبرير الأساسي لهذا الغزو كان ضم الكويت للعراق لكونها جزءا تاريخيا منه، فمنطقيا هل بالنهاية سيتخلى العراق عن جزء منه (حسب كلامه) من أجل فلسطين؟ أليس ذلك تناقض مع مبدأ الأمة العربية الواحدة التي كان النظام يدعي الإيمان فيها؟

ما يهمنا هنا هو الموقف الفلسطيني المتردد، فالحجة هنا هي أن عدم مساندة العراق تعني التخلي عن فرصة لحل القضية الفلسطينية، كما أن مساندة جهود تحرير الكويت تعني مساندة الوجود الأجنبي بالمنطقة، وتعني الوقوف بصف الولايات المتحدة… وهي الداعم الأكبر لإسرائيل. ذلك الوضع -ظاهريا- سبب للفلسطينيين ولكثير من العرب أزمة أخلاقية أضعفت من موقفهم تجاه دعم الكويت في أزمتها، من ذلك أتى الموقف المتردد ما بين الوقوف مع الكويت وما تعانيه من آثار الاحتلال وبين الحزم في السعي لتحريرها. ذلك يعني أنه لا بأس لدى أصحاب هذا الموقف من معاناة الكويت تحت الاحتلال مقابل الأمل بأن يخضع العالم للموقف العراقي ويتحرك لحل قضية الفلسطينيين. نضيف لذلك تحسر غالبية العرب، بما فيهم الكويتيين ذاتهم، على خسارة العرب للقوة العسكرية العراقية في حالة نشوب حرب لتحرير الكويت، ذلك الجيش “العظيم” الذي كان يؤول عليه أن يكون سندا للعرب وأداة لتحرير فلسطين إن نشبت حرب لتحريرها، جيش كان يقدر بما بين رابع إلى سادس أكبر جيش بالعالم معرض للدمار إن نشبت الحرب… وليست أي حرب، حرب بقيادة أمريكا! فأين نقف؟ مع العراق أم مع الكويت والتحالف المساند لها؟ أم بين البين إن كان ذلك ممكنا؟ بالنسبة للكويتيين، ولغالبية العالم الممثلة في موقف الجامعة العربية والأمم المتحدة، ليس هناك بين بين، وليس هناك مبرر أخلاقي ولا حتى منطقي للوقوف مع المحتل الذي بادر بمحض إرادته باحتلال دولة مجاورة وعاث فيها تخريبا وتنكيلا ثم جاء ليخلط الأمور ويقدم المبررات لاستمرار هذا الاحتلال.

ذلك الموقف الأخلاقي الذي نتحدث عنه هو موقف “ظاهري” كما أسلفنا، لكن واقعيا كلا من الموقفين الرسمي والشعبي لا يحتمل ذلك التبرير الأخلاقي، بل هو موقف داعم لذلك الاحتلال بشكل مفضوح مهما اصطبغ بالمبررات، ولذلك دلائل عديدة لا ينكرها إلا الجاهل بتاريخ ما حصل.

من فلم وثائقي (١٩٩٨)

رسميا، العديد من الأحزاب والحركات الفلسطينية كانت لها مصالح مباشرة مع النظام العراقي، فكان قادة تلك الحركات مستمرون بلقاءاتهم مع الرئيس العراقي وبتقديمهم لفروض الطاعة والتقدير له شخصيا ولموقفه، وكل ذلك كان موثقا ومرئيا أمام الأعين. وبالطبع فإن تلك الحركات كان لها المؤيدون من الشعوب، فهي ليست حركات صورية! ومن ذلك خرجت المظاهرات في الشوارع العربية والأجنبية تدعم شخص الرئيس العراقي وتحمل صوره وتدعوا له بالمجد والنصر. وشعبيا أيضا كانت تلك الجماهير شامتة بالكويتيين وكانت تسخر منهم وتضايق المنفيين منهم، وذلك أيضا موثق بالشهادات وأيضا لا ينكرها إلا جاهل أو متجاهل. فهل هناك ما يبرر تلك المواقف؟ هل رفض الوجود الأجنبي أو الحفاظ على الجيش العراقي يستدعي ذلك الموقف؟ تلك المواقف تحدث عنها شموط ذاته، ونقل على لسان بعض من قابلهم من الفلسطينيين بأنهم يأسفون على ما أصاب الكويت، لكنهم يرون أنه شر مبرر ولا بأس به في سبيل تحقيق “أهداف قومية ووطنية فلسطينية” كما كانوا يعتقدون (إسماعيل شموط، أيام الغزو، ص٣٣٤).

الموقف الرسمي للمنظمة رغم محاولات تغطيته بما ذكرناه من مبررات كان مفضوحا من جوانب أخرى. من المعلومات الخطيرة التي ذكرها إسماعيل شموط بكتابه هو لقاءه بشهر نوفمبر، بعد ثلاثة شهور من الغزو، بعزام الأحمد السفير الفلسطيني ببغداد الذي زاره في منزله، والذي أوضح له نيته من زيارة الكويت وهي افتتاح ملحقية للسفارة الفلسطينية في الكويت(ص٢٨٦)، أي أن السفارة الفلسطينية في بغداد ستكون “الأصل” والملحقية في الكويت هي “الفرع” لها! وذلك اعتراف رسمي من السلطة الرسمية الفلسطينية بكون الكويت منطقة تابعة للعراق! شخصيا لم أسمع بهذا الأمر سابقا، وذلك أمر مبرر لأن السلطة في ذلك الوقت كانت تنكر هذا الاعتراف، لكن مرة أخرى الحقائق التاريخية، كما فضحها شموط، لا يمكن إنكارها مهما حاول الساسة تغطيتها بأحاديثهم.

موقف الداخل

الموقف الأصعب والذي كان له الأثر الأكثر إيلاما هو موقف فلسطينيي الداخل الكويتي، والحديث فيه حساس للغاية. كانت الجالية الفلسطينيه في الكويت بفترة النصف الثاني من القرن العشرين وحتى تحرير الكويت حالة خاصة، تختلف عن حالة بقية الجاليات العربية والأجنبية فيها. نعم هناك المقولة الشهيرة بأن الفلسطينيين ساهموا ببناء الكويت الحديثة، والحديث ما يزال يدور إلى اليوم عن فضل الفلسطينيين على الكويتيين في كافة المجالات من التعليم إلى الطب إلى التجارة، وذلك أمر لا ينكر. بنفس الوقت، الفلسطينيين كذلك لا ينكرون فضل الكويت عليهم، فهي البلد الذي كان يستضيف مئات الآلاف منهم (يقدر العدد بـ٤٠٠ ألف فلسطيني كان في الكويت قبل الغزو) ممن استمروا بالتوافد إليها بعد أن سدت حتى أقرب الدول العربية لهم أبوابها، ومن خير الكويت كانت تلك العائلات تعين وتعيل مئات آلاف أخرى من الفلسطينيين في مختلف دول العالم.

هؤلاء الفلسطينيون كانوا ينقسمون إلى قسمين رئيسيين ركز عليهما إسماعيل شموط كلامه في الكثير من مواقف الكتاب: فهناك الفلسطينيون من حملة جوازات السفر الأردنية، وهؤلاء حالهم كان أيسر أثناء الغزو لتمتعهم بحرية أكبر عند مغادرتهم للكويت، وهناك الفلسطينيون من حملة وثائق السفر المصرية ممن يصعب عليهم حتى دخول مصر ذاتها التي أعطتهم تلك الوثائق بعد نزوحهم إليها بعد حرب ١٩٦٧. مثل كل من كان في الكويت أثناء الغزو عانى الفلسطينيون كثيرا بسبب توقف الحياة فيها وانقطاع دخلهم، ونتيجة لذلك خرج من الكويت من استطاع الخروج. من استطاع الخروج هنا نعني فيها حملة الجوازات الأردنية، بما في ذلك أبناء شموط. ويقدر شموط عدد من ترك الكويت من الفلسطينيين والأردنيين بحوالي ستين ألف عائلة وذلك خلال الشهرين الأولين من الغزو (٢٢١)، وهي أرقام تقديرية ولا بد أنها تزايدت لاحقا (يقدر عدد من غادر بـ٢٠٠ ألف فلسطيني). أغلب من تبقى من الفلسطينيين في الكويت كانوا من حملة وثائق السفر المصرية لصعوبة تنقلهم بتلك الوثائق، بالإضافة لمن لم يستطع الخروج لأسباب مادية أو غيرها، وهناك بالطبع البعض منهم من فضلوا البقاء في الكويت لأي أسباب أخرى، مثل شموط ذاته.

الكويتيون بالداخل كانوا على اطلاع على الموقف الفلسطيني، سواء من خلال ما يسمعونه من أخبار أو من خلال ما شهدوه بأعينهم. لمّح شموط بأكثر من موضع بكتابه بأن بعض الكويتيين كان لهم موقف عدائي تجاه فلسطينيي الداخل الكويتي، وآخرون على العكس، متعاطفون معهم، ومن المؤكد بأن لكل منهم أسبابهم. واحدة من أهم تلك الأسباب كانت التعاون مع المحتل بشكل مباشر أو غير مباشر. يذكر شموط بأن من تعاون بشكل مباشر مع المحتل أو ارتكب أعملا توصف بالخيانة لا يتجاوز “بضع مئات، أو قل ألفا أو ألفين” من أصل مئتي ألف فلسطيني كانوا لا يزالون في الكويت (ص٣٢٢)، وهي كلها أرقام تقديرية غير دقيقة، لكنها بالتأكيد أرقاما ليست بسيطة في تلك الظروف. يبرر شموط تلك الحالة بأنها أمر “طبيعي” في تلك الظروف، وأنها حالة بشرية عادية! تشمل أشكال الخيانة تلك التعاون المباشر مع المحتل عسكريا واستخباراتيا، بالإضافة للأعمال الإجرامية وأعمال استغلال الظروف للاستفادة المالية والتجارية.

فئة أخرى ثار حولها الجدل وتحدث عنها شموط هي من تجاهلوا مبدأ العصيان المدني. فأثناء الاحتلال كان هناك رفض من قبل الكويتيين للالتحاق بأعمالهم ومدارسهم، ما عدا بعض الوظائف الأساسية كمجالات الطب وخدمات الطاقة والاتصالات، والتي اشتغل الفلسطينيون فيها كذلك. لكن شموط يشير بكتابه إلى استغرابه من الفلسطينيين ممن قبلوا العمل في المدارس وألحقوا أبناءهم بها، وإن كان قد برر تصرفهم ذلك بلسانهم بأنهم كانوا بحاجة للمال، ولشغل أوقات فراغ أبناءهم!

كل ذلك والكويتيون يسمعون ويراقبون وإن كان ليس لهم حول ولا قوة للتصرف في حينها. كانت أخبار تلك الخيانات تتداول بينهم، بل وتزداد وتتضخم أثناء انتقالها، وأضف لذلك الأخبار والمواقف السياسية والشعبية المعروفة التي تحدثنا عنها مسبقا. كل ذلك أدى إلى ردة فعل كويتية غاضبة تجاه الموقف الفلسطيني (والعربي بشكل عام) من الغزو بشكل تعميمي! بعض ردود الأفعال تلك كانت متطرفة، كموقف “الصديق” الكويتي “حاد الطباع” الذي قابله بعد أربعة أشهر من الغزو، والذي -ككثير من الكويتيين برأيي- كفر بفكرة العروبة والقومية بسبب المواقف العربية من الغزو، والذي كان يؤمن بضرورة طرد كل من تعاون مع المحتل أو قام بخدمته بأي شكل من الأشكال وأن تكون الكويت للكويتيين بعيدا عن شعارات العروبة والقومية. حديث ذلك الصديق سبب خوفا من المستقبل لشموط، فراح على إثره يعدد تبريرات الفلسطينيين وأفاضلهم، تبريرات لنا أن نأخذ منها ونرد بعضها، ونتيجة لذلك الخوف نراه أيضا مهتز الشعور تجاه فكرة ربط الغزو بحل القضية الفلسطينية التي كان رافضا لها بالبداية! فأين يذهب الفلسطينيون إن طردوا من الكويت؟ فهم على خلاف الجنسيات الأخرى التي خرجت من الكويت لا وطن لهم ليعودوا إليه، وأغلبهم يصعب استقبالهم في أي مكان بسبب وثائق سفرهم، فماذا سيكون مصيرهم إن لم تحل قضيتهم؟ تلك الحالة الفلسطينية من الشتات ليست بجديدة، فبعد خروجهم من أرضهم بسبب الحروب المتتالية طردوا قبلا من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود عام ١٩٧٠، وبعضهم هجّروا من لبنان بعد اجتياح ١٩٨٢ (ومنهم شموط ذاته). لذلك خوف شموط من استمرار ذلك الشتات نجد له بعض التبرير.

الموقف الكويتي

من المؤكد بعد كل ما سبق بأن الموقف الكويتي من الفلسطينيين (والعرب عموما) لم يكن بلا مبرر، قد يكون متطرفا بالعداوة لدى بعض منهم، وقد يكون مبالغا بالتسامح وحسن النية لدى القلة من البعض الآخر. لكن بنظر الكل فإن موقف الفلسطينيين بكافة فئاتهم الرسمية والشعبية بشكل عام لم يكن كما كان مأمولا منه، كما رأيناه بالتاريخ الموثق. من ناحية يرى الكويتيون بأن استضافتهم لمئات آلاف للفلسطينيين عبر العقود الماضية وتوفيرهم لأمل بالحياة لهم ودعمهم المادي والمعنوي لقضيتهم طوال تلك السنين يجعلهم يستحقون موقفا أكثر حزما ودعما ووضوحا عندما احتاجوا له بأزمتهم، فكانت خيبة آمالهم كبيرة بعد ما شاهدوا من تخاذل وصل لحد الخيانة وتأييد المحتل، موقف لا يتناسب ولا يرقى لمستوى مواقف الكثير من الشعوب التي دعمت قضية الكويت بكل وضوح، كالشعوب الخليجية. ومن ناحية أخرى نرى حتى أكثر الفلسطينيين تعاطفا مع الكويتيين، كإسماعيل شموط، يجعلون لأنفسهم استحقاقا يتيح لهم حق الوجود في الكويت بحجة أنهم هم من عمّرها وأدارها قبل الغزو وأثنائه (ص٣٢٠) وذلك باسم العروبة والقومية، وبالتالي لا يستحقون ردة الفعل الكويتية تلك. ولا يلام هؤلاء ولا هؤلاء.

نعم، بعد التحرير مباشرة وفي ظل الفوضى حدثت أعمال انتقامية من بعض الكويتيين ضد بعض الفلسطينيين، قد لا تكون موثقة بوضوح، والعذر كان الانتقام من الخونة المعروفين ممن تعاونوا مع المحتل أو سببوا الأذى لغيرهم. لا يمكن لأحد تبرير تلك الأعمال الانتقامية الفوضوية، لكن يدعي البعض أنها لم تكن انتقاما من الفلسطينيين بشكل عام، بل من بعض من ثبت تعاونهم مع المحتل. هي أعمال متطرفة وحدثت وسط الفوضى كما قلنا، وكان يجب أن تتم وفق القانون وتحت أعين القضاء، وهي رغم أنها كانت انتقائية وليست عامة إلا أنها أثارت الرعب في الأوساط الفلسطينية وأدت إلى هجرة أغلبهم من الكويت بعد التحرير مباشرة. الموقف الكويتي الرسمي لاحقا منع عودة من غادر الكويت من الفلسطينيين بعد قطعٍ للعلاقات مع الدولة الفلسطينية استمر ما يقارب العشرين عاما.

الموقف الشعبي الكويتي من الفلسطينيين ومن ما أطلق عليه اسم “دول الضد” ظل متكهربا لسنين طويلة. في فترة ما بعد التحرير ألغى الكويتيون في المدارس صيحة “تحيا الأمة العربية” التي كانت تقال قبل تحية العلم كل صباح. هل هذا الموقف مبرر؟ هل يلام الكويتيون على ذلك بعد ما مروا به من أحداث وما شاهدوه من مواقف؟ لا يمكن لأحد أن يجيب على هذه التساؤلات، ولا يحق لأحد محاولة الإجابة ببساطة لأنها كانت ثقافة عامة جاءت كرد فعل على أحداث صعبة وبغاية التعقيد. لكن ذكرها ودراستها ومعرفة أسبابها أمر بغاية الأهمية حتى نفهم ما حصل.

عودة المياه

بالطبع مع مرور السنين تغيرت الأحوال، فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الضد عادت طبيعية. حتى الفلسطينيون أنفسهم اعترفوا لاحقا بخطأ موقفهم من الغزو رسميا وتصالحوا مع الحكومة الكويتية وأعادوا افتتاح سفارتهم في الكويت. يجدر القول كذلك أنه حتى شعبيا لم يتخل الكويتيون عن دعم القضية الفلسطينية حتى قبل عودة العلاقات الرسمية، ويتمثل ذلك بالتعاطف الإنساني وبالدعم المادي، واستمر هذا الدعم والتعاطف إلى يومنا هذا.

Palestine from Moayad Hassan on Vimeo.

والسؤال هنا، إن كانت القضية الفلسطينية هامة للكويتيين اليوم كما كانت منذ عقود من الزمن لم إذا استذكار الماضي واستحضار موقف طارئ تضررت فيه هذه العلاقة واضطربت؟ وهل تذكر الموقف الفلسطيني من الغزو العراقي للكويت يفيدنا بشيء سوى تأجيج الخلافات وزيادة الشقاق بين الشعوب؟

والجواب هو نعم، استذكار تلك المواقف أمر هام ومفيد. حفظ التاريخ وتوثيقه شيء لا غنى عنه، وإلا لكنا نعيش حياتنا بتخبط وسبهللة! أضف لذلك أنك إن لم تكتب تاريخك… سيكتبه غيرك لك! تناسي المشاكل وعودة الود أمر محمود ويتيح لنا العيش بهناء دون تعصب وشد قد يعرقل تركيزنا على ما هو أكبر وأهم بهذه الحياة، لكن التناسي لا يعني نسيان ذلك التاريخ ومحوه باسم العفو عما مضى. وحديثي عن فائدة التاريخ هنا مرتبط بفهمنا ونقدنا وتحليلنا لهذا التاريخ، لا السرد الانتقائي المباشر بغرض الاستحضار والاحتجاج. فعندما نتذكر تاريخ الموقف الفلسطيني من الغزو علينا أن نسأل أسئلة مثل لماذا حدث ما حدث؟ ما الدوافع التي حدت الفلسطينيين لاتخاذ هذا الموقف؟ وهل كل ما سمعناه وقرأناه في حينها أو فيما بعد كان صحيحا أم أن هناك روايات أخرى لم نسمعها؟ تلك بعض الأسئلة التي يجب أن تطرح، لا تذكر الماضي بغرض استحضار الأحقاد، ولا تجاهله نهائيا واعتبار أنه شيء انتهى ولا قيمة له اليوم.

نعم التعاطف مع قضية الإنسان الفلسطيني شيء محمود دائما، مثل التعاطف مع أي إنسان معرض للظلم والقهر، لكن التعاطف لا يعني تغليب العاطفة، فحتى التعاطف يجب أن يكون عقلانيا! بل إن أساس ما حدث بين الكويتيين والفلسطينيين من مشاكل وشقاق كان سببه الأساسي وغلطته الكبرى تغليب العواطف على العقل. الأمل الزائف بقدرة النظام العراقي على حل القضية الفلسطينية، مشاعر القومية العمياء وشعاراتها وإحساس الاستحقاق، الخوف من المصير المجهول لما بعد الحرب، كلها عواطف سيطرت على الفلسطينيين وبعض العرب ودفعتهم لاتخاذ موقفهم المهزوز. والعكس صحيح، مشاعر الضعف والمظلومية وقلة الحيلة والغضب الناتج عنها ولد لدى الكويتيين حقدا دفعهم للانتقام الجسدي والعاطفي تجاه من كان ضدهم في أزمتهم. لو تركنا تلك المشاعر تسيرنا لاستمرت معاناتنا للأبد، فكل تعبير عن تلك المشاعر من طرف سيصحبه ردة فعل مشابهة ومضادة من الآخر، ولن نستقر إلا بالتعقل والتفكر والنقاش… لا النسيان.

لا أحب مقولة أن العرب شعوب عاطفية، فكل البشر عاطفيين، لكن ربما ثقافتنا وأدبياتنا وتاريخنا اللغوي العربي عوامل تساعد على التعبير عن تلك العواطف بشكل أوضح من غيرنا، لذلك يبدو أن عندنا نوع من التطرف العاطفي الذي يدخلنا في طريق المشاكل والشقاق. من ناحية أخرى نضيف أن لدينا تخوف من فكرة عرض التاريخ، ناهيك عن دراسته بتعقل وموضوعية، فذلك التاريخ إن رُجع له فإنه يستخدم عادة كأداة لخدمة رأي أو سلطة أو جماعة، وبالتالي تُخشى إثارته من الأساس في وقت الرخاء لتجنب الاضطراب، وحيلة طمس التاريخ كثيرا ما تلجأ لها السلطات لذلك السبب. تلك كلها أسباب تجعلنا عرضة للانزلاق في مسار التطرف، وفي حالتنا هذه تطرف بالأحقاد أو تطرف بالنسيان. أسهل طريق نتخذه لتجنب الخلافات والمشاكل هو بتجاهلها ومحاولة طيها ونسيانها وعدم الحديث عنها، وهذا أمر لا يقل خطورة عن الحارة المقابلة من طريق التطرف، فذلك التجاهل ليس إلا قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أية لحظة.

لذلك لنتحدث، ولنتذكر، ولنناقش، ولندون ونكتب ومن ثم نقرأ، بذلك فقط سنصل إلى الثقافة العاقلة التي تتعلم من التاريخ وتستفيد منه، وبذلك سنتجنب الأخطاء ونتفادى المشاكل وتصبح لدينا القدرة على أن نبني مواقف وقررات مدروسة تنفعنا وتنفع البشر.

كروموزوم: وهم التفرقة الجنسية

نعم أنا رجل، أنتمي لها الجنس ذو الخلايا المحتوية على الكروموزوم XY، والعبرة هنا ليست بالكروموزوم… بل هي بمجتمعات ترى أن هذا الجزيء الميكروسكوبي يمنح حامله قوى ومزايا خارقة لا تتوفر لمن يفتقده.

الجينات تتحكم بالكثير من الصفات البيولوجية للكائنات العضوية كحجمها ولونها وصحتها وجنسها، وهذا أمر طبيعي، لكن لدى البشر بالذات الأمر يتجاوز البيولوجيا. واحدة من أهم الصفات الجينية التي أعطيناها حجما وتقديرا هائلا هي كروموزوم الجنس، فبناء على هذا الكروموزوم توزع أدوار حامليه بالمجتمع، تسن لأجله القوانين، ترفع شؤون وتخفض أخرى، تبنى المباني، تسن الاقتصادات، تشن الحروب، وتكتب القصص والملاحم والأشعار، كل ذلك بسبب التركيب الكيميائي لحيوان منوي دخل بويضة ابتدأت به حياة إنسان.

هل يمكنك أن تتخيل قانونا يميز بين الناس حسب لون بشرتهم؟ أمر عظيم أليس كذلك! هل تتخيل معاملة خاصة يتلقاها الناس حسب أطوالهم؟ أمر سخيف! هل تقبل أن يصنف الناس عند دخولهم لمؤسسة ما حسب حجم أنوفهم؟ يا ساتر! نعم قد تكون هنالك واقعيا تفرقة اجتماعية بين الناس حسب تلك الصفات الجينية، لكنها تبقى تفرقة مخفية إن صح التعبير، تفرقة مذمومة وغير مقبولة… خاصة في عصرنا هذا، لكن الأمر يختلف تماما عند الحديث عن صفة جينية أخرى… وهي صفة الجنس! عندها يصبح التصنيف عاديا ومقبولا وترعاه كل الدول والأنظمة… بعضها أكثر من بعض بالتأكيد.

وليس الذكر كالأنثى

نعم ليس الذكر كالأنثى، كما أن ليس الأبيض كالأسمر وليس الطويل كالقصير، ولكن ما هو أساس هذا الاختلاف؟ هل هو بسبب اختلاف تركيب جهاز من أجهزة الجسم أو اختلاف بالشكل؟ هل ذلك سبب كاف لنفرق بالمعاملة والتقدير بين إنسان وإنسان؟

المسألة أعقد من ذلك، فهي متعلقة بتاريخ بشري يمتد لعشرات آلاف السنين، تراكمت خلال هذا التاريخ قيم ومفاهيم متوارثة سارت عليها أجيال تلو أجيال إما تعزيزا أو تعديلا، حتى وصلنا لزمننا هذا. ربما قد خرج الرجل للصيد وجلست المرأة في كهفها، وربما خرج الرجل للحروب واحتمت المرأة في مدينتها أو قريتها، وربما خرج الرجل للحقل أو المصنع وآثرت المرأة رعاية أبنائها. تاريخيا هذا ما كان عليه توزيع الأدوار في بعض المجتمعات في أزمنة مضت، ونقول بأنها بعض المجتمعات لأن تلك الأدوار ليست فعلا فطرة يسير عليها كل البشر بشكل متساو، ففي بعض المجتمعات المرأة هي من يخرج للعمل في الحقل، وفي أخرى المرأة هي من حكمت، أو هي من يدفع المهر لزوجها، أو هي من يستتر الرجل منها! لو كان الأمر فطريا، أو لو كان يعود لاختلاف جيني وفيزيولوجي لما رأينا هذه الاختلافات بين البشر. كل إنسان يجوع يأكل، وكل من يفرح يضحك، وكل من يخاف يهرب، تلك أمثلة على ما يمكن أن نطلق عليه اسم الفطرة البشرية، لكن طريقة توزيع الأدوار بالمجتمع ليست فطرة وإلا لما وجدنا هذا التنوع فيها بين المجتمعات المختلفة وبين زمن وآخر، بل هي اتفاقات اجتماعية تختلف بين الناس، أي أنها ما نطلق عليه اسم رموز اصطلاحية تأخذ معناها من اتفاق الناس على هذا المعنى. ولو سلمنا أنها فطرة فإن ذلك سيلقينا بمنحدر أخلاقي خطير كما سنفصل لاحقا.

ما دمنا نتكلم عن الأدوار الاجتماعية البشرية على مر التاريخ فإننا سنرى أن ليس كل ما كان شائعا في أزمنة سابقة ظل مقبولا ومستمرا في أزمنة لحقتها. في أزمنة سابقة مثلا كان الرق مقبولا وعاديا، كان التقسيم الطبقي نظاما اقتصاديا مسلما به، حتى التفرقة العنصرية حسب اللون أو العرق ليست أمرا يخجل منه، وكل تلك الأمور بالنهاية عبارة عن جينات بشكل أو بآخر. فالأستقراطي متميز عن غيره بسبب جيناته، والعبد عبد لأنه يحمل جينات أسلافه العبيد، وذا اللون أو العرق المميز كسب هذا اللون أو انحدر من هذا العرق بسبب جيناته. لكن مع تطور المجتمعات بدأنا ننبذ تلك الأشكال من التفرقة الجينية تدريجيا، وذلك أمر لم يأت من فراغ، بل تم بعد صراع دام ومرير وبعد ثورات عدة… مادية كانت أم ثقافية.

المادة والاجتماع

قبل عقود قليلة كانت هناك دراسات “علمية” حاول بعض العلماء من خلالها إثبات أن بعض الأعراق لها تركيبة عقلية أو جسمانية تجعل لها قدرات أكثر أو أقل من غيرها من الأعراق، فهؤلاء الناس قد يكونون أقل ذكاء، أو أكثر قوة، أو أقدر على إطاعة الأوامر أو الالتزام بالقانون على سبيل المثال. لكن جميع تلك الدراسات لم تكن سوى كلام فارغ، وثبت بطلانها وخبث نوايا القائمين عليها سريعا.

ورغم ذلك قد نجد أنه على أرض الواقع بالفعل هناك بعض الشعوب تعيش بجهل مثلا، أو تنتشر في مجتمعاتها الفوضى، وأخرى متقدمة ولها سمعة بأنها شعوب عبقرية أو شعوب تعيش بعدالة ونظام، فهل السبب في ذلك هو جيناتها؟

ربما على أقل تقدير ستتردد قبل الإجابة على ذلك السؤال، لكن لو سألنا هذا السؤال قبل ١٠٠ عام أو أكثر لما تردد أكثر الناس بالإجابة بنعم! لأنهم كانوا مقتنعين قناعة تامة بأن هؤلاء الناس يعيشون بهذه الحالة لأنهم شعوب غبية أو ضعيفة أو فوضوية وتلك شعوب ذكية أو قوية أو محترمة… جينيا!

نحن نعلم اليوم بكل يقين أن أحوال الشعوب تتغير… وبسرعة… كلما تغيرت ظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والأدلة على ذلك كثيرة. فقد شاهدنا، أثناء حياتنا، كيف انقلب حال بعض المجتمعات من الفقر والجهل والدمار والتخلف لتصبح لاحقا من الدول الرائدة بالقوة الاقتصادية والاستقرار السياسي والعدالة الاجتماعية، هل كان ذلك سيحدث لو كانت جيناتهم لا تسمح بذلك؟

الجينات ليس لها علاقة بقدرة المجتمعات على التطور، فقط وفر فرص التطور لأي مجتمع وابن ركائز التقدم فيه وثقفه وعلمه وأعطه حرية اختيار طريقه ومصيره… وسيتقدم ويتطور ويصبح من أفضل الشعوب! اظلمه واضطهده وقيده واسرقه وجههله وسيسقط في غياهب التخلف! هذا هو الواقع كما نراه بأعيننا وكما نلاحظه بأساليب الدراسات العلمية الأكاديمية الحديثة.

ناقصات العقل

ما ذكرناه بالفقرة السابقة عن جينات الشعوب ينطبق تماما على مسألة التفرقة الجنسية. مالخصائص التي تمتاز بها المرأة أو يمتاز بها الرجل حتى نجعل تعاملنا الاجتماعي مختلف عند التعامل مع كل منهما؟ هل المرأة -على الإطلاق- أضعف أم أغبى أم أكثر كسلا أو فوضوية من الرجل؟ أو العكس؟ إن قلت نعم اذكر الدليل العلمي القاطع… تفضل… سأنتظر!

واقعيا وبرؤيا العين، إن أخذنا أي مجال من مجالات الحياة سنجد أن قدرات الإنسان الحامل للجينات الأنثوية لا تقل عن قدرات الحامل للجينات الذكرية، هي فقط مسألة فرص وظروف. أي أنه، كما هو الحال في مسألة الشعوب التي ذكرناها أعلاه، فقط وفر الفرص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمرأة وستعطيك نفس نتائج الرجل. لكن بسبب الموروث الثقافي التاريخي الذي أقنعنا أنفسنا به فإننا نرفض هذه المساواة… وبالتالي ارتضينا بمزاجنا فكرة اختلاف المكانة والأدوار، حتى وإن نتج عن ذلك ظلم أو قهر. ربما بأزمنة مضت كانت الشعوب منغلقة على بعضها ولا تعرف سوى الحياة الاجتماعية التي اعتادت عليها، وبالتالي كانت مقتنعة مثلا أن الرجل أقوى جسمانيا من المرأة، أو أن المرأة أكثر عطفا وحنانا من الرجل، لكن اليوم وبعد الانفتاح والتواصل انكشفت الكثير من هذه الخرافات وغيرها، وأصبح لدينا أمثلة لا تحصى تخالف تلك الاعتقادات، إنكارها ليس إلا هروب من الحقيقة.

حجج رافضي المساواة بين البشر بسبب اختلافاتهم الجينية واحدة، وهي حجج واهية وغير منطقية. عندما تقول بأن المرأة ضعيفة أو حساسة أو عاطفية فكلامك لا يقل بمغالطاته المنطقية عن قولك بأن هذا الشعب غبي أو متخلف! فهي على سبيل المثال إن كانت ضعيفة بمجتمع ما فذلك لأنك لم تمنحها فرص بناء القوة، وإن قلت أنها عاطفية فذلك لأنك ربيتها وأنشأتها بظروف أجبرتها على هذا الأمر… واضهدتها وقمعتها وتنمرت عليها إن أبدت غير ذلك! والعكس صحيح، إن قلت مثلا أن الرجل عقلاني غير عاطفي فذلك لأنه نشأ بمجتمع كبح مشاعره وأحاسيسه وأجبره على أن لا يظهر تلك العواطف حتى اعتاد على الأمر. بمعنى آخر… هي ليست “فطرة” يختص بها جين عن آخر، هي فقط فكرة اقتنعنا بها وفرضناها فرضا على أنفسنا، فلو كانت فطرة طبيعية لكان من المستحيل أن نرى امرأة متميزة بمجال ذكوري، ولا رجلا متميزا بمجال قد نعتبره أنثويا. هيئ الفرص المتساوية للجميع وسترى النتائج متساوية، لكن هذا التساوي بالفرص، في زمننا هذا وبمجتمعاتنا على الأخص، غير جاهز، وسنحتاج للكثير من الصراع والنضال والنقاش والدراسة لنزيل هذا الفرق، وقبل هذا كله… سنحتاج لأن نقر ونعترف بوهم تلك الفروقات التي قسمنا الفرص على أساسها.

غدة نسيت اسمها

لكن اختلاف كروموزومات الجنس أثرها مختلف عن جينات اللون والعرق، فالبناء الفزيولوجي للمرأة مختلف، وغددها وهرموناتها تؤثر عليها، كما أنها تحيض وتحمل وتلد، فمسألة الفروقات هنا أمر مختلف عن الاختلاف باللون أو العرق. تلك قد تكون أبرز حجج المؤمنين بالفرق بين الرجل والمرأة، ونعم هي حجج صحيحة… ظاهريا على الأقل.

لا ننكر وجود اختلافات عضوية سببها اختلاف جينات الجنس على الإنسان، ولا أي جينات أخرى، ولا ننكر تأثير الهرمونات وغيرها لحد ما على تصرفات الإنسان ومشاعره. لكن حديثنا هنا ليس عن الاختلافات المادية، بل عن الطريقة التي نتعامل بها مع هذه الاختلافات من الناحية الاجتماعية.

هناك اختلافات مادية واضحة مثلا بين الإنسان الطويل والإنسان القصير، يمكننا رؤية تلك الاختلافات بأعيننا ويمكننا قياسها، لكن الحديث هنا ليس عن وجود هذا الاختلاف بالطول بل بكيفية نظرتنا وتعاملنا معه. وجود الاختلاف بين البشر أمر طبيعي، ولا أحد يدعو لإنكاره، لكن مرة أخرى الحديث هنا عن تعاملنا الاجتماعي مع هذا الاختلاف. حديثنا هنا عن الصورة الذهنية المعممة على الإنسان بسبب صفاته الجينية، وليس عن الصفات الجينية نفسها. بمسألة الطول مثلا نجد على سبيل المثال أن الشخص الطويل جدا أو القصير جدا تصعب عليه قيادة بعض السيارات، والمشكلة هنا ليست بطول الأنسان، بل بتصميم السيارة نفسها! لماذا تصمم السيارة لأطوال معينة؟ بسبب تعاملنا الاجتماعي مع المسألة… المشكلة ليست بطول الإنسان… بل بتصميم السيارة، والتصميم أمر اجتماعي، نحن كمجتمع من صممنا السيارة بشكل حرم بعض البشر من استخدامها أو صعب قيادتها عليهم، ونفس الأمر ينطبق مع تعاملنا مع الإنسان ذو الصفات الأنثوية أو الذكرية. كل إنسان هو إنسان كامل وبأحسن تقويم ويقدر على القيام بكل الواجبات، وبالطبع يجب أن تتوفر له كل الحقوق، لكن تصميمنا الاجتماعي للواجبات والحقوق هو الشيء غير الكامل وهو ما يحتاج لتقويم.

من ناحية أخرى، وبمناسبة الحديث عن الغدد والهرمونات، الإنسان المولود بصفات ذكرية وبناء عليها تم تسجيله بشهادة ميلاده كذكر، فزيلوجيا وطبيا، قد يتغير لاحقا! جميع البشر لديهم نسب مختلفة من هرمونات التستوستيرون والأستروجين، هرمونات الجنس إن صحت التسمية، نسبة إنتاج تلك الهرمونات تختلف من إنسان لإنسان، بغض النظر عن المسمى المكتوب بشهادة ميلاده. وتلك الهرمونات تؤثر على مزاج الإنسان وعواطفه وتصرفاته وحتى بنائه الجسدي الذي بالغنا كثيرا بتقديره والتفكير فيه. أي إنسان بسبب دواء أو غذاء معين يمكن أن يتغير تركيبه الهرموني، بل إن الأمر قد يتم بشكل طبيعي جدا مع التقدم بالعمر، فهل يحق لنا أن نغير تعاملنا ونزيد أو ننقص حقوق وواجبات الإنسان إن حدث هذا التغير؟

الكروموزوم XY نفسه الذي تحدثنا عنه بالبداية والذي بناء عليه ينشأ جسم الإنسان بأعضاء ذكرية قد يختفي من جسم الذكر مع تقدم العمر، أو حتى بسبب التدخين! هناك بشر يولدون بمظاهر ذكورية كاملة، لكنهم يحملون كروموزوم X إضافي، وذلك ما يطلق عليه اسم متلازمة كلينفيلتر، وهي واحدة من العديد من المتلازمات الشائعة التي تؤثر على جنس الإنسان. بمعنى آخر… ليس كل رجل رجلا ولا كل أنثى أنثى فزيلوجيا وهرمونيا… إن كنا سنأخذ بحجة الأعضاء والغدد.

فكيف نتعامل مع كل ذلك… اجتماعيا وقانونيا! وكيف سنستمر بالتفرقة الجنسية بين البشر حسب أعضائهم وهرموناتهم إن علمنا بهذه المساحة الرمادية، حسب أعرافنا الاجتماعية في هذا الزمن كل ذلك قد تم تجاهله، فهل الكلمة المكتوبة بخانة الجنس بشهادة الميلاد أهم من ذلك كله؟!

المرأة تحيض وتلد، طيب، لكن ما علاقة ذلك بطريقة تعاملنا معها كإنسان؟ من الذي قال أن الولادة معناها وجود سبب كاف لأن تمنع المرأة من عمل أو نشاط معين، أو تأخذ أجرا مختلفا، أو تسلب حقا متوفرا لمن لا يحيض ويحمل ويلد؟ وهذا هو بيت القصيد من هذا المقال الطويل.

ما وجدنا عليه آباءنا

السؤال الأخير المطروح هو لماذا؟ لماذا علينا نغير ما تربينا ونشأنا عليه وسجله التاريخ لقرون طوال؟ عشنا كما عاش أسلافنا على أن للمرأة دور معين تفرضه عليها خصائصها وللرجل دور آخر، كما كان الحال أيام العيش بالكهوف، ماذا تغير اليوم حتى نحتاج لنتغير؟ ومن هو المسؤول عن دوام هذه الحالة بالذات من التفرقة الجينية؟ من المستفيد منه؟ ومن المتضرر؟ وما هو هذا الضرر؟ ما خطورة هذه التفرقة الجينية الاجتماعية المفتعلة على حياة البشر… على أرض الواقع؟

لكل منا إجابات على تلك الأسئلة، إجاباتي سأذكرها بمقالات أخرى لأن الحديث بها سيطول.

ثقافة المغازَل بالمجتمع الكويتي

“المغازل” له تاريخ طويل بالثقافة الكويتية، كحاله في كل المجتمعات بكل العالم، لكن بالطبع كل مجتمع له ظروفه الاجتماعية والثقافية التي تميزه، لذلك سأحاول بهذا المقال أن أقدم قراءة لثقافة المغازل بهذا المجتمع الكويتي.

بعصرنا الحالي ومع الانفتاح على العالم وزيادة الوعي نرى أن ما نطلق عليه اسم “المغازل” هو فكرة معقدة ولهاالكثير من التشعبات. على سبيل المثال من الكلمات المتداولة هذه الأيام هي كلمتي “التحرش” و”الإطراء”، لكي نضع الأمور بالسياق فإن هاتين الكلمتين لم تكونا معروفتين أساسا بالمجتمع الكويتي قبل ١٥ أو ٢٠ سنة، كل ماكنا نعرفه هو فعل المغازل، ومعناه -بالغالب- أن يقوم الشاب بمحاولة جذب انتباه الفتاة بغرض التعرف عليها أوالتقرب منها، وذلك هو التعريف الذي اعتمدته في هذا المقال، أما تفصيلاته الحديثة، رغم أهميتها العظمى، فلن أتناولها هنا لأنها تحتاج إلى دراسة مستقلة لكي تأخذ حقها.

كلمة المغازل كانت شائعة، لكن هل الفعل كان منتشرا؟ وهل كان مقبولا؟ 

منتشر نعم، وأي محاولة لتصوير المغازل بأنه فعل دخيل أو مستجد هو كلام فارغ! موجود منذ أيام “الطيبين” ولغاية اليوم ولم يختف أو يتلاشى بأي فترة كانت. تاريخنا الأدبي والشعري والغنائي مليء بقصص الفتاة التي شاهدها البطل بالسوق تجر العباءة وانفتن بعينها أو زولها أو ردفها أو… فناداها وصدته وألح عليها وزجرته وتقرب منها فلا أدري ماذا حدث بعد ذلك… وبالطبع جميع هذه القصص والأشعار كتبها ذكور، وجميعها -كما يريد خيال المؤلف- انتهت بانتصار البطل… أو حسرته وعذابه!

طيب هل كان المغازل مقبولا؟ هذا السؤال صعب. بشكل عام يعتمد على من هم أطراف عملية المغازل. لندع الجانب الديني جانبا هنا، لكن بشكل عام يمكننا أن نقول بأن المغازل كان… ولا زال… “مطلوبا” من الشاب… وليس فقط مقبولا! الشباب فيما بينهم يشجعون بعضهم بعضا على التجرؤ على محادثة البنات، والشاب الذي لا يسعى لذلك ينظر له على أن فيه نقص ما… على عكس الشاب الجريء الشجاع المقطع السمكة وذيلها والذي يكون محل إعجاب وتقدير وحسد من رفقائه.  والأمر لا يقتصر على الرفقاء الشباب… بل نجد حتى الأهل… وحتى الأم قد يصل بها الأمر لأن تشعر بالفخر بابنها إن علمت بأنه “يكلم” بنات، سواء كان ذلك الفخر ظاهرا أم خفيا، كذلك أخواته وقريباته على أقل تقدير لا يمانعون كون قريبهم يكلم بناتا أو يغازل أو له مغامرات مع الجنس الآخر.

الأمر من الجانب الآخر مختلف طبعا، البنت من المستحيل أن يكون قبولها لتودد الشباب أمرا مقبولا! ربما يقبل من بعض رفيقاتها… لكن بالطبع نفس الأم التي قد تشجع ابنها على المغازل سيكون مصير ابنتها داميا إن علمت أنها طرف في عملية المغازل! كذلك من الأمور التي قد لا يتقبلها المجتمع هي أن يقوم الشاب بمغازلة ما يطلق عليهاسم “بنات الحمايل”. فالبنات نوعان؛ بنات متاحات للمغازل… وبنات حمايل لا يجوز الاقتراب منهن. طبعا تعريف “الحمايل” تعريف مطاط حسب ثقافة من تسأله عن ذلك التعريف. بين الشباب وبعضهم لا فرق بين بنت حمايل وغيرها… بالعكس كل ما زادت “حمولة” البنت قد يكون ذلك انتصارا أكبر للشاب بين رفاقه، طالما أن تلك البنت ليست من أقارب أحد الشباب أو شيء من هذا القبيل.

من ذلك نلاحظ تناقضا  واضحا وصريحا بمسألة تقبل المغازل أو رفضه، وفي خضم هذا التناقض تحدث الفوضى. 

المغازل لم يختف منذ زمن “الطيبين” إلى وقتنا الحالي، لكنه تطور وتبدلت بعض أساليبه. السوق كان ولازال مقصد المغازلين، كذلك الشارع، الكافيه، المدرسة وقت الهدة، الجامعة، مقر العمل… وغيرها من الأماكن التقليدية. مع ظهور ثورة الاتصالات انتقل الأمر كذلك إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. لا توجد وسيلة تواصل اجتماعي لم تُسخّر للمغازل، سواء التقليدية منها كالسناب شات وتويتر، وقبلها الآي آر سي والمنتديات… وحتى الوسائل غير التقليدية كلنكد إن! حتى لو كان هناك مجال لاستخدام طلبات وديليفرو للمغازل لما أعتقوه الشباب!

من الملاحظات التي قد تحتاج دراسة أعمق هو أن مغازل الشوارع قد خف نوعا ما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. الانفتاح الذي وفره الإنترنت سهل عملية التواصل بين الجنسين، فهو قلل من أهمية وخطورة الاتصال المباشر ومناورات “أخذ الرقم” والملاحقة والمحاورة والمصارعة. سهل الأمر على الطرفين لكي نكون صادقين، فأعطى حتى البنت مجالا أأمن للتعرف على الشاب والسيطرة النسبية على مجريات الأمور. بالطبع هذا لا يعني أن مغازل الأونلاين أفضل ولا أكثر قبولا من المغازل التقليدي، فهو ولّد نوعا آخر من المشاكل والمضايقات إن نظرنا له بتمعن، وذلك أمر يحتاج لدراسات أخرى، لكن القصد هو أن طرق المغازل تنوعت كما قلنا… وخفف مغازل الأونلاين ضغوطات “الأوفلاين” بشكل ما إن صح التعبير… إلى أن حدثت الجائحة!

تأثيرات جائحة ٢٠٢٠ الاجتماعية والثقافية مازالت في مهدها ورصدها ودراستها ستستغرق سنين طويلة، بالنسبة لموضوعنا فبعض تلك الآثار واضحة جلية.

مثل الكثير من الظواهر فإن مغازل الشوارع اختفى لفترة ما بسبب حالة الحظر وبسبب التباعد الاجتماعي، وبقي المغازل أونلاين بشكل حصري وربما بشكل أكثر تركيزا وعنفا في ظل جو الملل وتوقف النشاط الطبيعي من حركة أو دراسة أو ملهيات خارجية. تأثير تلك الفترة وما بعدها على نفسية الشباب والبنات وانعكاسها على تصرفاتهم وسلوكياتهم وروتينهم وطريقة تفكيرهم وحتى “هرموناتهم” ليست بأمر طبيعي، ولا أدعي بأني أستطيع تحليلها وتفسيرها هنا، لكن ما نراه اليوم من ظواهر اجتماعية وثقافية عجيبة هي بالتأكيد متأثرة بتلك الفترة بشكل ما… مع التأكيد بأن ذلك لا يعني أن نعلق كل شيء على شماعة الجائحة… كما كنا نعلقها بشماعة الغزو!

ما نشاهد ونسمع ونقرأ اليوم من انفجار لقنبلة التمرد الأخلاقي بالعلاقة بين الجنسين هو أمر له تاريخ طويل متراكم، ليس أمرا جديدا على الإطلاق كما أوضحنا، لكن الحديث الدائر عنه في هذا الوقت بالذات لم يأت من فراغ. ونعم، شيء مشابه له حدث سابقا بفترة ما بعد الغزو، قد يتذكر البعض حالة شارع سالم المبارك بالسالمية وتخصيص مركز سلطان الدخول للعائلات والحملات الدينية المناهضة للوضع في ذلك الوقت… هناك جيل معين سيتذكر ذلك، وما نراه اليوم بفترة ما بعد الحظر قد يكون شيئا يقترب منه من حيث المبدأ، وإن كان أكثر عنفا في بعض الحالات لأسباب وظروف معاصرة أخرى، أي هي فترة انفلات تلحق فترة من الكتم والتقييد الشديدين.

المغازل ومحاولات التقارب بين الجنسين بكافة أشكالها هي أمر طبيعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، أي أنها لا يمكن أن “تختفي” أو تتلاشى، لا يمكن محاربتها والوقوف بوجهها ووضع حد لها. ما يتغير هو طريقة وأسلوب هذا المغازل، أدواته، أهدافه، وبالطبع طريقة وحِدة الكلام عنه. الكلام عن المغازل في فترات ما كان فخرا، في فترات كان عيبا، في فترات أخرى كان وعظا، لكن اليوم… أيضا بسبب الانفتاح على العالم… يمكن أن يكون الكلام عنه وعيا كذلك.

المغازل موجود عالميا بكل المجتمعات كما ذكرنا، والحديث عنه متأثر ببعض الظروف التي قد تتشابه، أبرزها سيطرة السلطة الذكورية. تلك السلطة دائما ما تحاول أن تدفع بميزان القوى ناحية الرجل، فتبرر له وتدعم مواقفه وتحميه وتلقي اللوم على غيره  بقدر ما تستطيع، نتيجة لذلك ودليل عليه هي حالة التناقض بقبول المغازل بالمجتمع الكويتي التي تحدثنا عنها أعلاه، ونتيجة لذلك أيضا يحدث أن يحاول الرجل (أو أي صاحب سلطة) أن يفلت من اللوم إن تجاوزت تصرفاته الحدود المقبولة. مجابهة السلطة، أيا كانت، أمر صعب ويحتاج للكثير من الجرأة، وهذاما حدث بحملة “مي تو” التي انطلقت في أمريكا قبل عدة سنين والتي بدأت فيها النساء -بالغالب- الحديث عن مسألة العلاقات بين الجنسين بشكل مختلف وجريء بمحاولة لنشر الوعي حول هذه العلاقة، قد يكون ذلك التجديد هو أيضا من المتغيرات التي ساهمت بتغيير نظرتنا نحن كذلك لمسألة المغازل وشجعتنا على مناقشة هذه المسألة الحساسة هذه الأيام، وذلك أمر إيجابي مهما كانت وجهات النظر المطروحة… فالنقاش العقلاني وتجاوز مسألة “العيب” هو أمر ممتاز ويساهم باستقرار المجتمع على المدى البعيد.

الموضوع يستحق المزيد من النقاش، والمزيد من الجرأة بالطرح، رغم ثقله وحساسيته، كما يستحق المزيد من التحليل العلمي الأكاديمي، كل ذلك من أجل أن نحطم أكبر قدر من التراكمات التاريخية السلبية ونقدم صورة أوضح وأصدق لمختلف أجيال هذا المجتمع عن حقيقة المغازل بعيدا عن الخرافات المتوارثة… فتكلموا وتابعوا الحديث.

ذا فورس: توازن النور والظلام بعالم حرب النجوم

إذا سألنا ما هو أفضل، الخير أم الشر؟

بالتأكيد الأغلبية الساحقة ستجيب ببساطة: الخير!

لكن هل فعلا الموضوع بهذه البساطة؟ إن كان الأمر كذلك لماذا إذا ليس جميع الناس “أخيارا”؟

هناك الكثير من النظريات الفلسفية عن هذا الموضوع، وتناولته عدد لا يحصى من القصص والروايات والملاحم، واحدة منها هي نظرية حرب النجوم، فما هي هذه النظرية؟

أساس النظرية هي فكرة القوة، أو ذا فورس The Force، وهي نوع من الطاقة اللامرئية التي تربط أجزاء الكون ببعضها.

في أغلب القصص والفلسفات والعقائد نجد أن هدف الإنسان يجب أن يكون انتصار الخير على الشر، لكن في عالم ستاروورز الهدف ليس بهذه البساطة، فالهدف هو اتزان الفورس.

تنقسم الفورس إلى قسمين:

النور the light side، ممثلا بالجيداي، تقليديا أصحاب السيوف الزرقاء.

الظلام the dark side، ممثلا بالسيث، أصحاب السيوف الحمراء… تقليديا.

كل قسم منهم في حرب دائمة مع الآخر، بل داخل كل شخص وكل شيء تظل هذه الحرب مستمرة، فالمسألة ليست أن أصحاب السيوف الزرقاء طيبون وأصحاب الحمراء أشرار! ذلك تبسيط قد يكون مقبولا من طفل مثلا، لكنها تسخيف للفكرة العميقة للنظرية.

لا يمكن أن ينتصر طرف من أطراف هذه الحرب على الآخر بشكل مطلق، لأن ذلك سيتسبب بخلل في توازن الفورس! لذلك نجد هذه الحرب المستمرة بين النور والظلام متمثلة بالحرب الدائرة بين قوى الجمهورية والإمبراطورية (بصورهم المختلفة)، كما نجدها متمثلة بالصراع النفسي الدائر داخل عقل وروح الأشخاص ذاتهم. فالحرب (العسكرية والنفسية) هنا شيء طبيعي، هي جزء من عملية التوازن.

طلال الميعان

من البديهي أن نعتبر نصر قوى الظلام شيء سلبي، لأنها تمثل القيم والمشاعر “السلبية” كالطمع والرعب والألم والانتقام. لكن بنفس الوقت إن تمعنا بالموضوع سنجد أن قوى النور لا تقل عنها سلبية!

نعم الجيداي يظهرون بمظهر الخير المطلق، لكن وصولهم لهذا الشكل يتطلب منهم التضحية بالكثير من الأمور التي لا يمكن أن تنصلح الحياة دونها. فالجيداي يجب أن يتخلى نهائيا عن عاطفته، عن رغباته، عن طموحه، عن شخصيته وذاته. فيكرس حياته تماما من أجل النور.

بمعنى آخر، لو تحول كل الناس إلى الجانب المنير (كالجيداي) لخربت الحياة خرابا لا يقل كارثيةً عن خراب تحولهم للجانب المظلم! فهل من الممكن أن يعيش الإنسان دون أبسط المشاعر مثل الخوف والغضب والكره والمعاناة؟ مشاعر الطريق المظلم كما تسمى!

من أجل ذلك التركيز هو على التوازن، فكل إنسان، وكل نظام كوني يحوي داخله على نور وظلام.

الإمبراطورية “الشريرة” نشأت أساسا لتقاوم فساد الجمهورية وبيروقراطيتها وغرورها، فهي ليست شرا مطلقا، لكنها حركة إصلاحية انزلقت لاحقا في طريق الظلام.

دارث فيدر “الشرير” ثار على رفاقه السيث من أجل ابنه… كما ثار قبلها على رفاقه الجيداي من أجل زوجته… مما يجعل من شخصيته واحدة من أعقد وأروع شخصيات الخير/شر… فلله درك يا أنيكان سكاي ووكر!

صراع النور والظلام مستمر، نجده حولنا وداخلنا. لا يمكن لأحد، فردا كان أو نظاما، أن يدعي أنه يمثل النور المطلق، ولا أن يتهم غيره بالظلام المطلق، فبمجرد ما أن يفكر بهذه الطريقة فإنه سينزلق بطريق الظلام. المسألة هي مسألة نقاش و تشكيك وبحث دائم عن مكامن الظلام داخلنا أو من حولنا ومحاولة لاستبدالها بالنور… دون التخلي عن ما يعطي حياتنا طعما ولونا ومتعة وشغفا. ليس الأمر سهلا، فهو صراع … من أجل التوازن.

May the Force be with you

مصيدة المطبوعات: مزايا وعيوب تعديل قانون المطبوعات الكويتي

قانون المطبوعات الكويتي واحد من أكبر المعضلات التي تواجهها حرية التعبير في الكويت، فذلك القانون المشؤوم الصادر على حين غرة عام 2006 تسبب وما زال في إرهاب وملاحقة كل صاحب كلمة منشورة أو مذاعة أو مصورة على أرض هذا الوطن. تحدثت عن هذا القانون وتوابعه كثيرا في هذه المدونة، ويعود اليوم مطروحا في ساحة النقاش بعد أقرت مؤخرا بعض التعديلات عليه. ما هي تلك التعديلات؟ ما هي آثارها المحتملة؟ هل سيكون لها أثر إيجابي أم سلبي على حرية النشر؟

الأمر معقد قليلا، سنقسم آثاره إلى إيجابيات، سلبيات، ومنطقة رمادية. لكن قبل ذلك علينا أن نستوعب أهم تغيير حدث في هذا التعديل، وهو مسألة الرقابة المسبقة وكيف تحولت إلى لاحقة. لفهم آلية الرقابة المسبقةكتبت سابقا مقالا بعنوان الرقيب المسكين.

إيجابيات التعديل

التعديل الأهم على القانون هو مسألة إلغاء الرقابة المسبقة على الكتب “المستوردة“، فبعد أن كان القانون ينص على ضرورة أن تعرض الكتب قبل التصريح ببيعها على لجنة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام لتحصل على فسح منها، صار نص القانون الآن أن الكتاب لا يحتاج إلى أكثر من إخطار الوزارة بعنوان ومعلومات الكتاب وإيداع نسختين منه لديها… ثم يطرح للبيع مباشرة.

تلك خطوة إيجابية بالطبع… على الأقل ظاهريا!

أكبر مشكلة بالقانون القديم لم تكن قانونية ولا سياسية ولا أخلاقية، بل كانت إدارية! آلية الرقابة شيء مرهق ويستنزف طاقة الكاتب والناشر، مع التعديل وإلغاء الرقابة المسبقة أصبح النشر أسهل نسبيا.

طبعا أكبر مستفيد هنا هم الناشرون والمكتبات، لأن حياتهم ستكون أسهل. مشهد صناديق الكتب الملقاة في ممرات ومكاتب إدارة الرقابة منتظرة رأي الرقيب كان منظرا كئيبا ومثيرا للغثيان، خاصة بفترة ما قبل معرض الكتاب. هذا المنظر من المفترض أنه سينتهي بعد هذا التعديل.

قانونيا كل ما كان يحظر نشره مازال ممنوعا… وزيادة! لكن الفرق أن فرصة نشره رغم شبهة مخالفته للقانون أصبحت أكبر. مرة أخرى الناشرون (والقراء) هم المستفيدون من ذلك لأن عدد المصنفات التي سيتمكنون من بيعها ستكون أكبر، وفرصة تعرضها للمنع لاحقا ستكون أقل لأن الكثير من المحظورات الموجودة فيها لن يلاحظها أحد، لأن الرقيب المحترف لم يعد موجودا.

كذلك فإن فرصة تعرض الكتب للمنع للأسباب السخيفة كما كان يحدث سابقا ستقل كثيرا، فلا أتوقع أن أحدا سيتحمس لرفع قضية على كتاب لورود كلمة “نهد” فيه بشكل عابر… أو لأن فيه صورة شخصية ليتيل ميرميد يظهر بطنها!

نقطة إيجابية أخيرة هي أن اختفاء المنع المسبق للكتب يعني أننا أيضا – بشكل غير مباشر – سنتخلص من العنتريات المزعجة لبعض الكتاب ممن يفاخرون بمنع كتبهم! لن نتخلص منها بالكامل… لكنه إزعاج سيقل التعرض له.

سلبيات

الآن دعونا لا ننجرف بالحماس للتعديل، فتعديل القانون لا يعني إطلاقا أن الحريات أصبحت أكبر… بل بالعكس أصبحت أضيق وأخطر!

خطر تعرض الكتاب للملاحقة القانونية الفعلية مازال موجودا بل أصبح أكبر وأكثر خطورة لعدة أسباب:

١- لعدم وجود رقيب يراجع الكتاب
٢- لتخلص الرقيب من المسؤولية السياسية
٣- لإدراج محظورات أكبر مع التعديل

أولا، لا أقصد أبدا مدح الرقيب! لكن وجوده كان يشكل عقبة في طريق نشر ما هو ممنوع قانونا، وإن كان ذلك لا يعني الحماية الفعلية للكتاب. فحتى مع الرقابة المسبقة يمكن أن تتعرض الكتب للملاحقة القانونية، وحدث ذلك من قبل، أي أن يجاز الكتاب من لجنة الرقابة لكن ترفع عليه قضية لاحقا في المحاكم. لكن فرصة حدوث تلك الملاحقة حاليا أصبحت أكبر لعدم وجود فلتر للمنشورات، حتى من حيث الكم، عناوين أكبر دون رقابة تعني عناوين أكثر من الممكن أن ترد فيها كلمة تتسبب بمحاكمة المسؤول عنها.

ثانيا، الرقابة المسبقة كانت تشكل ضغطا هائلا على الحكومة، وتحملها مسؤولية كل ما ينشر ويذاع ويقال، الآن نوعا ما هي ارتاحت من هذا الحمل وأصبح حملا على أكتاف المحتسبين من الشعب… وما أكثرهم!

بالسابق كانت الرقابة عبارة عن أداة سياسية تستخدمها بعض القوى للضغط على الحكومة، أما اليوم فنوعا ما صار الشد مباشرا بين تلك القوى وبين الكتاب. ذلك أمر إيجابي للحكومة… أما الكتاب فكان الله في عونهم على ما سيأتي!

ثالثا، وهي النقطة الأخطر، خاصة إذا ما قرناها بالنقطتين السابقتين – والتي يتجاهلها المدافعون عن القانون المعدل – هي إدراج محظورات جديدة مع التعديل الجديد على القانون، وهي محظورات حساسة وبغاية الخطورة!

وكأن المحظورات الإثناعشر السابقة لم تكن كافية… أصبحت الآن 13. طبعا بند 11من مادة 21 الجديد من محظورات النشر كارثة تستحق مقالا مطولا لنقاشها! وهو بند يحظر مناقشة المواضيع الطائفية والقبلية والعنصرية بشكل يثير “الفتن” أو “التحريض”. وهي مصطلحات مطاطة… ظاهرها بريء… لكن على أرض الواقع ستتسب بمجازر قانونية كريهة!

ضع في بالك أن محظورات قانون المطبوعات هي ذاتها التي تشير لها محظورات قوانين الإعلام الأخرى. يعني تضييق الحرية بسبب التعديل الجديد لن يصيب الكتب وحسب، بس سيصيب الصحف، الإعلام المرئي والمسموع، النشر الإلكتروني، وجرائم تقنية المعلومات.

رماديات

المشكلة في قانون المطبوعات حتى قبل التعديل لم تكن في نصه وحسب، بل حتى في تطبيقه.

هل تعلم أن نص قانون المطبوعات قبل التعديل لا يعطي الرقيب الحق بمراقبة الكتب المنشورة داخل الكويت، فنص القانون يقول بأن الناشر المحلي فقط يخطر الوزارة بمعلومات كتابه ويودع لديها نسختين، لكنهم ولسنوات طوال كانوا يضربون هذا النص بعرض الحائط ويصرون على مراقبة الكتب المحلية والمستوردة على حد سواء؟! تعديل نص القانون الجديد من المفترض أن يساوي بالمعاملة بين الكتاب المحلي والمستورد… لكن المحلي كان مظلوما أساسا!

نص التعديل يتحدث عن إلغاء الرقابة المسبقة للكتب المستوردة، وستكون الكارثة المضحكة أكبر إذا قرر الإخوان بإدارة الرقابة أنهم سيكتفون بتطبيقه عليها واستمرار الرقابة المسبقة على الكتب المحلية… سأضحك كثيرا من القهر إن تم ذلك! وبصراحة هو أمر رغم غبائه إلا أنه غير مستبعد، فالوضع السابق استمر لأربع عشرة سنة رغم المطالبة بتصحيحه، وكنت قد ناقشت الأمر كثيرا مع المسؤولين بوزارة الإعلام ومع الناشرين المحليين ومع الزملاء الكتاب والناشطين السياسيين… لكن رغم ذلك لم يصحح الوضع، لذلك فإن الغباء بتطبيق القانون أمر ليس مستبعدا رغم النص الصريح.

ربكة

الوضع كما نرى مربك ومشوش، فيه الإيجابيات وفيه السلبيات، وفيه منطقة رمادية كبيرة لا ندرى حتى الآن ما هي نتائجها. لا ندري بالضبط كيف سيتم معاملة القانون المعدل، من سيتولى عملية الرقابة اللاحقة؟ هل أصبحت رقابة أهلية بحتة؟ هل ستستمر الحكومة بملاحقة الكتاب قانونيا بزعم الرقابة اللاحقة؟ أم ستكتفي بالمنع الإداري؟


الوقت هو ما سيبين لنا نتائج هذا التعديل، نأمل أن تسير الأمور للأفضل، لكني لا أستطيع أن أفرح وأتفاءل بالوقت الحالي.