أرشيف الوسم: إعلام

نباح أبدي

يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح
يوجعني…
أن أسمع النباح

نزار قباني – هوامش على دفتر النكسة

الأنباء الموجعة قد تنام ولكنها لا تموت، وهي تلاحقنا دون أن نبحث عنها. متأكد بأن جميع شعوب العالم لها نصيب من أنبائها الموجعة، لكننا كعرب مصابون بلعنة أن تتكرر لدينا نفس الأنباء ونصاب بديجافو الألم مرة تلو الأخرى لنفس الأسباب وبنفس الطرق، فيصبح الألم مضاعفا ولا يتعلق بالنبأ نفسه… بل أيضا بشعور قلة الحيلة لعدم مقدرتنا على إيجاد حل لما يتكرر علينا من مصائب.

كلما تجددت أزمة إنسانية لدينا في فلسطين أو لبنان أو سوريا أو العراق أو أفغانستان أو أي منطقة من المناطق التي يتكرر اسمها في نشرات الأخبار يعاد معها نفس الألم، ليس ذلك وحسب، بل يعاد معها نفس النقاش ونفس الأفكار ونفس الحجج والصور والأسماء، حتى أصبحنا لا نفرق بين أزمة وأخرى إلا برقم يبين تاريخها… غير ذلك الرقم ليس هناك اختلاف بينها.

مع كل أزمة نجد أنفسنا مدفوعين ومطالبين بالتفاعل والحديث والدفاع عن من نراه صاحب الحق فيها… وبالطبع صاحب الحق هو نحن… هل في ذلك خلاف! مضطرون لفعل ذلك، فالحياد وعدم الحديث عيب وخيانة وتخاذل، هكذا يقال لنا، فكيف نهرب من ذلك؟ المشكلة التي قد تواجهنا هنا هي سؤال: ماذا عسانا أن نقول؟ كثرة الأزمات وتكرار مواضيعها وصورها استنفدت قدرتنا على التعبير، أصبحنا لا نقدر إلا على التكرار، تكرار أفكارنا السابقة أو تكرار كلام الغير… خاصة في زمن الريبوست والرتويت الذي نعيشه اليوم.

عطسة

عندما يعطس شخص أمامك فإنك لا إراديا تطلب له الرحمة، يعطس ثانية فتعيد الدعاء… بعد خمس عطسات هل ستستمر بطلب الدعاء؟ إن كان جوابك نعم فهل سيكون دعاؤك بنفس الصدق الأول؟ علما أن الدعاء الأول أصلا كان بالغالب أوتوماتيكيا دون إخلاص حقيقي… والأهم من ذلك دون أثر ملموس! فالرحمة من عند الله ينزلها متى وكيف يشاء وليست شيئا ماديا ترى تأثيره مباشرة، بل هو فعل إيماني لا ندرك مغزاه حسيا. بمعنى آخر، عدم ملاحظتك لوجود أثر واضح ومباشر لتفاعلك مع حدث ما، كالعطسة، يمكن أن يصيبك مع التكرار ومع مرور الوقت بنوع من الملل والتبلد الحسي، ملل لا يشبعه إلا أمران: إما توقف العطس نهائيا… أو حدوث نزيف بالأنف!

الاعتياد

الاعتياد على الأنباء الموجعة أمر خطر على كل من قارئ الخبر وعلى المتوجع بالطبع.

مع كثرة الأنباء الموجعة تدخل عقولنا بمرحلة الاعتياد والتكيف، وذلك أمر يحدث مرارا وتكرارا دون وعي منا. قد نتذكر ذلك أثناء أيام جائحة كورونا، بالبداية كنا نقلق من أرقام الإصابات والوفيات اليومية عندما كانت بالعشرات، ثم ارتعنا عندما بدأت تشير النشرات إلى المئات، لكننا مع مرور الوقت اعتدنا على تلك الأرقام وأصبح نزولها قليلا يشعرنا بالراحة رغم أنها كانت ما تزال أعلى من الأرقام السابقة التي كانت تقلقنا، وتمر الأيام فيصبح الاطلاع على تلك الأرقام ضربا من التسلية اليومية كأننا نتابع نتائج مباريات أو نشرة الأحوال الجوية!

ذلك الاعتياد رغم فظاعته إلى أنه رحمة، هو رسالة من عقلنا يخبرنا بها بأننا بخير، بأن علينا نهدأ ولا نجهد أنفسنا بالتفكير بأشياء لا نستطيع لها تغييرا. وهناك رأي بأن ذلك الاعتياد يعتبر مرحلة من مراحل اضطراب ما بعد الصدمة، ينكر المصاب فيها ما يحدث له وتتنمل مشاعره ويحاول النسيان رغم تراكم الآثار عليه.

يتعامل الناس مع ذلك الاعتياد بطرق مختلفة. هناك من ينسى المصيبة أو يتناساها ويعتبرها أمرا لا يخصه، يحاول أن يعيش حياته بشكل طبيعي، يبتعد عن الأنباء المؤلمة ويركز على حياته الخاصة ويبحث عن المشتتات. حالة التناسي حالة مؤقتة، خاصة في زمننا الحالي. لا يمكنك اليوم أن تنقطع عن العالم وأنبائه، فقبل بضعة عقود كنت تستطيع ببساطة أن تتوقف عن مشاهدة الأخبار بالتلفاز والإذاعة أو عن قراءة الصحف، لكن اليوم تصلك تلك الأنباء من كل مكان. تتصفح أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي فتشاهد مقطعا مؤلما فجأة وسط مقاطع الموسيقى والأزياء وحتى فيديوات القطط! وحتى إن تمكنت أنت من الهرب من التعرض لتلك الأنباء فغيرك لا يستطيع… وستصلك الأنباء من أولائك الغير.

أنواع الهم

لا يستطيع الكل أن يتوجهون لمسار التجاهل، فهناك أناس آخرون لا يجيدون العوم في بحره، فتراهم غارقين في ألم تلك الأنباء الموجعة لسبب أو لآخر، وحتى هؤلاء أنواع متعددة.

هناك المتضرر الحقيقي، من تمثل تلك الأنباء قصة حياته اليومية، أو من له علاقة مباشرة بأولائك المتضررون. هؤلاء هم أكثر الناس حرصا على متابعة تلك الأنباء، وأكثرهم حرصا على نشرها، ولا يلامون على ذلك. أيام الاحتلال العراقي لدولة الكويت كان الراديو لا يسكت، ومتابعة الأخبار ونشرها وتحليلها ونقاشها هو الشغل الشاغل للكويتيين، ماذا قال بوش؟ بم “يهدد ويقول”؟ وما رد صدام عليه؟ أخبار الحشود وتنقلات حاملات الطائرات ولقاءات رؤساء الدول ومندوبيهم كانت هي الحديث اليومي لهم… بل حتى مادة تساليهم وتسامرهم. هؤلاء لا يلامون، ولا ضير عليهم، لأنهم يبحثون وسط تلك الأنباء عن بارقة أمل بزوال غمتهم، وأكبر خوفهم أن يتوقف العالم عن الحديث عن قضيتهم، لأنه متى ما توقف فإن ذلك يعني نسيانهم وضياعهم للأبد!

هناك نوع آخر من المتابعين للأنباء، وهم المهتمون بالقضية… أو لنقل المهتمون “بقضية”. لا نستطيع الدخول بالنوايا، فباستثناء الفئة الأولى من المهتمين التي تحدثنا عنها أعلاه فإنك إن سألت أي شخص آخر يتابع الأنباء عن سر اهتمامه فإنه سيخبرك دون تردد بأنه من جماعة “القضية”، سيقول ذلك بإخلاص وصدق لأنه يؤمن حقا بأنه بالفعل يهتم بالقضية لذاتها… حتى إن لم يكن كذلك حقا وصدقا! لن يخبرك أحد بأن اهتمامه ذلك له فيه أغراض أخرى إلا ما ندر.

لا نستطيع حصر أسباب الاهتمام بالقضية فهي كثيرة جدا ومعقدة. العرب والمسلمون مثلا يشعرون برابطة فكرية أو عقائدية أو ثقافية تشعرهم بأنهم جزء من حقيقي منها، شعور بأن من يتعرض للعنف أو الظلم هو أحد أفراد عائلتهم، بأن ما يصيب إخوانهم يصيبهم هم، هم من يتعرض للعنف والظلم… حتى لو كان ذلك -واقعيا- غير صحيح. فما الذي يربط عربي بالجزائر أو مسلم في ماليزيا بالفلسطينيين أو الأفغان مثلا؟ سياسيا وجغرافيا واقتصاديا واجتماعيا هم منفصلون تماما ولا قرابة بينهم. لكنهم كعرب ومسلمين تربوا ونشأوا على فكرة أنهم جماعة واحدة، اكتسبوا ثقافة مفادها أن “نصرة” الأخ واجب عليهم، ينصرونه عندما يكون مظلوما… أو حتى ظالما في بعض الأحيان… حرفيا… وليس ليس نصرة الظالم بتقويم مساره كما هو التعريف السليم لنصرة الظالم (تلك نقطة تحتاج لمقال منفصل!). اهتمام هذه الفئة -رغم عدم منطقيته العلمية- أمر قد يستغربه من هو ليس على اطلاع على ثقافة هؤلاء الناس والمبادئ التي زرعت فيهم وبمجتمعاتهم على مدى سنين وقرون طويلة، بل حتى الأجيال الجديدة من تلك المجتمعات قد تستغرب اهتمام أهاليهم الكبار ذاك، ولا يستوعبون الأمر إلا بعد رحلة طويلة من التثقيف والتنشئة التي تسعى لإلباسهم صلة القرابة اللادموية تلك. خلاصة الأمر، أن هذه الفئة من المهتمين بالقضية يعتبرون أنفسهم كأنهم جزء حقيقي من الفئة السابقة ممن يعانون المعاناة الحقيقية، وربما يشعرون بسبب تلك “القرابة” بأن الدور قد يكون عليهم تاليا في حال سكوتهم عن ظلم إخوانهم، خوف من أن يؤكلوا يوم أكل الثور الأبيض، وإن كان في وقتنا الحالي ومع انفتاح العالم على بعضه البعض… لا أحد في مأمن (كما سنذكر لاحقا) مهما تعددت ألوان الثيران.

فئة أخرى من المهتمين بالقضية هم من لديهم إدراك بأن القضية بحد ذاتها… لا تهمهم ولا تتعلق بهم. نلاحظ ذلك بشكل كبير لدى “الأجانب”، أو حتى الأجانب من بعض العرب والمسلمين ممن لا يؤمنون حقا برابطة الدم الوهمية التي يختص بها أفراد الفئة السابقة. الاهتمام هنا نراه ينتهج النهج العقلي أو الفلسفي، أي يكون راجعا لفكرة الحق مثلا أو العدالة أو كنوع من محاولات تقويم مسار الإنسانية وما إلى ذلك. كثير من الفلاسفة والمفكرين حملوا لواء الدفاع عن المظلومين والمستضعفين على مر التاريخ، تبنوا قضايا قد لا تخصهم شخصيا ولا تنتمي لمجتمعاتهم. عندما نتحدث عن الفلاسفة والمفكرين والمثقفين فنحن لا نخص هنا الكبار والمشاهير منهم من كتاب وأدباء وفنانين وأساتذة، بل الحديث هو حتى عن الشخص “العادي” المتمكن من الاطلاع على الأنباء والقادر على البحث فيها وتحليلها وتفسيرها وإصدار حكم ورأي فيها. مرة أخرى… في زمننا هذا ومع سهولة التواصل ويسر الحصول على مصادر المعلومات نجد هذه الفئة في تكاثر. أصل وجود تلك الفئة من المهتمين هو وجود الأساس الفلسفي، وذلك بالطبع يشمل حتى الأديان (ما لم تتلوث بتعصب أو فئوية)، ومنها الدين الإسلامي الذي يدعو لحفظ الحقوق ونبذ الظلم وتحقيق العدالة والمساواة بين البشر.

طيب، هل تلك الفئة الأخيرة من “الإنسانيين” (بما أن لديها الأساس الفلسفي) تهتم حقا بجميع القضايا الإنسانية؟ المفروض نعم، لكن واقعيا لا! ككويتي مسلم مثلا يسهل عليك أن تتعاطف مع فلسطين، لكن هل ذلك التعاطف بنفس قوة تعاطفك مع النزاع في جمهورية الكونغو؟ ماذا عن أوكرانيا؟ طيب هل تتعاطف مع قضية الصيد الجائر للحيتان؟ لن أسأل عن رأيك بحقوق المثليين… أو حتى البدون! بالطبع لا يمكنك الاهتمام بكل شيء بنفس الوقت وبنفس القدر مهما كنت “إنسانيا”… لأنك إن فعلت فلن تعيش! بل إن عقلك يتخير من هذه القضايا بقدر القرب منها وبقدر الاطلاع عليها وعلى حيثياتها. هذا ينطبق على رأي الآخرين بالقضايا التي تهمك أنت، لعقود طويلة لم يهتم الغرب بقضية فلسطين، بالأسابيع القليلة الماضية فقط تولدت لديهم صحوة الاهتمام! ولذلك أسباب.

أول هذه الأسباب هو بالطبع الوسائل التثقيفية، وأهمها الإعلام بكافة صوره وأنواعه، التقليدي والاجتماعي. ثانيها هو فداحة القضية ذاتها، وهو أمر مرتبط بما قبله، ففداحة القضية يصحبها -غالبا- زخم إعلامي. سبب ثالث هو استيعاب الخطر، فإدراك الإنسان لوجود خلل في المنظومة الإنسانية والأخلاقية يجعله يستوعب هشاشة الأمان الذي يعيشه بحياته اليومية، ما الذي يمنع أن يصيبه هو شخصيا ما أصاب غيره؟! إن لم يهتم ويتحدث ويقاوم فما الضمان بأن نفس الظلم الذي يتعرض له الآخرون لن يتعرض له هو ليتحول هو ومجتمعه النائم يوما ما إلى “القضية” في ظل ذلك الخلل؟ وخوف أيضا بأن يكون هو ومجتمعه جزء من ذلك الظلم الذي يتعرض له الآخرون، شعور بالذنب بأنه قد يكون مشاركا بالظلم فعليا دون أن يدري… أو حتى معنويا بسكوته وتجاهله. أو قد تكون شعورا بالصحوة بعد سنين طويلة شعر فيها بأنه مخدوع ومظلل، وبدأت الآن تتكشف له الحقائق وتنجلي سحابة الجهل التي كان يقبع تحتها، فيبدأ بالربط والتحليل ومراجعة الماضي، ويسعى من بعد ذلك لتعديل مفاهيمه والحديث عنها بسبيل إجراء تصحيح لذاته ولمجتمعه.

كل ما سبق، وغيرها من الأمور التي لم يسعني ذكرها، أسباب تؤدي لاهتمام البشر بالأنباء المؤلمة. ظاهريا كلها أسباب معقولة ومنطقية وقد تبدو إيجابية، لكن إن نظرنا لها نظرة أوسع فإنها بكل صراحة ليست إيجابية على الإطلاق!

الأصل… هو أن لا نهتم! لا أقصد هنا أن نتجرد من الأحاسيس والتعاطف! لكن الأصل أن لا تكون هناك قضية مؤلمة نهتم لها أساسا! قد يكون كلامي هنا شاعريا ولا يخلو من السفاهة، لكن يجب أن يكون محور تفكيرنا أن الهدف الأسمى الذي يجب أن نسعى له هو أن نعيش نحن وكل البشر بحالة من الأمن والسلام والتناغم بحيث أن لا تكون هناك حروب ولا قمع ولا عنف ولا ظلم يصيب أيا كان، وبالتالي لا يكون هناك هم نسمع أنباءه في أي مكان، عندها نستطيع أن نعيش بسلام، داخلي وخارجي، ونركز بحياتنا على كل ما هو إيجابي وننهض بالبشرية جميعا. ذلك لن يحدث للأسف الشديد، لكن يجب أن نكون من الوعي بحيث أن نسعى للتفكير بهذه الطريقة، بدلا من أن نجهد أنفسنا بالاقتيات على الأنباء المؤلمة ويصبح الهم هو همنا ومسعانا، فذلك مرض مزمن ونوع من الإدمان المدمر!

عطش الدم

فئات المتعاطفين والمهتمين بالأنباء التي ذكرناها إلى الآن أمرها هين نوعا ما، حالها أهون من حال فئات أخرى معتلة بواحد أو أكثر من أعراض داء الاهتمام!

كما ذكرنا سابقا فإن الغالبية العظمى من المهتمين مؤمنون داخليا بصدق بأنهم ينتمون إلى الفئات السابقة بشكل أو بآخر، لكن قلة نادرة منهم قد يعترفون بأنهم جزء من الفئات التي سأذكرها الآن، وبالغالب لا يدركون أنهم منها أساسا… أو لا يعلمون بوجودها إما إنكارا أو سفاهة!

لا أستطيع ترتيب تلك الفئات من حيث درجة السوء، لذلك قد يبدوا كلامي عشوائيا لأن ملاحظتي لها كانت تتم اعتباطيا أثناء متابعتي لأحوال المهتمين من حولي. لكني أستطيع أن أحدد أسوأ تلك الفئات دون منازع… وهم الاستغلالييون.

للاستغلالية أنواع عدة، لكن أسوأها هم من يركبون التعاطف مع قضية عادلة كمطية لتحقيق مصالح مباشرة على حساب آلام البشر. قد لا يعجبك هذا الكلام، وقد أتهم إن قلته بالعمالة أو التخاذل أو الخيانة، لكن نعم أقولها بكل ثقة، هناك من يتعمد نشر الأنباء الموجعة، بل وحتى اختلاقها، لأنه مستفيد منها. هناك من يستغل تلك الآلم ليكسب تعاطفا معه لم يكن ليحلم به! الناس باندفاعهم مع موجة التعاطف مع الضحايا يتجاهلون أحيانا أن حتى الطرف المستضعف ليس حقا بتلك البراءة، فلا بأس بأن تكون ظالما -قليلا- إن كنت ضحية ظلم أكبر. ليس هنالك خير مطلق كما أن ليس هنالك شر مطلق، تلك هي طبيعة البشر، عندما نختار الوقوف بصف فئة ما فذلك لأننا نسعى بحسن نية لأن نحقق “أعلى قدر” من العدالة، فواقعيا ليس هناك عدالة مطلقة إلا بالأحلام… والروايات والأفلام السينمائية، إن ركزنا تفكيرنا ربما سندرك ذلك، لكن بعض الناس متأكدون من ذلك بيقين، ولديهم من القدرة ما يكفيهم لتمكينهم من استغلال تلك المساحة الرمادية من طبيعة المشاعر البشرية لمصلحتهم. تلك الفئة من الاستغلاليين موجودة دائما على مر التاريخ، تستسهل التخريب والتدمير طالما أنها تجد من يبرر لها ويتعاطف معها تحت أي مسمى، فإما يرفع صوته بتشجيعها أو على الأقل بالصمت عنها مقابل رفعه ضد الطرف الآخر طالما كان أكثر بشاعة منها. هي استغلالية ميكافيلية تهدف لأن يبرر الناس أفعالها أو يسكتوا عنها بحجة أن هناك هدف وقضية أكبر يجب التركيز عليها، ومن قد يحاول ملاحظة تلك الأفعال فيا ويله!

هناك أيضا من يقتات على الأزمات والمشاكل. أثناء جائحة كورونا مثلا هناك من كان يتغذى على مخاوف الناس وقلقهم، ويستغل ذلك الخوف لتمرير أفكاره أو تسويق بضائعه، وذلك ينطبق على كل أزمة. تجار الحروب والأزمات موجودون في كل زمان ومكان، حاضرون لسد أي حاجة تنتج عنها… بمقابل مادي أو معنوي. كل يدعي أن عنده الحل، ولديه البديل، وأنه أفضل من غيره، والناس في ظل خوفها وإحباطها وتحت تأثير عواطفها المتأججة ستصدق أيا من كان طالما أظهر أنه في صفها، وفي ظل اليأس تتنشر فكرة “يالله… على الأقل هؤلاء أفضل من غيرهم!” ويتم الرضا عن القليل، طالما أن ذلك القليل يوافق المشاعر ويهون عليهم نفسيا على الأقل. الأخطر من ذلك هو أنه في ظل ذلك الخوف واليأس والإحباط يتمتع هؤلاء الاستغلالييون (بأنواعهم المختلفة) بحصانة شعبية لا تبرير منطقيا لها، ويصبح انتقاد أعمالهم وأفكارهم وقراراتهم وجشعهم المحتمل من المحرمات شعبيا لدى البعض. من يقوم بذلك النوع من الاستغلال هم تجار، ليس بالضرورة أن تكون تجارتهم مادية، بل يمكن أن تكون فكرية. يركب هؤلاء التجار موجة التعاطف ويستغلون مشاعر الجماهير المتأججة للظهور بدور البطل المخلص، يدسون أفكارهم وأيديولوجياتهم بين نبأ وآخر لعلها تجد لها ملتقطا، وأحيانا تجد ذلك الملتقط إن لم يكن حالا… فربما بعد حين، بالمستقبل ربما عندما يتذكر الناس ما حدث فإن موقفهم “البطولي” سيكون مسجلا ويمكنهم الحديث عنه بالمقابلات والبرامج الوثائقية والبودكاستات، صوتهم وحدهم… لا صوت من تبعهم ولا من سار معهم.

نسمع بالأدلجة، ولكننا بأحيان كثيرة لا نقوى على الاعتراف بوجودها… خاصة إن شعرنا بأنها من صالحنا. عندما يكون الإنسان في حالة ضعف وعجز فإنه يسهل أن يُستغل، خاصة من قبل المستغلين المحترفين ممن يعرفون حيل وألاعيب الاستغلال والتأثير. سأتجرأ و أعطي أمثلة. لهذا السبب نرى بأن الدعوات الدينية يسهل انتشارها في المقابر ومجالس العزاء، أو بمصاحبة الحملات الإغاثية لضحايا المجاعات أو المنكوبين، وذلك لأن الناس في تلك الأماكن وتلك الأجواء يكونون بأضعف حالاتهم ويسهل التأثير عليهم عند تقديم الدين كملاذ وملجأ ومنج لهم في محنتهم وابتلائهم. فهل شاهدنا دعوة دينية في بنك مثلا أو في معرض للعطور أو السيارات؟ لا أنتقد الدين بتاتا هنا، ولا الدعوة الدينية، لكنه مجرد مثال من حياتنا. لماذا تتسابق الأحزاب والتيارات السياسية على نشر أفكارها المختلفة بين طلبة الجامعات؟ أليس ذلك بسبب حالة الحيرة والضياع الفكري والخوف من المجهول الذي يصيب الشباب في مقتبل حياتهم والتي خلالها يسعون للبحث عن معنى لحياتهم؟ الشاب يعاني من الوهن الفكري في الجامعة كما يعاني من فقد عزيزا من الضعف العاطفي في العزاء، وكذلك الجماهير تعاني من الضعف والوهن والانكسار وقلة الحيلة عند متابعتها للأنباء، فتتشبث بأي بارقة أمل قد يقدما من يطرح نفسه كبديل مخلص بيده حل ما أصابها من أزمات… وتلك هي الأدلجة.

ترند

الاستغلال والتكسب من الأزمات ومن المخاوف ليس بالضرورة أن يكون ماديا، خاصة في وقتنا الحالي. عملة التكسب قد لا تكون بالدولار أو الدينار، فاليوم لدينا سلعة تسمى… المحتوى. مثل جميع المسائل الأخلاقية لا نستطيع دائما أن نصدر أحكاما قاطعة على الناس فنقول بأن هذا شخص يتكلم بإخلاص وذاك منافق لا يتحلى بالصدق، ولكن في بعض الأحيان يمكننا التمييز. ليس كل من يتحدث ويعبر وينشر ويجتهد لديه نية صادقة وبريئة دون طمع بلايك أو رتويت أو شير أو سبسكرايب أو فولو! والناس من جميع فئات المتعاطفين لن يتوانوا عن ذلك في كثير من الأحيان بنية حسنة، وذلك أحيانا يكون أمرا جيدا، لكن ليس دائما. هوس الشير واللايك أمر خطير في بعض الأحيان، فمع الاندفاع بهما تمر الكثير من الأمور دون تحقق أو تحليل مما قد يساهم في نشر أمور خاطئة -معلوماتيا أو إعلاميا- مما قد يضر القضية أكر مما ينفعها. “المنصة الفلانية أغلقت حسابي لأني ذكرت الحقيقة!”، “منشوراتي تتعرض لهجوم غير مبرر، ادعموني بالشير وبالتعليقات!”… تواضع يا أخي! إن كان معك حق فسيحمل الناس رسالتك دون طلب! ناهيك طبعا عن من يطلب الدعم المادي ليستمر بنشر الأخضر واليابس من المعلومات… والناس في ظل يأسها وحماسها تصدق وتدعم دون الوافي من التفكر.

وبالحديث عن هوس اللايك والشير نتحدث عن فئة أخرى لها خطر مقارب، وهم أتباع “الترند”. لا أنكر أن تحول أي قضية إلى ترند أو نزعة شائعة أمر يفيد القضية. فائدة الترند هي أنها توصل الفكرة أو المعلومة لأكبر عدد من الناس، والمعلومة أمر جيد، تنبه الناس لكي يبحثوا ويتعلموا ومن ثم ينقاشوا القضية المطروحة. لكن عيب الترند بحد ذاته أمران؛ أولا أنه أمر سطحي، وثانيا أنه مؤقت. اختزال القضية على شكل شعار أو رمز أو حتى أغنية أو رقصة أمر يسطح القضية في بعض الأحيان. إن توقف الناس عند هذا الترند دون تعمق وتدقيق بالأسباب والدوافع وأصل المشكلة ودون نقاش لها ومحاولة حلها بشكل جذري وفعال فإن ذلك سيخلق جمهورا ركيكا لها، جمهور لايقدر على مواجهة أحد، وجمهور لديه إحساس “أنا سويت اللي علي!”. مرة أخرى ذلك أمر يظل إيجابيا وأفضل من الجهل التام، لكنه لا يخدم القضية على المدى الطويل، وذلك هو الهدف الذي يجب أن نسعى له. الترند بطبيعته دائما مؤقت، ليس هناك ترند دائم لأنه حينها لن يكون “ترندا”. نسيان الجماهير لقضية معينة بمجرد بروز غيرها أمر محبط، خاصة لمن يعيشون آثار تلك القضية، وذلك أمر وارد بشكل يسير وسريع بسبب الطبيعة البشرية وطبيعة التواصل الاجتماعي أولا، وأيضا بنفس الوقت لأن هناك من يدرك تلك الطبيعة وقد يتعمد إلهاء الناس بترند آخر لينسي الناس ويشتت اتنباههم، وذلك أمر لا يمكن محاربته عن طريق كثرة النشر بحد ذاته، بل بنوعية النشر. التركيز على ترند أغنية أو رقصة أو “قَطة” لغوية أو رمز يوضع بالأفتار أمر جيد لحظيا، لكن الأفضل والأهم هو التركيز على نشر المعلومة العميقة بيسر، فالمعلومة والحجة والمنطق هي ما يغير قناعات الناس وطريقة تفكيرهم، ويربطهم بالقضية ويكسبهم في صفها على المدى الطويل، بل ويخلق أجيالا واعية تستطيع الدفاع عنها في أي وقت وأمام أي أحد وتتذكرها مهما تغيرت وتبدلت الترندات.

بين القضية والحديث عنها

وياليت القضايا تنتهي بنهاية الترند!

الهدف الأسمى لأي حملة إعلامية هي أن تنتهي هذه الحملة! أن تصل لمرحلة لا نحتاج فيها لأن نناقاش القضية ونتحدث عنها وننشرها للناس… لأنها حُلت. عندما نستمر بنقاش ومتابعة قضية مثل القضية الفلسطينية وتكون همنا لخمس وسبعين سنة فذلك أمر سيء، كذلك الأمر عند نقاشنا المتكرر لقضية البدون، أو الإسكان، أو زحمة وحالة الشوارع، وغيرها من القضايا التي لا يبدو أن لها حل، فذلك دليل على أن نقاشنا الطويل لها نقاش عقيم وليس لها نهاية، وذلك أمر محبط ويدل على وجود خلل كبير. هدف النقاش يجب أن يكون حل القضية، وليس استمرار النقاش بحد ذاته دون هدف أو نتيجة. بمعنى آخر، كما نضرب كمثل، الهدف أن تتكدس الأموال ببيت مال المسلمين لأنه لم يعد هنالك من فقراء، وأن نتوقف عن بناء المستشفيات لقلة المرضى! كمثال آخر نرى بعض القضايا التي كانت سائدة ومنتشرة قبل حين من الزمن بكثرة لكننا توقفنا عن الحديث فيها… إيجابيا. قضية ثقب الأوزون مثلا، كانت قضية كبيرة وكانت حديث الناس خلال فترة نهاية القرن العشرين، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك الثقب الآن، السبب؟ لأنه صاحب كل ذلك النقاش أفعال وقرارات أدت بالفعل إلى بدء ذلك الثقب بالالتئام، فأصبحت القضية أقل أهمية من غيرها اليوم، فما أجمل ذلك، وما أجمل أن تسير جميع قضايانا إلى الحل حتى نتوقف عن الحديث عنها ونركز على غيرها.

القدرة على التفرقة بين القضية ذاتها وبين الحديث عن القضية أمر هام. نعم، هناك فئة من الناس هدفها هو الحديث عن القضية بحد ذاته، وتتمنى أن لا يتوقف ذلك الحديث بأي شكل من الأشكال لأسباب عدة قد لا تتعلق بالقضية ذاتها. الحديث عن هذه الفئة صعب، لأنها فئة حساسة ومتعبة بالنقاش. لا يهمني هنا أن أوجه أصابع الاتهام لأي أحد، فالله أعلم بنياتنا منا، بل هدفي أن ألاحظ وأطرح وجهة نظر، لعل كلامي يساهم بنشر نوع من الوعي، وعي بما نراه ونسمعه، ووعي بما نقوله ونكتبه نحن بأنفسنا، لذلك سأحاول أن أصيغ كلامي التالي بنوع من الحذر.

كما ذكرنا في بداية هذا المقال، الاعتياد على الأنباء الموجعة أمر خطر. أن يعتاد الناس على الأنباء المتوالية من عنف وقتل وتدمير فذلك يعني تحطم نفسياتهم بعد سلسلة من الصدمات، ويعني أيضا استمرار معاناة أصحاب القضية لأن الناس من حولهم دخلوا مرحلة الاستهانة بآلامهم، ومرحلة تحولهم من بشر إلى مجرد أرقام تذكر في الأخبار. ذكرنا كذلك أن هدف نقاش القضية الأسمى هو إيجاد حل لها، فماذا يمكن أن يحدث إن طال الأمد ولم نصل إلى حل؟ الناس من طبيعتها الاعتياد على المآسي، فكيف يمكن أن نكسر ذلك الاعتياد والملل؟ أسهل شيء… بالمزيد من المآسي!

لا أحد يتمنى المزيد من المآسي، صح؟ يؤسفني أن أقول… لا مو صح! باطنيا هناك صوت بداخلنا نحن يتمنى أن تستمر المعاناة، فيظهر ذلك “الآخر” المعتدي بشكل أوحش وأبشع ويظهر المظلوم أكثر انكسارا وأكثر استجداء للعطف! هناك صوت يقول “يجب أن لا يتوقف الحديث عن القضية! إن توقفنا عن الكلام عن المأساة فإن الناس ستنسى، إن اعتدنا على “الأرقام” أو انخفضت تلك الأرقام أو لم نرصد الأرقام بشكل أفضل فإن زخم حديثنا سيتباطأ. لا بد أن يستمر الحديث حتى يتحرك الناس ويتعاطفوا معنا، فما الحل؟ حتى إن وصلنا لمرحلة توقف الحديث فيجب أحد أن يفتعل ما نسترد به انتباه الناس إن اقتضى الأمر، فذلك أمرر مبرر لتحقيق غاية أعلى.” من شبه المستحيل أن نقول هذا الكلام علنا، ولكن بلاوعينا ربما تمر منه بعض الخواطر على النفس، أو ربما نعبر عن بعض عباراته بصياغة أخرى مخففة أو بها مداراة أو تورية. الأكيد أننا في بعض الأحيان قد نتقبل بعض تلك الأفكار إن قدمت لنا بقالب عاطفي أو أدبي أو سياسي أو ديني يصورها لنا على شكل أفكار سامية، وقد نكون بالفعل مؤمنين بها بصورتها الأسمى ولا نقبل أو نتجرأ على كسر قالبها المثالي لأنه أمر زرع فينا وبثقافتنا على مدى طويل جدا، وكسر تلك القوالب أمر مرعب. لكن إن رجعنا لحديث النفس الذي أوردناه سنجده بصورة ما يعبر عن نفس غايات الحديث “السامي” ولكن بصورة مجردة ومعراة.

قياس المآسي بالأرقام بشاعة!

قبول استمرار الحديث عن المآسي ونقل أنبائها بشكل مجرد وعشوائي غير مدروس ودون نقد وتحليل وهدف يبررها البعض بأنها وسيلة لجذب تعاطف الآخرين مع القضية، وتلك فكرة مرعبة! معاناة الناس ليست وسيلة تعليمية! لم علينا أن ننتظر أن تقع مصيبة حتى نتحرك وننفر لتعريف الناس بقضايانا والتذكير بها؟ أين كنا طوال أوقات الهدوء والاستقرار… النسبي؟ أم أننا نحن من كنا لاهين ونحن من احتجنا للموت والقتل والعنف والدمار ليذكرنا بأن هناك من يعاني ويحتاج لمن يقف معه؟ انتظارنا للمآسي حتى تقع هي الكارثة الإنسانية الأصلية، وما يحدث لتذكيرنا بعد صمتنا وتجاهلنا ولهونا هو نتيجة لذلك الانتظار. والأخطر من ذلك هو تعمد تسعير العنف والدمار والحروب وتشجيعه بغرض إحداث ضجيج يصحي الناس من غفلتهم. وحديثي هنا ليس عنا نحن وحسب، فما نتحدث عنه هو حال البشر عموما، والمقزز أكثر أن هناك من يدرك تلك الطبيعة البشرية ويفقهها جيدا، ونجح الكثيرون باستغلالها مرارا وتكرارا على مر التاريخ ولغاية اليوم، وسيستمرون باستغلالها طالما كان الناس في غفلة، وكم يؤسفني ذلك.

مرض

فئات المهتمين والمتعاطفين لا تقف عند هذا الحد، فبعض تلك الفئات إنما هي ضحية أمراض نفسية واجتماعية تتجاوز تلك الحدود، أو ربما تختلط بها. شدة الحماس لقضية ما قد تدخل أحيانا في إطار التعصب. إحدى تعريفات التعصب هي أنه الاندفاع بمجهود مع نسيان السبب، وتلك حالة بعض المتحمسين من المهتمين ببعض القضايا، من السهل عليهم فقد البوصلة التي توجههم نحو الهدف مما يؤدي لتشتت أفكارهم وتضييع مجهودهم، فتراهم باندفاعهم في سبيل قضية ما يبدؤون بتوجيه أصابعهم تجاه اليمين والشمال عوضا عن الإشارة للمتهم الواقف أمامهم، وفي بعض الأحيان يبحثون عن أي فرصة لاختلاق الجدل والنقاش والنبش في كلام الآخرين لتصيد ما يمكنهم انتقاده أو مهاجمته أو السخرية منه للظهور بمظهر المنتصر . يعتبر البعض ذلك التعصب أثر من آثار بعض الأمراض النفسية أو اختلالات الشخصية، فالشخصية الضعيفة المتعبة قد تنجرف بحماس يقترب من التعصب بقضية ما لأن ذلك أمر يجعل صاحبها يحس بالأهمية، كما أنها تعتبر القضية مجالا لتفريغ الغضب المكبوت ولإلهاء النفس عن مشاكلها الأخرى. لا أستطيع الإطالة والتفصيل في هذه النقطة لأنها بحاجة لمختصين ولأنها من الأمور المختلف عليها حتى لدى هؤلاء المختصين، لكنها مسألة يمكن ملاحظتها بشكل متكرر.

هوس الإحساس بالأهمية من أمراض عصرنا الحالي، فحين تكون حاملا للواء الدفاع عن قضية وتجد من حولك من يساندك ويؤيدك أو يثني عليك فذلك رافد من روافد السعادة. نعم هي سعادة بأن تدافع عن حق وتجد من يقف بصفك، لا بأس في ذلك، ولكن مع الاندفاع فإن الأمر قد يتجاوز ذلك الأمر ويتحول إلى نوع من النرجسية. الدخول بإطار النرجسية والغرور يتم عادة بالتدريج، مثل أغلب العقد النفسية، فقد يبدأ الأمر بالتعاطف الحقيقي ولكنه مع مرور الوقت يصبح تعاطفا مرضيا، وبالغالب فإن الشخصية ذاتها هي أساس العلة. النرجسي يبدي تعاطفا مع الضحية و في باطنه نية غير ظاهرة بالتفضل عليها. عندما تتعاطف مع شخص محتاج لهذا التعاطف فإنه، ومن يتفق معه، سيميل لك ويشعر بامتنان طبيعي، فإن كنت تفتقد شعور الامتنان هذا ستسعد بالأمر وكأنه جرعة من مخدر! مع الوقت ستدمن شعور الامتنان ذاك ولن تستطيع العيش دونه، وتعتبر عدم الحصول على رد الفعل الذي ترغب به نوعا من الجحود والخذلان وضياع الجهد، شعور “الشرهة علي اللي قاعد أتكلم عنكم!”… رغم أنه أمر طبيعي يتماشى مع طبيعة البشر ومقدرتهم – ورغبتهم – على التعبير عن شعور الامتنان ذاك.

مرض النرجسية لا يخص الأفراد وحسب، بل قد يرتبط بالفكر القومي الجمعي. القومية بحد ذاتها نوع من الأمراض الخطيرة كما تحدثت عنها قديما، وهي نوع من التعصب الذي يصيب المجتمعات ويدفعها لفكرة ضرورة أن يصبح الجميع -قهرا إن تطلب الأمر- وحدة واحدة لا يجب أن تختلف فيها الأفكار والآراء والتصورات، فتفرض إلغاء الفردية والتركيز على الفكر الجمعي. بحالتنا هذه نجد تأثيرها على شكل نوع من التفاخر “بإنجازات” الوطن (أو القبيلة أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب) الإنسانية، فالحركة الإنسانية تصبح نوعا من البطولة التي تستحق الاحتفاء بها وليست مجرد واجب لوجه الله لا ينتظر عليه جزاء ولا شكورا، أي أن الهدف أن نصبح كمجتمع “أسود الإنسانية” وأفضل الناس فيها! مرة أخرى، هو أمر جيد أن يتسابق الناس بالخيرات، لكن أفضل تلك الخيرات هي التي لا يدري الناس عنها، لكن عندما تفاخر بمواقفك وبأعمالك الخيرية وتتفضل على الغير فإن ذلك عرض من أعراض الإصابة بالغرور، والغرور لما يصيب… مشكلة.

الغرور القومي ضرره لا يؤذي الضحية وحسب، بل قد يتحول إلى نوع من التفاخر والتعالي على أقوام يعتبرهم المغرور بمنزلة أقل منه. المتعاطف المغرور يسهل عليه أن ينسى القضية وينسى الضحية ويصب مجهوده ويحرك عاطفته تجاه من يراه أقل منه إنسانية، عوضا عن أن يوجه كلامه وأفعاله ضد الظالم والمعتدي يسهل عليه أن يوجهه تجاه من يراه لا يقدم للقضية قدرا كافيا من الدعم… برأيه. قد يبرر المغرور هجومه على ذلك الآخر الأقل إنسانية منه -برأيه- بأن ما يقوم به نوع من التشجيع له لكي يحذو حذوه، أو أنه بهجومه على ذلك الآخر فإنه يدفع الضرر عن المظلوم، وسأحترم هذا الكلام من حيث المبدأ، لكن رغم احترامي فإن الضرر من ذلك الهجوم قد يكون في أحيان كثيرة له ضرر أكثر من النفع. يمكننا الحديث عن إثارة العصبية القومية بين الدول والشعوب والجماعات بسبب هذا التفاخر، عندما تعمم هجومك على شعب أو جماعة بأكملهم بسبب مواقف أفراد منه، أو حتى حكومته، سواء كان ذلك الهجوم مبررا أم لا، فإن ما ستجنيه من ذلك هو استثارة ذلك الشعب وتحريضه على الهجوم المضاد عليك… وعلى شعبك، وآثار الهجمات تلك ليست آنية فقط بل قد يمتد شعور الحزازية والفرقة ذاك لفترات طويلة وقد يتفاقم ويكبر، ومن المستفيد من ذلك غير المتسبب بالمشكلة الأصلية؟ إن كنت أنا ظالما فإن أقصى طموحي هو أن يختلف المظلومون ومن قد يساندهم وينشغلوا بأنفسهم ويرد كيدهم في نحرهم! لا أبالغ إن قلت بأن عصبيتنا وقوميتنا هذه أحد أهم عوامل ضعفنا وأسباب طول عمر أزماتنا المتكررة، ننسى أصل المشكلة ونهاجم بعضنا البعض بنعوت التآمر والخذلان والعمالة والخيانة، لماذا؟ لأننا مغرورون بأنفسنا، كل طرف يرى نفسه الأفضل والأسمى والأعدل والأقوى والأجمل من الآخر… فتضيع الطوشة وينسى صاحب القضية الأصلي. وحديثي هنا ليس عن الحكومات ولا عن أصحاب القرار، فهؤلاء لا يهرولون عبثا، بل هم يراقبون ويعون ما يحدث، ويعرفون متى ومن يشجعون، ومتى يتدخلون إن اقتضى الأمر، فلهم حساباتهم ولهم مصالحهم بكل ما يجري. كما لا أتحدث عن المستفيدين من ذلك الغرور القومي، فهؤلاء يشبهون مغني الحفلات الذي يستغل تفاخر الجماهير عند تنافسهم على من يقدم أكبر “نقطة”! حديثي هنا عني أنا وأنت من الشعوب التي تتابع الأنباء وتتفاعل معها، هم من يجب أن يحسبوا حساب كلامهم ويوجهوا جهودهم بوعي وتركيز لتحقيق أفضل فائدة وتأثير بأقل ضرر، لا أن تتبد الجهود وتتدمر العلاقات أثناء الاندفاع القومي… باسم الخير.

والحل؟

كأن قفلناها؟ يعني نتوقف عن متابعة ونشر الأنباء؟ لا طبعا، تابع وانشر يا أخي العزيز، الأمر ليس ثنائيا… إما ننشر أو لا ننشر! أعتذر إن كان جل كلامي في هذا المقال يبدو سلبيا ومتشائما، لكن المقصد ليس ذم الأنباء المزعجة وكل ما يتعلق بها، بل ضرورة تداولها بوعي وذكاء. الهدف أن نعرف ماذا ننشر وكيف، وأن لا نقرأ الأنباء كما هي بل ندرك ما خلفها. أن نعرف بأن ليس كل ما يقدم لنا بغطاء سامٍ وإنساني هو كذلك، أن لا نساق لخدمة المستغلين وأصحاب المصالح بسذاجة… أو حسن نية. ندرس أنماط المتفاعلين لنفهم أهدافهم، ومن ثم نجيد التعامل معهم. لا أقصد كذلك أن نجعل ذلك التصنيف هدفنا ومبتغانا، لا نستخدمه كوسيلة للتشكيك بالنوايا أو التصيد أو الاحتقار أو الهجوم على البشر، ليس ذلك الهدف. هي ملاحظات، ومعلومة قد تكون مفيدة لنا، لعقلنا ولنفسياتنا، فالعلم بالشيء دائما أفضل من الجهل أو التجاهل.

نعم هو أمر مؤلم عندما ندرك بأن ليس جميع الناس خيرين وصادقين وجهودهم ذات منفعة، لكن تلك هي طبيعة البشر شئنا أم أبينا، العزاء هو أن الأمر نسبي وليس مطلقا. حتى أنفسنا، أنا وأنت، قد تداخلنا بعض الأفكار السلبية مما قد ذكرت دون أن ندرك ما هي، لكن إن علمنا ما تأثير تلك الأفكار علينا سنصحح من أنفسنا ونراجع نياتنا ومن ثم قراراتنا قبل أن نقدم على الضغط على زر الإعجاب أو المشاركة. معرفتك بأن ليس كل ما تقرأه أو تشاهده أمر طبيعي يخفف حتى الضغط النفسي عليك وقد يقلل الألم والاكتئاب، فقط تذكر بأن لا أحد مستفيد من اكتئابك… وإن حاول البعض تصويره بأنه جزأ من الحل! ماذا يستفيد المظلوم وصاحب القضية من اكتآبك؟ وبماذا ينفعه حزنك؟ ما ينفع هو قوتك ووعيك وذكائك ونظامك، أن تعرف أن تقرأ المعلومة وتحللها وتبني عليها فعلا يحقق فائدة ولا يتسبب بضرر… قدر الإمكان.

هناك جملة تتكر بما معناه “لا تتوقف عن الحديث عن فلسطين!”، ورغم كل ما ذكرت في هذا المقال فإني أتفق معها، لسببين. أولا لأن المتابع الواعي والمثقف والجاد إن توقف عن الحديث فإنه سيترك الساحة للمتابع العاطفي والمتعصب والجاهل. نحن بحاجة لمزيد من الوعي، لمزيد من المعلومات والحقائق والحجج مما يؤثر بالناس إيجابا ويشكل جبهة مضادة لفيالق السلبية. السبب الثاني هو أن الصوت فعلا يجب أن لا يسكت حتى لو انفرجت الأزمات الوقتية. علو الأصوات وقت الأزمات ووقت تصاعد العنف والدمار أمر طبيعي، ما هو غير طبيعي هو أن تختفي تلك الأصوات العالية مع الانفراج المؤقت لها أو مع طول الأزمة وملل الناس منها وانشغالهم بغيرها وتناسي أن السبب الرئيسي لها لم يزُل. توقف الحديث عن المشاكل بشكل عام هو نتيجة طبيعية كما ذكرنا من قبل، وهو نتيجة إيجابية تدل علي انفراجها، لكن توقفه دون ذلك الانفراج الجذري يجعل من الأصوات ليست إلا عبثا.

الحديث الإيجابي العاقل يجب أو يوجه بصياغة سليمة وهدف واضح ولجمهور معروف سلفا. لا داع للإطالة في شرح ما أقصده لأنني تحدثت عن ذلك الأمر في مقالات سابقة بإسهاب. الطرح السلبي للقضايا، بغض النظر عن نية أصحابه، قد يضر أكثر مما ينفع، قد يسبب كآبة ومللا وغضبا، وقد يستغله البعض بدهاء وخبث رغم إخلاص المثيرين لذلك الطرح وصدقهم. الحل الأمثل هو أن تتبنى الطرح الإعلامي والتوجيه الثقافي جهات منظمة على درجة عالية من الذكاء والوعي والثقافة والعلم والاطلاع على أصول العمل الإعلامي وبتمويل سخي وإدارة شفافة ومنظمة، وذلك ليس بأمر مستحيل ولا بالغ الصعوبة.

العمل الشخصي الفوضوي لا يمكن أن يحقق هدفا بعيد المدى، مفيد في أوقات وظروف معينة ولا أشك في ذلك، ولكن دون التوجيه والتنظيم فإني لا يمكن أن أثق به ولا أعتمد على نتائجه. وكذلك لا يعتمد على تحركات المنظمات والجهات السياسية والدينية لأنه لا يمكن ضمان توجهاتها ونواياها وأهدافها ومصالحها. نعم قد نلاحظ على وسائل التواصل الاجتماعي أفرادا يؤمنون بقضية ويتحدثون عنها من حين لآخر بحماس وبشبه ثبات، لكن نشر هؤلاء الأفراد عن القضية بوستا أو اثنين بين الحين والآخر وسط منشوراتهم عن هواياتهم وأخبار أبنائهم وآخر المطاعم التي زاروها أو حتى الكتب التي قرؤوها هو أمر لا يعول عليه! مهما كان الفرد مؤثرا ومشهورا ومحبوبا فإن تبنيه للقضية -رغم إيجابيته- لا يمكن أن يكون بقوة التبني المؤسسي لها. الفرد متغير، حتى أحبابه قد ينقلبون ضده في يوم ما، أو يملون حديثه، وينقلبون حتى على أفكاره وقضاياه، وقد يغير هو آراءه… بل قد يموت الفرد! بينما المؤسسة ثابتة، لها أهداف وتوجهات وخطط واضحة لا تتغير بتغير الأفراد، وهنا يبرز الفرق.

من الطبيعي جدا أثناء الأزمات أن تنتشر بين الناس ثقافة قد تبدو في ظاهرها إيجابية. عند الأزمات يظهر علي السطح “ما يشبه الوعي”، وعي وهمي، لا يمكن لأحد أن يقنعني أن تلك الثقافة إيجابية الظاهر أمر جدي ولا أنها تغير حقيقي بالمجتمع! كم من أزمة أشعرتنا بأننا باطنيا بخير، وأن حياتنا ستتغير من بعدها؟ فهل فعلا تغيرت؟ أم أن الطبع غلاب؟ أم أن هناك من هو أشطر منا كشعوب ولديه السلطة والقدرة والمكر كي يعيدنا إلى ما كنا عليه من تجهيل وتسخيف وضياع… وبؤس؟ ربما الأمر خليط من الكل، شعوب ضائعة مع التيار وأصحاب سلطة (سياسية وتجارية وفكرية) ميكافيليين يجيدون السيطرة والتحكم لتحقيق مصالحهم الخاصة، لكن فوق ذلك كله، وسبب تلك الدوامة اللامنتهية من الوعي الوهمي والضياع الحقيقي والجوهري… هو الفوضى!

في عز صدمتنا بجائحة كورونا كتبت مقالا تحدثت فيه بوضوح وتفصيل عن كيف غيرت تلك الأزمة ثقافة الناس، خاصة ثقافتهم الاستهلاكية. أثناء تلك الأزمة كنا موقنين بأننا يجب أن نتغير، بل أننا بالفعل تغيرنا ولا يمكن أن نرجع لسلبيات ما قبل الكورونا من فكر استهلاكي واقتصاد هش كعجينة السمبوسة! أدركنا بالفعل بأننا أشطر من التجار، لكنه كان إدراكا فوضويا وهميا، وغلبونا التجار! كتبت ذلك المقال وأنا أرى بعيني تلك التغييرات الإيجابية التي طرأت على فكر الناس وحديثهم وأفعالهم، كان الأمر أشبه بعالم يوتوبي مثالي مرئي وموثق، لكن رغم ذلك، بنهاية المقال، لم أتفاءل… كما أني لا أتفاءل اليوم! كان لدي آمال، مثل آمالنا جميعا في خضم نشاطنا وتفاعلنا مع أي أزمة، بأن هذه المرة “غير”، بأن تغييرا حقيقيا سيحصل، بأن هذا الجهد الذي بذل سيأتي بنتجية وحل حقيقي، بأن هناك قرارا سيتخذ ونظاما سيقر، لكن من نخادع غير أنفسنا؟ الآمال شيء والواقع شيء آخر، ومع كل أزمة وكل اضطراب بالمجتمع تتكر نفس السلسلة من الصدمة والوعي الوهمي ومن ثم النسيان والعودة للضياع، لأن الوعي لم يتأصل والجذور لم تعالج، لأننا نبحث عن الحلول الأسهل والأسرع، لأننا نعشق المخدر السريع ولا نرتضي لأنفسنا القليل من التعب في سبيل إيجاد نظام حقيقي نسير عليه في حياتنا، وفي ظل فوضانا لن نجني غير خدر زائل، بعده سيعود الألم، ويستمر النباح الأبدي.

ذا فورس: توازن النور والظلام بعالم حرب النجوم

إذا سألنا ما هو أفضل، الخير أم الشر؟

بالتأكيد الأغلبية الساحقة ستجيب ببساطة: الخير!

لكن هل فعلا الموضوع بهذه البساطة؟ إن كان الأمر كذلك لماذا إذا ليس جميع الناس “أخيارا”؟

هناك الكثير من النظريات الفلسفية عن هذا الموضوع، وتناولته عدد لا يحصى من القصص والروايات والملاحم، واحدة منها هي نظرية حرب النجوم، فما هي هذه النظرية؟

أساس النظرية هي فكرة القوة، أو ذا فورس The Force، وهي نوع من الطاقة اللامرئية التي تربط أجزاء الكون ببعضها.

في أغلب القصص والفلسفات والعقائد نجد أن هدف الإنسان يجب أن يكون انتصار الخير على الشر، لكن في عالم ستاروورز الهدف ليس بهذه البساطة، فالهدف هو اتزان الفورس.

تنقسم الفورس إلى قسمين:

النور the light side، ممثلا بالجيداي، تقليديا أصحاب السيوف الزرقاء.

الظلام the dark side، ممثلا بالسيث، أصحاب السيوف الحمراء… تقليديا.

كل قسم منهم في حرب دائمة مع الآخر، بل داخل كل شخص وكل شيء تظل هذه الحرب مستمرة، فالمسألة ليست أن أصحاب السيوف الزرقاء طيبون وأصحاب الحمراء أشرار! ذلك تبسيط قد يكون مقبولا من طفل مثلا، لكنها تسخيف للفكرة العميقة للنظرية.

لا يمكن أن ينتصر طرف من أطراف هذه الحرب على الآخر بشكل مطلق، لأن ذلك سيتسبب بخلل في توازن الفورس! لذلك نجد هذه الحرب المستمرة بين النور والظلام متمثلة بالحرب الدائرة بين قوى الجمهورية والإمبراطورية (بصورهم المختلفة)، كما نجدها متمثلة بالصراع النفسي الدائر داخل عقل وروح الأشخاص ذاتهم. فالحرب (العسكرية والنفسية) هنا شيء طبيعي، هي جزء من عملية التوازن.

طلال الميعان

من البديهي أن نعتبر نصر قوى الظلام شيء سلبي، لأنها تمثل القيم والمشاعر “السلبية” كالطمع والرعب والألم والانتقام. لكن بنفس الوقت إن تمعنا بالموضوع سنجد أن قوى النور لا تقل عنها سلبية!

نعم الجيداي يظهرون بمظهر الخير المطلق، لكن وصولهم لهذا الشكل يتطلب منهم التضحية بالكثير من الأمور التي لا يمكن أن تنصلح الحياة دونها. فالجيداي يجب أن يتخلى نهائيا عن عاطفته، عن رغباته، عن طموحه، عن شخصيته وذاته. فيكرس حياته تماما من أجل النور.

بمعنى آخر، لو تحول كل الناس إلى الجانب المنير (كالجيداي) لخربت الحياة خرابا لا يقل كارثيةً عن خراب تحولهم للجانب المظلم! فهل من الممكن أن يعيش الإنسان دون أبسط المشاعر مثل الخوف والغضب والكره والمعاناة؟ مشاعر الطريق المظلم كما تسمى!

من أجل ذلك التركيز هو على التوازن، فكل إنسان، وكل نظام كوني يحوي داخله على نور وظلام.

الإمبراطورية “الشريرة” نشأت أساسا لتقاوم فساد الجمهورية وبيروقراطيتها وغرورها، فهي ليست شرا مطلقا، لكنها حركة إصلاحية انزلقت لاحقا في طريق الظلام.

دارث فيدر “الشرير” ثار على رفاقه السيث من أجل ابنه… كما ثار قبلها على رفاقه الجيداي من أجل زوجته… مما يجعل من شخصيته واحدة من أعقد وأروع شخصيات الخير/شر… فلله درك يا أنيكان سكاي ووكر!

صراع النور والظلام مستمر، نجده حولنا وداخلنا. لا يمكن لأحد، فردا كان أو نظاما، أن يدعي أنه يمثل النور المطلق، ولا أن يتهم غيره بالظلام المطلق، فبمجرد ما أن يفكر بهذه الطريقة فإنه سينزلق بطريق الظلام. المسألة هي مسألة نقاش و تشكيك وبحث دائم عن مكامن الظلام داخلنا أو من حولنا ومحاولة لاستبدالها بالنور… دون التخلي عن ما يعطي حياتنا طعما ولونا ومتعة وشغفا. ليس الأمر سهلا، فهو صراع … من أجل التوازن.

May the Force be with you

الرقيب المسكين: لماذا يلام المثقفون على رقابة الكتب؟

حاجز رقابة الكتب

 

نشرت جريدة الجريدة مقالا مطولا بعنوان كواليس الرقابة في الكويت: حماية للمقدَّسات أم تكميم أفواه؟ تحدث فيه الكاتب عن نطام رقابة الكتب بالكويت متهما إياه – بالطبع – بقمع الآراء وتكميم الأصوات وتقييد الحريات والرزوخ تحت طائلة الجهل والتخلف والتناقض، وهو أمر نتفق به مع الكاتب، ولكن… مرة أخرى… توجه الاتهامات إلى وزارة الإعلام (الحكومة) وكأنها العملاق الشرير الراعي للجهل والتخلف والمعادي لمصلحة الشعب! وتلك صورة ليست حقيقية… بالكامل 🙄، فالمتفهم لآلية عمل إدارة رقابة المطبوعات يعلم بأن ما يسيطر عليها أقرب للجُبن من الشر!

من يكتب تقارير الكتب التي انتشرت مؤخرا هم موظفون يشكلون أضعف حلقة من حلقات السلسلة الرقابية، التقارير التي تخشى من أي ذكر لكمة “نهد” أو من صورة بطن “ليتيل ميرميد” المكشوف، وخشيتهم تلك مبررة كما سيتضح لنا لاحقا. قبل ذلك علينا أن نفهم آلية عمل إدارة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام حتى نستطيع فهم تلك المخاوف التي أنتجت تلك التقارير المخجلة.

 

 

إبداعات رقابة الكتب

آلية الرقابة

إدارة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام هي إدارة حكومية تقليدية، ومشاكلها تشبه مشاكل أي إدارة حكومية أخرى من روتين وبيروقراطية… وربما بعض الفساد وسوء الإدارة. يقدم الكاتب/الناشر/المطبعة لها نسخا من الكتاب من أجل أن يحصل علي “الفسح” الذي يمثل تصريحا منها لبيعه ونشره في المكتبات الكويتية، وبعد خطوات إدارية معينة يصدر عن الإدارة إما كتابا بالفسح أو عدمه.

عند تقديم الكتاب للإدارة يتولى الاطلاع على محتوياته واحد من مجموعة من المراقبين، وبعد الاطلاع يكتب الرقيب تقريرا إما بالفسح أو بوجود “ملاحظات” على محتوى الكتاب، فإن وجدت ملاحظات يعتبرها الرقيب بوجهة نظره مخالفة لمواد قانون المطبوعات فإنه يدرجها بتقريره مع ذكر تلك الفقرات أو الصور مع أرقام صفحاتها ويرفع الكتاب للجنة رقابة المطبوعات.

لجنة رقابة المطبوعات هي لجنة تتكون من مجموعة من الكتاب والأدباء والعلماء والأكاديميين بتخصصات مختلفة (المفروض يعني!)، تجتمع اللجنة أسبوعيا (المفروض يعني!) لمناقشة التقارير المرفوعة لها من مراقبي الكتب وهي التي تصدر القرار النهائي إما بالأخذ بما ورد بتلك التقارير أو ببعض منه ومن ثم منع الكتاب، أو عدم اقتناعها بما ورد وبالتالي إصدار قرار بالفسح.

في حال صدور قرار بالمنع فيتم إخطار الكاتب/الناشر/المطبعة بذلك، وهنا يكون مقدم الكتاب أمام واحد من الخيارات التالية:

– الاستسلام، وبالتالي يمنع الكتاب ويكتفى بنشره خارج الكويت
– إصدار طبعة جديدة معدلة تراعي ملاحظات الرقيب، ومن ثم تقديمها مرة ثانية للإدارة
– التظلم

في حال التظلم فإن الكتاب – المفروض – يعرض على لجنة التظلمات التي تشكلها إدارة المطبوعات، فإن رفضت اللجنة التظلم يمكن للكاتب أن يلجأ للقضاء.

عملية طويلة ومملة ومعقدة كما نرى، لكن يجب أن يفهمها كل كاتب وناشر ومهتم بمسألة الرقابة والحريات.

الرقيب الحقيقي

تذكرون الأصوات التي تتعالى بشكل خاص مع كل معرض كتاب المتباكية على القيم والأخلاق والعقيدة والوحدة الوطنية من قبل “شرفاء” الأمة ومحتسبيها؟ وصور صفحات الكتب التي تنتشر على تويتر بغضب حينا وبسخرية حينا آخر؟ مطالبات بريئة… أليست كذلك؟ ما يحدث بعدها أن تلك الأصوات تلتقط من قبل “شرفاء” النواب المنساقين للفزعة الشعبية… فيصبون جام غضبهم وويلات دعواتهم على من؟ … نعم، وزير الإعلام!

من تعتقدون سيحاسِب وزير الإعلام كرد فعل على غضب النواب ممن التقطوا أصوات محتسبي الشارع؟ الحلقة الأضعف بالطبع! موظفو الرقابة! كيف فاتتكم هذه الصفحات؟! لم لم تقوموا “بواجبكم” على أكمل وجه؟! بهذه الحالة ما حيلة موظفي إدارة الرقابة سوى أن يسدوا الباب على أي احتمال لأن يتعرضوا للمحاسبة لاحقا… حتى لو كان احتمال تعرضهم للمسؤولية سببه بطن “ليتيل ميرميد”! ولهم الحق بذلك! “التساهل” بالنهاية ليس من مصلحة الرقيب، أمنع الكتاب وأرتاح أفضل لي من أن أغامر بفسحه ليتقط من من أحد المحتسبين ليضع صفحاته على تويتر لأوبخ أنا على تقصيري بعملي!

كموظف بإدارة الرقابة لن تنفعني مبادئ الحرية والديموقراطية ولا الثقافة ولا الأدب ولا الفلسفة ولا التاريخ… إن كان الثمن سيخصم من معاشي! الكتاب والمؤلفون والمثقفون ليسو شيئا مهما! لن ينفعوني بشيء! ولا هم أهل قوة وسلطة وتأثير علي!

بهذه المنظومة التي فصلناها نجد أن المحرك الأساسي لعجلة الرقابة ليس موظف الرقابة، ولا وزير الإعلام، وبالتأكيد ليس الكاتب والمثقف، من يضغط باتجاه المنع والقمع والتحسس من الحريات هم رجال السياسة من النوابتحقيقا لرغبات الشعب الورع التقي الوطني المرهف الحساس الحريص على أخلاق العباد ودينهم ووحدة صفهم 😒. السياسي من الذكاء بحيث أنه يعي ذلك، يعرف كيف يتلون من أجل أن يرضي شخصية المحتسب العساس في أسواق الثقافة!

ما رأي الشارع؟

بالتأكيد الشارع (حاليا) ليس متعاطفا مع الكتاب والمؤلفين… فبوجهة نظره هم أهل البدع والتفسخ والانحلال كما نقرأ باستمرار… أهل “النهود“… مخربي الأخلاق وشاقي وحدة الصف المتآلف!

لم لا يتعاطف الشارع مع الكتاب ودعواتهم للحريات؟ لم يرفض الشارع مبادئ الحرية وتعدد الأراء؟ الجواب الشائع والطبيعي هو… بسبب وقوعه تحت سيطرة قوى التخلف والجهل والظلام، وهي سيطرة لها بعد تاريخي عميق وأخذت عقودا طويلة حتى تكتمل سيطرتها على وجدان ذلك الشعب. بكل صراحة لا نستطيع أن نلوم الشارع على موقفه، لأنه مقتنع – بشكل أو بآخر – بأن للرقابة دور إيجابي في حفظ المجتمع، وهي قناعة حقيقية بالنسبة له ما لم يثبت له غير ذلك.

الجواب الأخص والأهم… لأن الشارع لا يستطيع فهم ألائك الكتاب والمثقفون من يملكون رأيا مخالفا لما هو سائد! فكلامهم “سواحيلي” بالنسبة لهم!

أعجبك مقال الجريدة المذكور بأول هذه التدوينة؟ لقد أعجبك فقط لأنك تريده أن يعجبك! “الشارع” لن يعجبه المقال… لأنه لن يقرأه! فهو مقال طويل معقد ومليء بكلمات مثل “الحق المجتمعي” و”منطق المزايدة” و”المقرر الأيديولوجي“! مقال لم يوجه للشارع أساسا… بل موجه لجمهور خاطئ… لأناس لا يحتاجونه أساسا! فمن يستمتع بقراءة مثل تلك المقالات الطلسيمة هو غالبا قارئ رافض لمبدأ المنع، كل “قارئ” بطبيعة الحال هو شخصية رافضة للمنع… كما يرفض الصياد منع الصيد ويرفض الرياضي منع الرياضة مثلا.

كيف نغير الوضع الحالي؟

بالطبع يجب تغيير ثقافة الشارع، ومن سيغير ثقافة الشارع سوى المثقفون؟… ولكن…
ما يقوم به معظم مثقفونا في نشاطاتهم وتصريحاتهم وندواتهم وتغريداتهم هو بكل بساطة عملية فرد للريش واستعراض للعضلات البلاغية المستنكرة للقمع وكتم الأصوات وتكبيل المعاصم! استعراض عنتري لن يخيف وزير الإعلام… ولا موظف إدارة الرقابة الذي كتب تلك التقارير التي استحقرناها أو سخرنا منها! لم سيخاف الوزير من تغريدة مؤلف قصص؟ أو يخشى موظف الرقابة من شاعر؟ أو يهتز نائب برلمان لكلام كاتب مقالات فلسفية؟

كتابنا ومؤلفونا ومثقفونا الأعزاء… ليس لكم قيمة!
إن أردتم أن يحسب لكم حساب… وإن أردتم أن تصبح لكم قوة حقيقية… فحاولوا كسب الشارع! ليفهمكم الشارع قبل كل شيء، ليتعاطف معكم الشارع، ثم ليدافع عنكم الشارع! ولن يحدث ذلك إلا إذا خاطبتموه بلغته ولسانه. الكلام البلاغي وكلمات مثل “منطق المزايدة” و”المقرر الأيديولوجي” لن تثير لدى الشارع سوى رغبته بالتثاؤب!

عوضا عن ذلك حدثوه بلغة “فيها نزوات الأطفال وفيها إحساس البسطاء” (كما يقول نزار قباني) وبأدوات قريبة من قلبه… كالشعر والقصة والأغاني والمسرح والدراما… وليس الفلسفة والمقالات النقدية والتغريدات المبهمة والندوات التي لا يحضرها سوى “ربعكم” من المثقفين! وحتى مع كل ذلك اصبروا عليه، كما تصبرون على شقاوة طفل مدلل، فتغيير المجتمع عملية طويلة ومتعبة ومعقدة، لكنها ممكنة إن تعاملنا معه بذكاء.

فخ الحريات في قانون تنظيم الإعلام الإلكتروني الكويتي

فخ الحريات

 

قد يكون مر عليك كتيب إلكتروني يحمل عنوان قوانين غير دستورية يحوي نصوص وتاريخ قوانين أقرها مجلس الأمة الكويتي… ولكن بها شبهة مخالفة مبادئ الدستور، كالقوانين المقيدة للحريات أو المنتهكة لحقوق الإنسان أو الممارِسة للتمييز العرقي أو الجنسي أو غيرها من المبادئ المناقضة لروح الدستور. فحسب النظام الديموقراطي الكويتي الدستور هو الأساس، والقانون موجود لتطبيق ذلك الدستور عمليا، فلا يجوز أن تخالف القوانين التي يصدرها مجلس الأمة مواد الدستور، لكن يحدث أحيانا – لسبب أو لآخر – أن تحصل بعض القوانين على أغلبية نيابية ومباركة حكومية وسكوت شعبي رغم فداحة محتواها! بالطبع فإن مثل تلك القوانين من المفروض أن تعدل بواحدة من طريقتين، إما باقتراح قوانين جديدة، أو بإحالتها للمحكمة الدستورية. لكن بما أننا شعوب كسولة في بعض الأحيان، أو متواطئة مع الظلم في أحيان أخرى، بقيت تلك القوانين غير الدستورية على حالها!

تصحيح… لم تبق القوانين غير الدستورية على حالها… بل أنها ازدادت وتكاثرت مؤخرا، ومن المفترض زيادة فصول الكتيب آنف الذكر وتحويله لكتاب… أو مجلد… لمواكبة الفاجعة الدستورية التي نرضخ تحت طائلتها!

 

(مشروع) قانون تنظيم الإعلام الإلكتروني

أحدث القوانين التي يجب أن تضم إلى كتيب العار هو ما يطلق عليه اسم (مشروع) قانون تنظيم الإعلام الإلكتروني، والذي ستعرضه الحكومة على مجلس الأمة، المجلس الذي إن استمر على ما عهدناه – وعهدنا شعبنا عليه من سلبية – سيقر ذلك القانون وسيصبح ساريا ومطبقا على رقاب وأفواه الكل.

الظاهر من القانون هو أنه قانون ينظم النشر الإعلامي الإلكتروني، أي يعطي القانون قوة على النشر الإلكتروني تعادل قوته على النشر التقليدي. أي أنه كما تحتاج الصحف إلى إصدار تصريح ينظم عملها وتخضع لرقابة لاحقة على محتواها (لكي لا تنشر ما هو مسيئ أو مخالف)، فإن هذا القانون الجديد جاء (ظاهريا) لتنظيم بعض المواقع والخدمات الإعلامية الإلكترونية كذلك، تجنبا لحالة الفوضى والفراغ القانوني الذي تعاني منه الآن.

قد تتفق مع هذا الهدف (الظاهري) أو لا تتفق، أنت حر برأيك. مشكلتي شخصيا ليست مع “الظاهر” بل مع “الباطن“.

القانون باختصار شديد يلزم “المواقع الإلكترونية الإعلامية” بالحصول على ترخيص من وزارة الإعلام لممارسة أعمالها، وطبعا ذلك وفق شروط محددة، كأن يكون المقدم كويتي الجنسية لا يقل عمره عن ٢١ سنة، أن يودع مبلغ ٥ أو ١٠ آلاف دينار، أن يعين مديرا للموقع، أن يحدد نشاط الموقع… الخ.

يُخضع القانون الموقع الإلكتروني لشروط عديدة، أهمها هو تحري “الدقة” بما ينشر فيه، وتجنب نشر “المحظورات” من المواضيع التي حددها قانون المطبوعات.

وطبعا مخالفة بنود القانون تعرض صاحب الموقع لعقوبات تتراوح بين إلغاء التصريح أو وقفه أو حجب الموقع… نهائيا أو مؤقتا، وذلك بالإضافة طبعا لعقوبات قانون المطبوعات التي تتراوح ما بين الغرامة وتصل حتى السجن!

ذلك ما كان من أمر المواقع المصرح لها. طيب، ماذا عن “المواقع الإلكترونية الإعلامية” التي لم تتقدم للحصول على تصريح؟ ما عليها شي؟

لا طبعا… عليها ونص!

من يمارس الأنشطة المذكورة بالقانون دون ترخيص يعاقب بغرامة تتراوح ما بين ٣ إلى ١٠ آلاف دينار، مع حجب الموقع نهائيا!

السؤال الأساسي الذي حير الخبراء والعلماء في هذه المسألة هو:

ما هي “المواقع الإلكترونية الإعلامية” أصلا؟!

وهنا تكمن المصيدة!

 

المصيدة الإلكترونية

المادة ٤ من (مشروع) القانون تنص على التالي:

يسري هذا القانون على المواقع الإعلامية الإلكترونية التالية:
١. دور النشر الإلكتروني.
٢. وكالات الأنباء الإلكترونية.
٣. الصحافة الإلكترونية.
٤. الخدمات الإخبارية.
٥. المواقع الإلكترونية للصحف الورقية والقنوات الفضائية المرئية والمسموعة.
٦. المواقع والخدمات الإعلامية التجارية الإلكترونية.

أغلب هذه التعريفات واضحة وقد تكون مقبولة، أي أن وكالات الأنباء أو الصحف أو دور النشر “مؤسسات” مطلوب منها إصدار تصريح على أي حال لمزاولة عملها “التقليدي”، بالتالي من الممكن أن نتقبل “مبدأ” ضرورة الحصول على تصريح لنشاطها الممتد إلكترونيا. قد يكون لدينا اعتراضات إجرائية على ذلك… لكن “سنطوفها” حاليا.

لكن، إذا انتبها لمنتصف الأنشطة المذكورة سنجد في البند ٣ كلمة مبهمة وهي “الصحافة الإلكترونية“… وهنا يدق ناقوس الخطر!

 

ما هي “الصحافة الإلكترونية”؟

إنها كلمة مطاطة بالفعل! هل مدونتي هذه تدخل ضمن تصنيف “الصحافة الإلكترونية”؟ هل حسابك على الفيسبوك أو تويتر أو سناب تشات يدخل ضمن “الصحافة الإلكترونية”؟

تصريحات الحكومة الكلامية تقول “لا، لن نمس بالمدونات والمواقع الشخصية!“، ومرة أخرى نسأل، ما معنى “شخصية”؟ شخصية في ذات من يملكها؟ أم شخصية في محتواها؟ هناك فرق كبير بين الأمرين!

قد تنقذنا من هذه الحيرة المذكرة الإيضاحية التي تنص على التالي:

“ويستفاد من الحصر السابق للمواقع الإعلامية الإلكترونية [المادة ٤] أن القانون لا ينسحب أثره على الحسابات الشخصية الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الشخصية مثل (المدونات) وذلك لكونها تخرج عن نطاق الإعلام الإلكتروني المهني وبالتالي تنطبق عليها القوانين الأخرى”

تمام، لكن هنا نلاحظ ورود مصطلح جديد، وهو “الإعلام الإلكتروني المهني“، ما المقصود بذلك؟!

المادة الأولى من القانون تعرف “الموقع الإعلامي الإلكتروني” بأنه:

“الصفحة أو الرابط أو الموقع أو التطبيق الإلكتروني الذي يتصف [بالاحترافية]، ويصدر [باسم] معين وله عنوان [إلكتروني] محدد، وينشأ أو يستضاف أو يتم النفاذ إليه من خلال شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت” أو أي شبكة اتصالات أخرى.”

وذلك كما نلاحظ وصف لآلاف المواقع والمدونات والحسابات التي نعرفها، الفيصل الوحيد هو صفة “الاحترافية” والتي لا أدري من أين جاءت وكيف يمكن تحديدها!

من ناحية أخرى نفس المادة تعرف “الصحيفة الإلكترونية” بأنها:

“موقع إلكتروني يقدم من خلاله المحتوى الإلكتروني المتضمن الأخبار والموضوعات والمقالات ذات الطابع الصحفي أو الإعلامي وتصدر في مواعيد منتظمة أو غير منتظمة”

يا إلهي! الأخبار عرفناها، “الموضوعات والمقالات ذات الطابع الصحفي أو الإعلامي” ماذا تعني؟ المقالات مثلا؟ الأفلام الوثائقية؟ مرة أخرى… مدونتي تحوي مقالات ومواد إعلامية مصورة قد تكون “احترافية” وتصدر في موعيد “غير منتظمة”، فهل مدونتي تعتبر “صحيفة إلكترونية” و”موقع إعلامي إلكتروني”؟ أم أنها موقع شخصي ولا يدخل ضمن نطاق “الإعلام الإلكتروني المهني“؟

تصريحات الحكومة شيء، ونصوص القانون شيء آخر. عندما يصدر قرار إداري أو حكم قضائي فإن الفيصل فيه هو نص القانون… وليس تصريحات الوزير!

ما معنى الشخصانية عندما تتحدث المذكرة الإيضاحية عن عدم مساس القانون بـ”الحسابات الشخصية” لأنها لا تدخل ضمن “نطاق الإعلام الإلكتروني المهني“؟ هل “شخصية” تعني أنها تابعة لشخص وليس لمؤسسة؟ ماذا عن المدونات التي يشرف عليها مجموعة من الكتاب والمحررين المستقلين؟ ماذا عن حسابات اليوتيوب التابعة لفرق الهواة من الفنانين؟

هل تحتاج الصحف ودور النشر مثلا لترخيص إن أرادت أن تنشأ لنفسها حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتواها؟ لا؟ طيب، ماذا لو قام مدير تحرير إحدى هذه الصحف بإنشاء حساب “شخصي” على الفيسبوك مثلا وقام بنشر نفس المحتوى؟ ماذا لو قمت أنا الفرد الفقير لله بنشر ذات المحتوى على مدونتي؟ هل مازالت هذه “البدائل” تدخل ضمن تعريف “الحسابات الشخصية” أم أنها ستتحول إلى “إعلام إلكتروني مهني“؟ إذا بقيت “شخصية” فتلك الفوضى بعينها! ما فائدة القانون إذن؟

المسألة “الشخصية” هنا من الممكن اعتبارها تتعلق بمحتوى الموقع الإلكتروني وليس بشخص صاحب الموقع، أي أن “الموقع الشخصي” قد يعرف بأنه الموقع الذي يحوي مواضيع خاصة، كصور سفرتك إلى لندن، خاطرة أدبية كتبتها، رأيك في وجبة تناولتها في مطعم، تعبير عن أعجابك بمسلسل تتابعه… الخ. أما إن كانت مواضيع موقعك أو حسابك تتحدث عن نقدك للسياسية الاقتصادية لمنظمة أوبك، ملاحظاتك لظاهرة اجتماعية جديدة، رأيك في صراع سياسي إقليمي دائر، دفاعك عن قضية إنسانية محلية… الخ، عندها قد يأتي إليك من يقول بأنك قد خرجت بمواضيعك هذه عن نطاق “الموقع الشخصيودخلت في الشأن العام… وبالتالي فإن موقعك أو حسابك أصبح من ضمن “الإعلام الإلكتروني المهني“، لذلك عليك أن تودع في خزينة الدولة ٥ أو ١٠ آلاف دينار لتستخرج تصريحا يضمن لك استمرار موقعك، هذا بالطبع على اعتبار أنك كويتي لا يقل عمرك عن ٢١ سنة وتنطبق عليك جميع الشروط… وإلا ابحث لك عن كفيل!

القانون غير واضح بشكل مريب جدا، فكلمة “مؤسسة” لم ترد فيه، فعلى خلاف دور النشر والصحف والخدمات الإخبارية فإن كلمة “الصحافة الإلكترونية” لا تعريف لها لا في هذا القانون ولا غيره من القوانين، وكأنها وضعت بنية اللجوء لها من قبل الحكومة “عند الحاجة“.

فإن نشرت في موقعك أو حسابك الخاص أي شيء تراه الوزارة بأنه غير “شخصي” بإمكانها أن تغلفه بغلافالاحترافية” و”المهنية” وتجبرك على إصدار التصريح… وإلا تعرض نفسك للمساءلة وتحال للنيابة وقد تدفع غرامة ما بين ٣ إلى ١٠ آلاف دينار بتهمة مزاولة نشاط دون ترخيص، ويحجب موقعك نهائيا ومباشرة دون الحاجة لحكم من المحكمة!!

مرة أخرى، نصوص القانون والمذكرة الإيضاحية له (كما فصلت) هي ما يمكن الاستناد عليه بنظر القضاء، التصريحات والكلام المطمئن والمخدر والمدغدغ للعواطف لا فائدة منه، بل هو أسلوب يستخدم لاستغفالك وجعلك تبلع الطُعم دون أن تدري. هل تثق بالحكومة ووزارة الإعلام ثقة عمياء ومستعد لتسليمها “الخيط والمخيط” لأنها “أبخص” وتعرف ما تفعل من أجل “حفظ الأمن والأمان” و”زين تسوي فيهم“… و”وطني حبيبي وطني الغالي“؟! هنيئا لهم حصولهم على ثقتك هذه، أما أنا ومن خلال اطلاعي وخبرتي وتجاربي مع وزارة الإعلام بالذات… بصراحة… لا أثق بإعطائهم تلك السلطة المتمثلة ببنود هذا القانون بصورته الحالية، ستكون كارثة جديدة سنندم ونبكي عليها كثيرا بعد فوات الأوان!

 

طيب وما الحل؟

هناك عدة أمور يمكن اللجوء لها لمقاومة (مشروع) القانون هذا. عمليا، إن تم إقرار القانون فسينتعش سوق الحسابات الوهمية. شخصيا سأغير اسمي من مؤيد إلى “فريد“! ولندع وزارة الإعلام تلاحق هذا الـ”فريد” الذي ينشر تدويناته وتغريداته من حسابه الذي أنشأه في جمهورية الدومينيكان! نعم ذلك ليس حلا منطقيا… لكنه قد ينفع في هذا الزمن المظلم.

الحل الأصح هو الوقوف الجاد في وجه هذا القانون المشبوه وعباراته المطاطة!

نعم، يجب أن يرفض مشروع القانون هذا بشدة ويقتل في مهده. حتى الآن هناك أمل، فمشروع القانون هو مسودة أساسية، يجب أن يعرض على مجلس الأمة ويناقش ويقر بالأغلبية حتى يصبح ساريا. وهذا الأمر مخيف، فأعضاء مجلس الأمة الحالي يخشى منهم بصراحة بسبب مواقفهم السابقة. فمشروع قانون الصوت الواحد أقر من هذا المجلس، وقانون البصمة الوراثية أيضا أقر من قبل قبل هذا المجلس… ومن دون حتى مناقشة! لذلك إن تُرك أعضاء المجلس بحال سبيلهم فأقولها لكم… على الحرية السلام!

لابد من إثارة هذه القضية شعبيا بين أوساط المدونين والمغردين وغيرهم من أصحاب الشأن، كما يجب إثارتها ثقافيا بين أوساط الإعلاميين والحقوقيين والأكاديميين. يجب إيصال صوت الرفض لهذا المشروع وصيغته المهلهلة إلى أعضاء مجلس الأمة والضغط عليهم لرفضه… أو على الأقل تعديله. ونعم، إن تطلب الأمر فلا خير فينا إن لم ننزل للشارع للمطالبة بحريتنا، فحريتنا على الإنترنت هي آخر أعواد القش التي نتمسك بها… إن فقدنها فمصيرنا هو الغرق في بحر العار!

عندما منعت كتبنا قيل لنا “انشروها على النت” أو “انشروها خارج الكويت وسنشتريها عبر النت“. عندما أقفلت صحفهم قالوا “ما حاجتنا للورق، لدينا فضاء الإنترنت!“، عندما قيدت تجمعاتكم ومسيراتكم قلتم ““لا تنفروا في الحر”، لديكم الإنترنت… فغردوا كما تشاؤون فيه!“. فكيف ستصنعون إن منع عنكم التعبير على النت؟

أو لا تفعلوا شيئا، سيكون النت جميلا إن تفرغ له أهل البلع والبوح والتهريج… والفاشينيستا!

وهم الأمان

 

جانب من المعزين لأهالي ضحايا تفجير مسجد الإمام الصادق في الصوابر، مسجد الدولة الكبير، الكويت، ٢٧ يونيو ٢٠١٥
جانب من المعزين لأهالي ضحايا تفجير مسجد الإمام الصادق في الصوابر، مسجد الدولة الكبير، الكويت، ٢٧ يونيو ٢٠١٥

 

لا شماتة بالموت أو بالمصائب! تلك حقيقة لا خلاف عليها. فلا يرجى لضحايا أي مصيبة إلا الرحمة، ولا للمصابين بها إلا الشفاء، ولا لأهلهم إلا الصبر والأجر. نعم نتعاطف مع الضحية، ونغضب على المجرم، كما نفرح للخير الذي نراه في الناس، ونعتز بصدق وصلابة الموقف. لكن تلك المشاعر وحدها لا تكفي!

 

المسجد الكبير

 

الحزن والغضب والحماس تبقى بالنهاية ردود أفعال طبيعية على حدث كالذي أصاب الكويت، نعبر بها ونتقبلها… لكن لا يجب أن نكتفي بها! وأقول بأنها طبيعية لأنه واقعيا وتاريخيا دائما ما يتكاتف الناس وقت الأزمات والمحن ويتوحدون إذا ما شعروا بوجود خطر خارجي مسلط عليهم، لذلك رغم فرحتنا بهذا التكاتف والتوحد فلا يجب أن نعول عليه الكثير أو نعتبره الحصن المنيع الذي سيظل يحمينا إلى أبد الآبدين! فلابد لنا من القراءة والتحليل والتفسير والتقييم لما حدث ويحدث لنا ومن حولنا، تلك هي خطوات النقد السليمة، وهي كما نرى خطوات عقلية لا مجال فيها للعواطف. إن كنت ترفض إشغال ذلك العقل الناقد القابع في رأسك فلا تتابع بقية كلامي… يمكنك أن تكتفي بمتابعة قنوات الإعلام المحلية!

 

مدخل المسجد الكبير

 

على العقل الناقد أن يسأل: هل ما حدث كان مفاجأة غير متوقعة؟ هل نحن محصنون عما يدور حولنا من عنف؟

لست مسرورا على الإطلاق بقولي أننا كنا، وربما ما زلنا، نعيش في وهم الأمان!

وهم الأمان الذي أتحدث عنه برأيي نابع من مصدرين أساسيين:

١) نفاق اللحمة الوطنية
٢) الأمن المستأجر

نفاق اللحمة الوطنية بدأت الحديث به قبل أربع سنوات تقريبا، وأطلق عليه صفة النفاق هنا لأن ما نراه ونسمعه ونحسه إنما هو لحمة وطنية ظاهرية مبنية على أسس خاطئة، وقد تحدثت عن نفاق اللحمة الوطنية بتدوينة صوتية ومقال بعنوان الصورة الكبيرة، وهو المقال الذي كون أساس كتابي الذي يحمل نفس العنوان.

والحديث عن مقال وكتاب الصورة الكبيرة يسحبنا لقاع مستنقع النفاق الذي نعوم فيه!

فعندما حاولت – كما فعل غيري – مناقشة الأساس الثقافي لمشاكلنا الحقيقية كالطائفية والفساد وثقافة العنف وغيرها من أمراضنا الثقافية… أُمِرت بالسكوت! فكما يعرف بعضكم تم منع كتابي من قبل إدارة الرقابة بوزارة الإعلام الكويتية بحجة “الإساءة للقبائل” التي وجهت لمقال الصورة الكبيرة بالذات، ولغيرها من الأسباب التي لم يفصح عنها إلى الآن، ولكم أن تقرأوا المقال وتحكموا إن كان فيه أي إساة… أم أنه يقدم علاجا للإساءات! الحقيقة هي أن الرقيب – وما يمثله هذا الرقيب – اختار أن يدس رأسه بالتراب عوضا عن مجابهة المشاكل.

A photo posted by Moayad H (@moayadcom) on

 

إحنا ما عندنا هالسوالف… إحنا بخير… إحنا أحسن من غيرنا…”…
إنت قاعد تثير الفتن… إنت قاعد تشوه صورة الكويت… إنت تسيء لمجتمعنا!

تلك هي الجمل التي يجابه بها كل من يحاول أن يكشف على عقلنا المريض، يُطرد الطبيب… يقيد… يكمم… ويترك المرض ليستشري، لأنه عيب ننكشف… واخزياه! فعوضا عن تشخيص المرض وعلاجه يتم وخز المريض بإبر المورفين المخدرة… لأن ذلك أريح له ولنا، ونحن شعوب تعشق الراحة ومغرمة بالبحث عن الأسهل. إبر المورفين تأتي بعدة أشكال، على شكل شعارات أحيانا، أو أغان، أو خطب أو مواعظ دينية. تجد روشتة المورفين موصوفة بدقة بمقال الصورة الكبيرة، وتراها حية وتسمعها وتقرأها يوميا بالقنوات الإعلامية المحلية… خاصة الرسمية منها. وهل هناك أجمل من ذلك المورفين الثقافي لمن يبغي العيش في وهم الأمان؟

اسمحولي على التشبيه الدامي التالي…

طريقة تعاطي مسؤولينا – ومن يتبعهم ويتأثر بهم – مع ما يحدث لوطننا يذكرني بهذا المشهد من فلم Saving Private Rayan، نرى في هذا المشهد الدرامي طبيب السرية وقد أصيب بطلق ناري في كبده، ومن حوله زملاؤه الحائرون عاجزون عن مساعدته 🔞:

(المشهد قد لا يصلح لأصحاب القلوب الضعيفة… ولا للجبناء الهاربين من مواجهة الواقع!)

 

لا أدعو هنا لليأس والاستسلام! بل بالعكس… أدعو لمجابهة المرض وعلاج الجرح… وإعادة حقن المورفين إلى مخازنها! أدعو للصحوة من الأوهام، لكشف الحقائق، لإعطاء الطبيب فرصة للعلاج… الطبيب الحقيقي المتخصص وليس الدجال والمشعوذ… أو الملّا! بل وأطلب أن يعطى ذلك الطبيب الحرية والأمان ليمارس تطبيبه… فلا يمكن للطبيب أن يعالج والقيود تكبل يديه والسيف مسلط على رقبته! وأطلب أن يترك المريض الحياء عنه وينكشف… ليس هذا وقت “الكسوف“! … ثم يبدأ العلاج.