مؤتمر جلاسجو (الجزء الثاني): بين اسطنبول و موسكو و بيروت

خلال اليومين التاليين من أيام المؤتمر قمت بحضور مناقشات العديد من الأوراق العلمية تتعلق غالبيتها بموضوع النظرة الجديدة للفن الشرق أوسطي ، منظمة هذه المناقشات هي كريستين ريدينج منظمة المعارض في متحف التيت في لندن ، تهدف هذه الأوراق إلى تركيز الضوء على مفهوم جديد للفن الشرقي.

تاريخيا و حتى آواخر السبعينات من القرن العشرين كان ينظر لفن الشرق بمنظور تقليدي أسسه الكتاب و الفنانين المستشرقين الذي أظهروا المنطقة على أنها منطقة بسيطة و متأخرة حضاريا إلا أنها تملك سحرا شرقيا خاصا مرتبطا بمواضيع السلاطين و الخيام و الحريم و ليالي ألف ليلة و ليلة ، و لكن في عام 1978 كتب إدوارد سعيد كتابه الشهير “الاستشراق” و نبه فيه الأدب و الفن الغربي على أن هناك سوء في الفهم و أخطاء منهجية يعاني منها الباحثون في أمور منطقة الشرق الأوسط.

أولى الأوراق العلمية كانت بعنوان المجموعة البحر أوسطية: كنوز الفن العربي في منزل هنري فرعون قدمتها مي فرحات من الجامعة الأمريكية في بيروت ، خلال الربع الأول من القرن العشرين قام رجل السياسة اللبناني هنري فرعون ببناء بيته على الطراز العربي/الإسلامي التقليدي و بدأ بجمع ما استطاع من التحف و الآثار المتعلقة بالتاريخ اللبناني و تاريخ المنطقة بشكل عام ، تراوحت المجموعة ما بين الآثار العربية و الإسلامية و الفينيقية و التي جمعت من لبنان و سوريا و فلسطين و قبرص و غيرها من مناطق البحر الأبيض المتوسط.

تحدثت فرحات عن مفهوم البحر أوسطية و أن فكرة فرعون كانت أن المنطقة اللبنانية تتميز بتاريخ مشرك بين أعراق و حضارات مختلفة عاشت و تعيش في هذه المنطقة ، كان فرعون من خلال مجموعته هذه يهدف لأن يجمع بين الأعراق المختلفة من خلال التعدد العرقي لمجموعته و التعدد الرمزي للعناصر المعمارية الموجودة في المنزل ، فتم استخدام النقوش الإسلامية بجانب المسيحية بجانب الفينيقية و ذلك للدلالة على التآلف و العيش المشترك خاصة في تلك الفترة الحرجة من تاريخ لبنان بعد إعلان مفهوم لبنان الكبير و ظهور دعوات الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.

———–

ثاني الأوراق كانت بعنوان بين أوربا و آسيا: لوحات محطة قطار مدينة كازان في موسكو ١٩١٣-١٩١٦ و قدمتها إنيسا كوتينيكوفا من متحف جورنينجر في موسكو ، تتناول الورقة العلمية موضوع اللوحات و الجدارايات المعروضة في محطة قطار كازان و التي تمثل حلقة الوصل بين أوربا و آسيا الوسطى ، تلك اللوحات و الجداريات أتت متأثرة بحياة القرى و الأرياف التركمانستانية و بساطتها ممزوجة بالتراث و الأدب الروسي خاصة مع ارتباط فناني و أدباء الاستشراق الروس بالشرق الذي وجدوا فيه السحر الذي افتقدوه بالثقافة الأوربية.

جدير بالذكر أن فكرة الاستشراق الروسية تنظر للشرق على أنه منطقة آسيا الوسطى ، على خلاف النظرة الغربية للشرق على أنه منطقة الشرق الأوسط.

بالحديث عن الاختلاف الثقافي الجغرافي لمفهوم الشرق فإن فندا بيركسوي من جامعة اسطنبول التقنية ذكرت في ورقتها أنه بالثقافة التركية العثمانية يعتبر الشرق هو الجانب العربي و “البدوي” على وجه التحديد ، و ذلك يعطينا انطباعا بأن فكرة “الآخر” التي تحدث عنها إدوارد سعيد يمكن النظر إليها بشكل نسبي ، فالمجتمعات و الثقافات المختلفة لديها “شرقها” الخاص بها و الذي تعتبره أكثر بساطة منها و أقل تقدما.

تحدثت بيركسوي عن مفهوم “الاستشراق الداخلي” و عن نظرة المجتمع التركي “المتغرب” للتقاليد العثمانية و المناطق “النامية” (كما كان يطلق عليها) التي ظلت متعلقة بها على أنها “آخر” لا ينتمي لأفكارها “التقدمية” و ذلك خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى و في العشرينات و الثلاثينيات من القرن العشرين على وجه التحديد ، كتطبيق على ذلك تحدثت بيركسوي عن النظرة الاستشراقية في لوحة “ميدان تقسيم” للفنان التركي نظمي ضياء و التي قدمها في معرض الثورة في عام ١٩٣٥ ، يوضح هذا العمل التغير بصورة المرأة التركية على وجه التحديد و انتقالها من “الحريمية” إلى شكلها الغربي “المتقدم”.

-‫—–‬

و في موضوع مرتبط تحدثت مارتينا بيكر من جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة عن فترة إصلاح نظام التعليم التركي خلال السنين الأولى للنظام الجمهوري التركي و عن تأسيس أكاديمية الفنون الجميلة في اسطنبول في ١٩٣٢ ، و ذكرت أن سياسة الحكومة التركية كان لها تأثيرا مباشرا على نهج هذه الكلية و نظامها و مناهجها التي أعدت لإخراج نوعية معينة من الفنانين و الحرفيين ، و هذه السياسة مع مرور الوقت كانت لها نتائج سلبية تمثلت في تبرؤ بعض الفنانين الأتراك منها و من سياستها.

——-

في الجزء القادم سنتحدث عن كل من الطراز المعماري في دبي و نظرة جديدة لفن اللاندسكيب اللبناني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *