الاستنساخ الفني

Barack_Obama_Hope_poster الأمل

أغلبنا يعرف البوستر في أعلى هذا الموضوع، إنه بوستر “الأمل” (Hope) الذي انتشر أيام الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠٠٨ والتي تظهر فيه صورة الرئيس الأمريكي باراك أوباما (المرشح في حينها) بالألوان البوسترية المبسطة، مصمم البوستر هو شيبارد فايري وقد بنى تصميمه هذا مستعينا بإحدى صور التي حصل عليها – أغلب الظن – من الإنترنت… وهنا مكمن المشكلة، الصورة الأصلية التي استعان بها شيبارد نشرت بواسطة شبكة الأسوشيياتِد برِس الإخبارية قبل عامين من ظهور التصميم، شيبارد طبعا ظن بالبداية بأن مشروعه البسيط يدخل في إطار ما يسمى بالاستخدام العادل للعمل الفوتوغرافي (fair use) وبالتالي فإنه لا مشاكل قانونية ممكن أن تطاله، لكن هذا الكلام ما مشى على الأسوشييتد برس التي أعلنت عام ٢٠٠٩ عزمها على مقاضاته بدعوى انتهاك حقوق للملكية الفكرية، بعد مباحثات بين الطرفين تم الاتفاق على حل الإشكال خارج المحكمة دون الإفصاح عن تفاصيل هذا الإتفاق… لكن من الواضح أنه اتفاق يرضي الجميع ويستفيد منه الطرفين.


ربما تظن بأن الأسوشييتد برس هنا تصرفت بطمع وأنانية، ولكن في نفس يجب عدم إنكار حق مصورها الأدبي والذي تعب في التقاط هذه الصورة… وإن كانت من الممكن أن تكون قد ضاعت في طي الزمن لولا تصميم شيبارد، العشرات من مصورينا الهواة اشتكوا من سوء استغلال بعض الصحف أو الوكالات الإعلانية لصور كانوا قد عرضوها على هذا الموقع أو ذاك، وتلك صور لهواة لا يسعون لربح مادي من صورهم… فما بالك بهيئة إعلامية تكسب رزقها من وراء تلك الصور التي تبيعها لمن يطلبها؟

Jiri Kolar, Smiling landscape
Jiri Kolar, Smiling Landscape, 1967
الحد الأخلاقيعلينا من ناحية أخرى أن نقر بأن المساحة الأخلاقية لاستغلال أعمال الآخرين بغرض التعبير الفني لا يمكن قياسها بالمسطرة، فالتعبير الفني المعاصر بالذات يرفض مبدأ احتكار الأفكار، وكما أوضحت في موضوع تحت النار فإن مفكرين مثل رولاند بارت أعتبروا ما يمكن أن يطرح على أنه “إبداع” إنما هو بالحقيقة عملية إعادة تدوير لعناصر ثقافية موجودة بالفعل لم “يصنعها” الفنان أو المؤلف من عدم! إن فنانا مثل جيري كولار عندما أنتج عملا مثل “اللاندسكيب المبتسم” لم يحاسب على كونه استغل رسومات غيره في إنتاج عمله… بل نوقش عمله على أنه تحد لفكرة تاريخ الفن ذاتها لدمجه نسخة من عمل فني “معتبر” لليوناردو دافنشي مع لاندسكيب “أي كلام”.. وكأنه يقول بأن كلا العملين عبارة عن ألوان على قماش، فلماذا نعامل الأول بأهمية أكبر من الثاني؟ فنسخ رسوم الأخرين هنا يمكن اعتباره يمثل “فكرة” العمل ذاتها… وليس استغلالا تجاريا لتلك الرسوم، إضافة لكون العملين المنسوخين قديمين جدا ولا يقعان ضمن الأعمال المحمية بقوانين حقوق الملكية الفكرية.

العلاقة بين الفن والتجارة تعتبر اليوم علاقة معقدة جدا، فالخط الفاصل بين حقوق المؤلف وحريته بالتعبير دقيق جدا ومرن في بعض الأحيان، فإن نظرنا لفنان مثل شيبيرد فايري سنجد العديد من المصادر تصنفه على أنه “فنان شارع” (Street Artist).. وإن كنت لا أميل إلى استخدام هذه الترجمة الحرفية للمصطلح، وفن الشارع يتميز بأنه محاولة لتخطي المؤسسات الفنية التقليدية كالمعارض والصحف والأسواق والرعاة والنقاد ويهدف لتقديم الفن للجمهور مباشرة مستغلا “الشارع” كساحة مفتوحة للتعبير، أعمال فايري مثل ستيكر “أوباي” والذي يظهر فيه تصميم لوجه نجم المصارعة الشهير أندري ذا جاينت كانت منتشرة في مختلف أرجاء الولايات المتحدة (وربما العالم) دون مشاكل تذكر، بل إن فايري نفسه هو من انتُقد لتلويحه بمقاضاة فنان استغل تصميمه كجزأ من ستيكرات قام ببيعها عن طريق موقعه الشخصي.

من القضايا التي ظهرت مؤخرا والتي زادت الأمر تعقيدا هي عرض مالك أحد الأبنية في لندن جزء من مبناه يحتوي على جرافيتي للفنان الشهير بانسكي، بمعنى آخر فإن جزأ من المبنى تم اقتلاعه ونقله لميامي في أمريكا ليعرض للبيع بما يتوقع أن يصل إلى ٧٠٠ ألف دولار… ستدخل في جيب مالك المبنى وليس الفنان! بالطبع فإن بانسكي “مو قاصره فلوس”… فأعماله “التقليدية” اقتربت أسعارها من المليوني دولار.

مما سبق يمكننا أن نلخص “النسخ” الفني بأنه من الممكن أن يتجاوز عنه في حالتين، إن كان يقصد بالنسخ الخروج بتعبير فني راق ذا فكرة “محترمة”، وإن كان النسخ لا يقصد منه التكسب التجاري أصلا (fair use)، ورغم أن النسخ في كلا الحالتين قد يكون مباحا “قانونيا” إلا أن نظرتنا له على أنه “فن” ففيها كلام كثير.

نحن والاستنساخ

إن كنت سأستحضر أمثلة على عمليات النسخ الفني من واقع ساحتنا الفنية العربية فقد يجرح كلامي مشاعر البعض! ولكني بالنهاية أحاول تقديم نقد فني علمي لا مجال فيه للطرح العاطفي… وأرجوا أن يتسع صدر فنانينا الأعزاء له.

من منا لا يذكر مسلسل “قطعة ١٣” الكارتوني؟ لا أظن بأن أحدا ما لم يدرك بأن أسلوب الرسم والتحريك في المسلسل يعتبر استنساخا شبه حرفي لمسلسل ساوث بارك الأمريكي، هل توقف الأمر عند هذا الحد؟ لا، أذكر بأنه نشر بالصحف بعد النجاح الشعبي للمسلسل بأن مخرج العمل حذر بعض التجار من جلب دمى والملابس التي تمثل شخصيات “مسلسله”! فلا بأس بأن يقلد هو أعمال غيره (بعد إلباسها الثياب الكويتية) ولكن أن يقلد البعض أعماله فلا!

إن كان مسلسل قطعة ١٣ يعتبر عملا إعلاميا أكثر من كونه عمل فني فقد لاحظت خلال السنوات القليلة الماضية انتشار موجة من الأعمال “الفنية” الكويتية التي تتبع نفس المنهج الاستنساخي، دون الدخول بالتفاصيل ودون ذكر الأسماء… كم شاهدنا من “تصاميم” شبابية تلعب على وتر النوستالجيا البصرية مستغلة صور فنانين أو شخصيات معروفة أو منتجات وعلامات تجارية قديمة.. أو حتى معاصرة؟ تعمدت التركيز هنا على لفظة “تصاميم” لأن ما شاهدته على الساحة يصعب تصنيفه على أنه أعمال “فنية”، فرغم أن بعض هذه الأعمال المستنسخة أو شبه المستنسخة تقدم على شكل بوسترات مطبوعة طباعة فاخرة إلا أن محتواها يميل إلى كونه تجاريا أكثر منه فنيا (يمكن تشبيهه بالإطارات التي تبيعها محلات الأثاث).

بعض هذه الأعمال تعرض على شكل تصاميم عملية مطبوعة على ملابس أو قطع أثاث مثلا، فهي على الأقل قد حددت قدر نفسها بكونها تصاميم أزياء وأثاث… لا أعمال فنية… وهذه بداية المطاف، من ناحية أخرى إن نظرنا لها من ناحية قانونية سنجد بأن الكثير منها يعتمد على صورا إما منشورة في مجلة قديمة أو مأخوذة من الإنترنت ليتم التحريف فيها وإعادة نشرها دون استاذان من أصحابها الأصليين ولا حتى الإشارة لهم، بل وحتى إن نظرنا لها من ناحية “إبداعية” فإننا سنجد بأن غالبيتها عبارة عن تعديلات رقمية بسيطة على الصور كتغيير الألوان أو تبسيط الخطوط أو إضافة عناصر عليها أو كتابات تجاهد لأن تكون “ذكية” أو طريفة.

المتابع الجيد لمقالاتي السابقة سيلاحظ تركيزي المستمر على فكرة الإبداع، فأنا أرى انعدام الإبداع لدى معشر الفنانين والمصممين من شبابنا من أخر المؤشرات على تدني المستوى الثقافي لهذا الشعب، فإن كان الفنان أو الفنانة أو المصمم أو المصممة – وهم من يفترض بأن يكونوا النخبة الثقافية الشبابية – لا يملكون مكونات الحس الإبداعي فكيف يمكننا أن نتوقع إبداعا من قادتنا وسياسيينا “الشياب“؟ وكيف لنا أن نتفاءل بمستقبل “مبدع” إن كان الفنانون الشباب ضحوا بالإبداع في سبيل التكسب التجاري السريع على حساب عقل ومشاعر المستهلك؟ إن كنت سأحيي هؤلاء الشباب على شيء فإنما أحييهم على إبداعهم التسويقي الذي أتاح لهم تكوين علاقات مع الإعلام الاجتماعي والتقليدي.. ولكنه إبداع يصب في المجرى الساعي إلى تضخيم العقلية الاستهلاكية المتضخمة في وجدان هذا الشعب المسكين! نسأل الله أن يعيننا على تفشيش ذلك التضخم قبل أن يزداد الأمر سوءا.

——————–
جريدة الفنون
نشر هذا المقال بعدد شهر إبريل من جريدة الفنون الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، وأعيد نشر المقال هنا مع بعض التعديلات.

تعليقان (2) على “الاستنساخ الفني”

  1. مقال جميل شكرا لك

    أظن و لست متأكد بأن قطعة 13 أخذ موافقة من ساوث بارك .. طبعاً لا أملك أي دليل و هو مجرد ظن

    يقول دكتور طارق السويدان أن تغيير 30% من الفكرة يكفي لكي تنسبها لك. لا أؤيده لكنها وجهة نظر مطروحة

    كنت أتمنى لو زودت مقالتك بأمثلة أكثر .. أظن أشهر الأمثلة هي المسرحيات التي تعرض أيام الأعياد, فسرقة حقوق الشخصيالت الكرتونية العالمية ظاهرة تتكرر مع كل عيد

  2. عادة عندما تتم إعادة إنتاج برنامج ما فإنه يذكر في تتر ختام البرنامج بأن هذا البرنامج تم إنتاجه بالتعاون مع الشركة أو الشبكة الفلانية، جميع البرامج المعربة المحترمة تقوم بذلك… بما في ذلك افتح يا سمسم 🙂

    ما أعتقد بأنه يمكن قياس نسبة التغيير بالفكرة، القياس صعب وتحديد نسبة معينة للتغيير المقبول أمر أصعب

    بالنهاية أنا ما كنت أقصد إني أهاجم عملية سرقة الأفكار أو انتهاك الحقوق الفكرية لأن هذا كلام يفصل فيه المختصون بالقانون بشكل أفضل مني، لكني أتحدث عن مسألة الضعف الإبداعي التي تؤدي بالفنان أو المؤلف لكي يبالغ بالاستنساخ من الأفكار السابقة دون أن يضيف شيئا قيما عليها، يعني بالنهاية حتى لو اقتبست من أعمال الآخرين (بشكل قانوني أم لا) فهذا الاقتباس يفترض أن يكون مبررا… وليس ملأَ لفراغ فكري… تحت أي عذر كان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *